رغم أن جوليان أسانغ لم يحظ بعد بالشهرة على الصعيد العالمي، ولم يرتقِ إلى مصاف «النجوم» الذين يصنعون الأحداث إعلاميا، فإنه إعلامي تَصدَّر واجهة الأحداث في أمريكا في هذا الصيف، بسبب إقدامه على نشر وثائق عسكرية أمريكية غاية في السرية على موقعه على شبكة الأنترنت «ويكيليكس». واستطاع هذا الصحافي الأسترالي كذلك أن يفرض نفسه، بقوة، في عالم الأنترنت ومجال النضال من أجل ترسخ ثقافة حقوق الإنسان واحترامها. وتُوِّجت مجهوداته في هذين الميدانين بحصوله على جائزة الإعلام، التي يمنحها فرع منظمة العفو الدولية في المملكة المتحدة، قبل وقت وجيز من إعلانه فائزا بجائزة جمعية «سام-أدامس»، وهي جمعية تتكون أساسا من قدماء ضباط وكالة الاستخبارات الأمريكية، والتي قدمت أسانغ في بيان لها على أنه «مهنيُّ معلومات يناضل من أجل أخلاقيات مهنته». وثمة أنباء عن رغبة البرلمان الأوربي في توجيه الدعوة إليه لتنشيط ندوة ستُعقد في بروكسيل حول الرقابة. نجح أسانغ، مدعوما بسيرته في الدفاع عن حقوق الإنسان، في إقناع عدد غير معلوم، لكنه في تزايد مستمر، من موظفي كبار الإدارات والشركات الأمريكية، بجدوى نشر ما تقع عليه أيديهم من وثائقَ سريةٍ تفضح تجاوزات مدرائهم، دونما خوف من أن تُكشَف هوياتهم أو يتعرضوا لمتابعات قضائية. فالسرية عنصر حاسم في حماية مصادر أسانغ وتوسيع شبكتها، خصوصا وأنه توصل، في ظرف قياسي، بعشرات الآلاف من الوثائق السرية التي تفضح الأخطاء المهنية والتجاوزاتِ الأخلاقيةَ لكثير من المسؤولين في أمريكا وخارجها. فقد أماط «ويكيليكس» اللثام في ظرف ثلاث سنوات فقط عن وثائق فضحت عشرات الشخصيات المرتشية أو الفاسدة التي لم يكن أحد يستطيع مواجهتها، وفي اللائحة رؤساء أفارقة، بنكيون سويسريون، رؤساء طوائف دينية في الولاياتالمتحدةالأمريكية، شرطيون بريطانيون ورجال أعمال أوربيون وبيروفيون. يتلقى «ويكيليكس» كذلك وثائق من العسكريين الأمريكيين الذين «يناهضون» الحرب على الإرهاب»، وإنْ شاركوا فيها. وقد نشر الموقع في 5 أبريل شريط فيديو، صور في سنة 2007، يُظهِر جنودا أمريكيين يطلقون النار، من مروحة «أباتشي»، على قرابة عشرة مدنيين عُزَّل. وتسبب نشر هذا الفيديو في اندلاع سجال حاد بين مؤيدي الحرب على العراق ومعارضيها أجبر أسانغ على الموافقة، بعد طول تردد وتحفظ، على منح استجوابات صحافية لعدد من وسائل الإعلام الأمريكية، فاكتشف الرأي العام، لأول مرة، تفاصيلَ من حياة هذا الصحافي الأسترالي الذي بدأ رحلة تعليم عصامي من بلده الأم وعرَّج على كثير من العواصم العالمية، كأمستردام الهولندية ولندن الإنجليزية ونيروبي الكينية وستوكهولم السويدية، قبل أن يحط الرحال بمدينة سان فرانسيسكو في أمريكا، ولا مؤشرات عن نهاية هذه الرحلة «العابرة للقارات». قلما نجح مستوِجبوه في إثارة أعصابه أو انتزاع تصريحات تصلح عناوينَ جاذبة للقراء، لأن أسانغ، المناضل الحقوقي، ينتصر في كل الحوار على أسانغ الصحافي، فيورط محاوريه في نقاش طويل عن الأسس التاريخية والفلسفية لحرية التعبير، إلى درجة أن أحد حواراته كان يُنتظر أن يدوم نصف ساعة فقط، فإذا به تستمر 5 ساعات... ومع توالي حواراته الصحافية، لاحظت وسائل الإعلام الأمريكية أنه يتعامل معها بشكل خاص، خصوصا وأنه لا يتردد في الاتهام ب»التساهل مع النخب» والتعبير عن أسفه لعدم إقدام الصحافيين الفرنسيين على إنجاز تحقيقات حول «الصديق الجديد» لسيغولين روايال، المرشحة السابقة لرئاسة الجمهورية الفرنسية. يجيب أسانغ، بدبلوماسية بارعة، عن الأسئلة المتعلقة بقناعاته السياسية ويرد على سؤال حول ما إذا كان يساريا أو متعاطفا مع اليسار قائلا: «اليسار، مثل اليمين، لا توجد بينهما فروق كبيرة، وقد تعاونت مع منظمات يسارية واشتغلت مع جرائدَ محافظةٍ وتعاملت مع الأثرياء أصحاب الملايير». لكن ما مهنة أسانغ هذا تحديدا؟ أهو صحافي فقط أم يمارس مِهناً أخرى؟ كعادته، يجيب أسانغ، بكلمات منتقاة بعناية، جوابا طويلا ولكنه دقيق: «أنا مناضل حقوقي، صحافي، مبرمج برامج معلومياتية، خبير في التشفير، متخصص في الأنظمة المعلومياتية المبتكَرة لحماية المدافعين عن حقوق الإنسان»... كانت بداياته الأولى من مسقط رأسه في أستراليا، وعاش حياة ملؤها الترحال من بلد إلى آخر. ولأن أمه كانت بوهيمية لا تتوقف أسفارها، فإنه حُرم من التعليم النظامي واضطر إلى تعليم نفسه بنفسه. ولما استقر في مراهقته في مدينة ملبورن الأسترالية، اكتشف، لأول مرة، وهو العصامي شبه الأمي، الأنظمة المعلوماتية وأصبح في ظرف وجيز من «القراصنة» البارعين.. شكل، بمعية أصدقائه، خلية تخصصت في قرصنة مواقع وقواعد بيانات المواقع الرسمية الأسترالية والأمريكية والأوربية.. مكّنت كثرة العمليات التي نفّذها أسانغ وأصدقاؤه وتقاربها في الزمن أجهزة الأمن من تحديد مكان الخلية، ونصبت لها مكينا أوقع أعضاءها في قبضة العدالة. وبعد سنوات من جلسات المحاكمة، صدر في حق أسانغ حكم بالحبس موقوف التنفيذ وغرامة مالية. كان لهذه التجربة بالغ الأثر في حياة أسانغ، إذ قرر الشروع في دراسة الرياضيات والفيزياء، لكنه سرعان ما عاد إلى هوايته في المعلوميات، ليصبح تقني برمجيات مشهودا له بالإتقان والإبداع. وفي سنة 1993، أسس شركة سماها «سوبوربيا»، متخصصة في الولوج الجماعي إلى شبكة الأنترنت، والتي حققت نجاحا كبيرا واستطاعت أن تفرض نفسها كأحد أبرز المدافعين عن حرية التعبير في الشبكة العنكبوتية. ورغم هذا النجاح، حنّ أسانغ لزمن الترحال، فسافر إلى أوربا، ثم توجه نحو القارة الأسيوية، وشكل لدجى لقائه بكثير من مواطني بعض الدول التي تحكمها أنظمة دكتاتورية ونما لديه اقتناع بأهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه المقرصن المناضل. وإذا كانت شبكة الأنترنت تتيح، تقنيا، إمكانية نشر كم هائل من المعلومات بأقل مجهود، فإنها ذلك يعني بالنسبة إلى أسانغ «أن الأنترنت فضاء واسع للمطالبة بإقرار إصلاحات حيوية، بأقل مجهود». قرر أسانغ أن يحول هذه الفكرة إلى واقع واستثمر كل أمواله، التي جناها بعمله معلوماتيا، في موقع إلكتروني أطلق عليه اسم «ويكيليكس». توارى عن الأنظار وانكب على العمل ليل نهار على تصميم موقع مشفَّر وذي حماية كبيرة كفيل بصيانة بنوك المعطيات وضمان سرية المصادر. وبعد ذلك بوقت وجيز، تطوع عشرات المعلوماتيين والصحافيين ورجال القانون، من أوربا وأمريكا، لمساعدته على التنفيذ الأمثل لهذا المشروع. وبعد شهور عديدة من العمل المضني، صار الموقع، أخيرا، جاهزا للشروع في العمل، لكنه لم يلفت إليه الانتباه على نحو كبير إلا في أبريل الماضي، حينما أعلن أسانغ نفسُه عن عزمه على نشر وثائق عسكرية أمريكية «سرية للغاية» عن الحرب في العراق، تمهيدا لوثائق أخرى عن الحرب في أفغانستان، وهو ما مكّنه من تصدُّر الصفحات الأولى للصحف الأمريكية، قبل أن يعود إلى تصدرها في ماي الماضي، بعد إيقاف جندي وإيداعه السجن في ضواحي واشنطن، لاتهامه بتسريب شريط الفيديو سالف الذكر. ورغم أن البعض كان يتوقع أن يتأثر الموقع بحادث إيقاف ذلك الجندي، فإن أسانغ أقدم في ال23 من يوليوز الماضي على نشر 77 ألف وثيقة عسكرية سرية ترسم صورة قاتمة عن الجيش الأمريكي المقاتل في أفغانستان... شنّت الحكومة الأمريكية حملة دعائية ضد أسانغ، متهمة إياه بتعريض حياة جنودها والمتعاونين معهم من الأفغان للخطر. وجّه البيت الأبيض و»البنتاغون» تحذيرات مباشرة لأسانغ واعتبره سياسيون نافذون «مجرما» يجب أن يتم اقتياده بالقوة، إذا اقتضى الحال، إلى الولاياتالمتحدة، ليحاكَم بتهمة الخيانة العظمى. وكرد على هذه التهديدات، أعلن أسانغ أنه سيظل متواريا عن الأنظار، قدر الإمكان، خصوصا وأنه ألِف التنقل من مكان إلى آخر، وقلما طاب له المقام في مكان واحد مدة طويلة، وصار يكتفي منذ صار مطلوبا لدى صناع القرار في واشنطن يكتفي بمخاطبة أصدقائه، عبر المواقع الاجتماعية، سيما «تويتر»، ملتمسا تبرعات مالية لضمان استمرارية «ويكيليكس». واستمر في الضغط على المسؤولين الأمريكيين وبلغ هذا الضغط أوجَه بعد إعلانه في 12 غشت الماضي، عزمه على نشر 15 وثيقة جديدة، وصفها بالسرية للغاية، عن الحرب في أفغانستان، لكنه تأخر في نشرها، بدعوى أخذ ما يكفي من الوقت لحذف أسماء الأشخاص الذين يمكن أن تتعرض حياتهم للخطر، إذا تم الكشف عن هوياتهم الحقيقية، لتستمر بذلك لعبة شد الحبل بين هذا الصحافي الأسترالي والمسؤولين الأمريكيين وتنطبق على أسانغ صفة «الأسترالي الذي يُحرِج الولاياتالمتحدةالأمريكية»!...