توصلنا برسالة بتاريخ 31 غشت، من المخرج عبد المجيد شاكر يحكي فيها بحرقة عن ذكرياته مع الممثلة الراحلة عائشة مناف، ويرثي رحيلها، وهي الرسالة التي جاء فيها: عائشة احتراق الندى.. دمعات طفل تنساب تمردا.. انتصابُ ألمٍ يعشق التمدُّدا.. أنت البركان.. أنت العنفوان.. تشبُّثُ حياةٍ يأبى التردُّدا.. صبر وتجلُّد في المعاناة.. شجاعة وجرأة في المقاومة.. تلك هي عائشة التي كانت والتي آلت.. وبين اللحظة التي كانت والحالة التي آلت، رسمت شكلا لحياة لم تكن في الحسبان.. حياة طارئة بملامح لم تألفْها لكنها تآلفت معها، وجنّدت صبرها وشجاعتها سِلاحيْن لعيش هذه الحياة الطارئة.. حياة بين الألم العضوي والضجر النفسي.. بين نقص الدم وندرة فصيلة الدم ونضوب آخر قطرة دم.. حياة بين رائحة الأدوية والأفرشة والأغطية والسرير ومعابر المستشفى.. حياة بين ضجيج الصباح والدموع السرية (التي صارت علنية) للزوار وصمت الليل الذي يسلمها لهواجسَ تؤرق وحدتَها فتلوذ بكتاب الله والصلاة لله، في انتظار أن ينبلج الصبح وتُشرق شمس الله.. ثم يصير الألم السري معاناة علنية.. ويأتي صدى الحدث تعاطفا إنسانيا جماهيريا، بكل تلقائية.. مكالمات وزيارات ومساهمات، أكبر من حجم المعاناة.. تعاطف وتضامن أكثر من المتوقَّع من إنسان مغربي بسيط عشِقَ عائشة ذات دور في «الدّويبة» أو «كيد النسا» أو «حديدّانْ».. أو من مُتتبِّع مسرحي عشِقَ مناف وهي تتقمص «الست فدوى» أو «الملكة» أو «شمس» أو «براسكوفيا».. اعتقدنا أن التعاطف قد انحصر بين متفرج وَفِيٍّ للتلفزيون ومتتبع جادّ وعميق للحركة المسرحية، لكنْ سرعان ما انبرى التعاطف في أبهى تجلياته من مؤسسات أيضا.. رسمية وغير رسمية: وزارة الثقافة، النقابة المغربية لمحترفي المسرح، تعاضدية الفنانين، مؤسسة الفنون الحية، رؤساء مقاطعات وجماعات، فعاليات مسرحية: «اللواء»، «أبعاد»، «الحياة»... فعاليات المجتمع المدني، منابر إعلامية... كلٌّ حسب إمكاناته و«نيّته».. وفي «فيس بوك» أيضا: ما أكثر الصفحات التي فُتحت باسم عائشة، تضامنا وتداولا! .. ضمن هذا الخضم التضامني، تعالت أصوات التعاطف ومَنحت عائشة الإحساسَ بأنها ليست وحدها في مواجهة المرض «الخبيث».. تعالت أصوات التضامن أكثر حتى وصلت مسامع أعلى سلطة في البلاد، لتنزل الرعاية الملكية ثلجا على صدر عائشة وذويها، مانحة إياها -إيّانا أملاً في تجاوز عوائق العلاج.. وأعادت لها بسمةً عانقت من خلالها الحياة بنَهَم شديد، تشبثت بحظوظها كاملة في معانقة هذه الحياة، وبرمجت لحظات لمرحلة ما بعد العلاج، «تنتقم» فيها من الزمن الذي التهمه المرض الخبيث.. ثم، فجأة.. وعكس كل توقع.. وعكس كل ما رسمت في لحظات الصمت والسكينة من تصورات وتمثُّلات لحياتها القادمة.. ينتصر المرض الجبان الذي كان ينمو في الخفاء.. كان انتقامه عنيفا وقاسيا وشديدا قدْر جُبْنه.. إلا أن الله تعالى كان أشدَّ وأكرم، أخذها إلى جواره -رحمة بها- من ألم ومعاناة لم ينفع معهما ما كان في مخزونها من قوة وصبر وشجاعة.. وهكذا أسلمت عائشة الروح لخالقها، بعد تأوهات تحولت أنينا قبل أن تصمت إلى الأبد، بعينين نصف مفتوحتين.. هل لا بد من هذا الكلام؟.. أم إن الكلام عن الراحلين، مثل البكاء، خسارة؟.. وهل تختزل الكلمات ألم الفقد ولوعة البعاد؟.. كم يلزمني، إذن، من الحروف، حتى لا يكون الحديث عن الراحلة عائشة مناف خسارة؟.. وكم يلزم هذه الحروفَ من الاستثناء، كي تكون بلسما يداوي الفقد واللوعة؟ لا كلام ولا حروف تُشفي وتكفي لأقول: «عائشة كانت.. عائشة صارت.. لا كلام ولا حروف ترسم المسافة بين الكينونة والصيرورة، إلا الصمت وتجرُّع مرارة الحروف المهزومة العاجزة عن التعبير».. لذلك، لن أقول أكثر من أن عائشة مناف فنانةً وأختاً مساحة شاسعة لا تُعوّض حين تغيب.. مساحة للمحبة المطلقة والتواضع الجم والالتزام الفني النادر.. مساحة للصبر والتجلد والمعاناة.. ورغم ذلك، لا تفارقها ضحكة مجلجلة تسخر من حياة طالما تمسّكت بتلابيبها بعناد شديد.. مساحة أكبر من الكلام، لذلك ترك غيابها فراغا كبيرا، لكن الله أكبر.. فارقتْنا، رغما عنها وعنا، وهي تعلم أنها العزيزة، لكن الله أعز.. ولله ما أعطى وما أخذ.. هل غادرتنا فعلا؟.. أكيد أنها ستحيى بيننا أكثر.. ألا يُقال: «اللِّي ولد ما مات»؟.. لم تترك عائشة أولادا، لكنها خلّفت أعمالا فنية، طالما اعتبرتها، في حالات انتشائها، زينتها في الحياة الدنيا.. لذلك كانت صارمة مع نفسها في ما تُبدع، حريصة على تقديم ما هو محترم.. ولئن أحبَّ الناس ما رأوا منها على الشاشة، فإنهم حتما كانوا سيُذهَلون مما قدّمته فوق الخشبة.. للأسف، لم تُقدّمها الشاشة في كامل بهائها، وفي كامل قدراتها الفنية.. لم تأخذ فرصتها فيها كاملة.. وبالمقابل، كانت وحشا حقيقيا فوق الخشبة.. ولم تعبُرْ فوقها إلا وتركت أثرا مميزا وصدى كبيرا.. كم تَمَنّت أن يشاهد كل الناس صولاتها المسرحية فوق الخشبات المغربية أو خشبات «أريانة»و«حمام الشط» وتونس ومسقط ودمشق وحمص... كم تمنّت أن يشاركها الجمهور العريض انتشاءها وهي تتقمص فدوى في «يوم من زماننا» وملكة «بروتوكول» وشمس «كلام الليل» وبراسكوفيا «نيغاتيف».. لكنْ، للأسف، عاشت زمنا مسرحيا لا نصيب له في الانتشار أمام التلفزيون.. ومع ذلك، سيظل صدى من صفّق لها في مسامعها طويلا.. وسط هذا الصدى، أقول لك: «وداعا عائشة.. وداعا، وفي القلب شيء منك.. وداعا، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام»!..