تعيش تركيا على وقع العد التنازلي ليوم سوف يكون إعلانا لمرحلة جديدة في حياتها السياسية، ففي ال12 من شتنبر الحالي، سيقام الاستفتاء الشعبي للتصويت بالقبول أو الرفض لحزمة التعديلات الدستورية، التي نجح حزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في تمريرها في البرلمان التركي وتشمل 26 مادة، سيتم تعديلها بشكل يعزز الحقوق والحريات الأساسية الفردية والجماعية في البلاد، إلى جانب تعزيز دولة المؤسسات وحكم القانون وحيادية القضاء، الأمر الذي سيقرب تركيا أيضا من الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي. ومن يزور تركيا حاليا سيجد أن شوارعها مليئة باللافتات والإعلانات التي وضعها الحزب الحاكم وتلك التي تعود إلى أحزاب المعارضة حيث تواجه «لا» و«نعم» ضخمة كل من يجوب شوارع المدن التركية، كما أنها لا تخلو من البروباغندا التي يشنها الطرفان في صراع أشبه بالملاكمة، والمثير للانتباه هو وجود المجموعتين المتصارعتين في نفس المكان تحاولان إقناع المارة بوجهة نظرهما في مشهد يجسد تطور حريات التعبير نوعا ما في بلد أحكم الجيش قبضته عليه لفترة طويلة، ومازال يرفض أي حكم مدني من شأنه تقليل سيطرته على شؤون البلاد وإدارتها وفقا للذهنية العلمانية التي ترفض أي شيء له علاقة بالإسلام. دستور تركيا في العهد العثماني كانت السلطنة هي أساس النظام العثماني، فكان السلطان يتمتع بصلاحيات مطلقة، محكومة في الوقت نفسه بشكل منضبط بأحكام الدين الإسلامي بشكل عام. فقد كانت الدولة العثمانية آنذاك تستمد شرعيتها وقوة سلطانها على الشعوب التي تحكمها من دين الإسلام. و أمام تعاظم الدور الأوروبي السياسي والحضاري، وفي بعض مراحل ضعف السلطنة، انطلقت محاولات للتحديث كانت بدايتها حسب مؤرخين أتراك إلى عهد السلطان سليم الثالث، وامتدت مراحلها إلى عهد السلطان محمود الثاني، لكن هذه المحاولات لم تلامس جوهر النظام، ليبقى هاجس الإصلاح السياسي والقانوني، ولا سيما الدستوري منها، ملازما للدولة العثمانية. وكانت أول محاولة جادة في هذا الاتجاه، تلك التي قام بها وزير خارجية الدولة العثمانية رشيد باشا عام1839، لإدخال أحكام دستورية في نظام الدولة في عهد السلطان عبد المجيد الأول، لكنها هي الأخرى لم تلق النجاح. وفي عهد السلطان عبد العزيز، قام مدحت باشا -وكان وزيراً للعدل- باقتراح دستور على السلطان، فما كان من الأخير إلا أن أمر بعزله فوراً من الوزارة. وكان أول دستور رسمي للدولة العثمانية عام 1876، عندما عهد السلطان عبد الحميد الثاني إلى مدحت باشا الذي كان يتولى وقتها الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) بتأليف لجنة لإعداد دستور للبلاد، فأعدته اللجنة ونشرته تحت اسم «قانون أساس»، وكان واضعوه متأثرين بالدستور البلجيكي والروسي، وضم 12 قسما و119مادة، ونص على أن الإسلام هو دين الدولة، وعلى إنشاء مجلسين للنواب والشيوخ، وكلف مجلس النواب بوضع الميزانية، وأقام الحكم في الولايات على أساس اللامركزية. لكن وبعد 11 شهرا أوقف السلطان عبد الحميد العمل بهذا الدستور، واستمر هذا التوقيف 30 عاما، قبل أن يصدر السلطان عبد الحميد الثاني مجددا قرارا عام 1908، بإعادة العمل به. وفي عام 1922 وبعد سقوط الخلافة العثمانية، اختارت تركيا دستورا مدنيا مستوحى من الدستور السويسري بدلا من الدستور العثماني. وبعد انتخاب مصطفى كمال أتاتورك رئيسا للجمهورية التي أعلنت في عام 1923، وإعلان إلغاء نظام الخلافة وفصل الدين عن الدولة، بدأت البلاد تعرف تحولا جذريا في الحياة السياسية وفي الدستور. دستور الجمهورية التركية كانت التعديلات الدستورية التي تلت قيام الجمهورية التركية، تهدف إلى الانعتاق من مؤثرات المرحلة العثمانية، وتكريس النظام العلماني، ابتداء من دستور عام 1924، الذي كرس حكم الحزب الواحد لمدة عقدين من الزمن، حكم فيهما حزب أتاتورك وهو«حزب الشعب الجمهوري»، إلى أن تم تأسيس الحزب الديمقراطي، الذي حكم مرات متتالية، قبل أن يطاح به بانقلاب عسكري عام1961، ويحكم على رئيس الجمهورية آنذاك جلال بايار، ورئيس حكومته عدنان مندريس، ورئيس المجلس النيابي فريق كولتان بالإعدام، بتهمة أسلمة الدولة وتهديد مبادئ أتاتورك ونظامه اللاديني. وترجع جذور الدستور التركي المعمول به حاليا، إلى عام1982، الحكم العسكري الذي تولى السلطة بعد انقلاب عسكري عام1980 وقد تم قبول هذا الدستور بنسبة كبيرة، حيث لم يكن الاعتراض عليه واردا بأي شكل، فكان الناس مجبرين على التصويت بالإيجاب. ورغم أن هذا الدستور فتح المجال أمام التعددية الحزبية وأطلق حرية التعبير، إلا أن الاتهامات القائمة على أساس الإساءة للمبادئ الكمالية والنظام العلماني لا يزال جاري العمل بها، ولها سند في الدستور التركي. فتأكيدا للاتجاه العلماني، تنعت مقدمة الدستور مصطفى كمال أتاتورك بالبطل الخالد، الذي أخرج البلاد من نظام الخلافة إلى نظام الجمهورية، وتقرر المادة الثانية من الجزء الأول من الدستور بموضوع أن تركيا جمهورية علمانية تدين بالولاء للقومية الأتاتوركية. وعلى هذا الأساس تم حل العديد من الأحزاب التي لم تساير هذا البند مثل حزب الرفاه بقيادة رئيسه نجم الدين أربكان الذي منع من العمل السياسي لمدة خمس سنوات، ومن بعده حزب الفضيلة الذي انتهى به الأمر مقسماً إلى حزبين : حزب السعادة، وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الطيب أردوغان. وإمعانا في سياسة التتريك، يقر الدستور وحدة الأمة التركية وأن التركية هي لغة البلاد، متجاهلا اللغات والأعراق الأخرى التي تتمتع بالعراقة والقدم في البلاد ولا سيما اللغة الكردية التي يحظر الدستور استخدامها رسميا. إلا أن البرلمان التركي، وفي محاولة للاقتراب من المعايير الأوروبية، أقر عام 2002، مشروعا يسمح ببث البرامج بمختلف اللغات واللهجات التي يتداولها المواطنون الأتراك في حياتهم اليومية، كما أقر في تصويت أولي مشروع قانون التعليم باللغة الكردية في المدارس الخاصة. أهم المؤسسات الدستورية في تركيا المحكمة الدستورية : حامية الدستور العلماني ظهرت هذه المحكمة عام1961، وأعيد تشكيلها عام1982. وقد وضعت للتأكد من عدم مخالفة القوانين التي تسنها الحكومة لمواد الدستور، وتعد الهيئة القضائية الأعلى في البلاد، وتحظى بأهمية خاصة، فأحكامها لها تأثير بالغ في الحياة السياسية التركية، فقد كانت هذه المحكمة هي التي أقصت حزب الرفاه ومن بعده حزب الفضيلة. كما كانت هذه المؤسسة هي العائق الذي وقف أمام تطبيق العديد من بنود وقرارات حكومة العدالة والتنمية، خاصة في ما يتعلق بارتداء الحجاب في المؤسسات التعليمية وغيرها. وتتألف هذه المحكمة من 11 عضوا منتظماً وأربعة أعضاء غير منتظمين يختارهم رئيس الجمهورية من الجهاز القضائي المدني والعسكري التركي، وتعتبر أحكامها نهائية. ثمة قناعة لدى حزب العدالة والتنمية بأن المحكمة الدستورية باتت الخصم والحكم معا بعدما تحولت إلى أهم قلعة من قلاع المعارضة العلمانية، فأردوغان نفسه قال إنها تحولت إلى محكمة للمعارضة، وأصبحت تنفذ أوامرها. مجلس الأمن القومي نصبت المؤسسة العسكرية نفسها للدفاع عن المبادئ العلمانية منذ عهد كمال أتاتورك وحتى يومنا هذا، وتعتبر هذه أكثر النقاط المثيرة للجدل في الدستور التركي. حيث لم تتورع المؤسسة العسكرية عن التدخل بشكل غير مباشر في ممارسة الضغوط على المؤسسات المدنية، وبشكل مباشر عبر الانقلابات العسكرية، وسمحت لنفسها بأخذ دور رقابي وتنفيذي في الحياة السياسية عبر مجلس الأمن القومي التركي، الذي أنشىء ليكون قناة قانونية لإعطاء الجيش صلاحية التدخل في الشأن السياسي. ويتألف هذا المجلس من رئيس الأركان والقادة الأربعة : الجيش، البحرية، الجوية وقائد الجندرما، إلى جانب رئيس الوزراء، وزير الدفاع، وزير الخارجية ووزير الداخلية. ينعقد المجلس برئاسة رئيس الجمهورية الذي يعد برنامج الاجتماع ويأخذ بعين الاعتبار اقتراحات رئيس الوزراء ورئيس الأركان. ويسمح الدستور بدعوة الوزراء أو غيرهم إلى الاجتماع لسماع آرائهم إذا اقتضت الضرورة ذلك. ووظيفة المجلس أن يقدم قراراته لمجلس الوزراء، الذي يعطي أولوية من المفترض أنها تتعلق بأمن ووحدة تركيا وسلامة أراضيها في هذه القرارات. ولا ينكر أحد من الأطراف السياسية كون هذا المجلس أشبه بحكومة ظل، وإن اختلفوا في توصيفه. فالساسة الأتراك يدركون تماما أن المجلس بصيغته الحالية، يشكل عائقا أمام انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي، وهذا ما أعلنه هذا الأخير بشكل صريح عام2000، كما أن بعض الأطراف الداخلية والخارجية تتهم الجيش التركي بأنه لا يريد أن تنضم تركيا للإتحاد الأوروبي لكي لا يخسر نفوذه السياسي. والواقع أن أهم المبررات التي تتذرع بها المؤسسة العسكرية التركية هي الحفاظ على العلمانية وإثارة الخوف من يقظة التاريخ الإسلامي التركي للإمبراطورية العثمانية. حزمة التغييرات وجوهرها لم يتورع القاضي سامي سلجوق عن الدعوة إلى تعديل مواد الدستور، بل دعا لإلغاء دستور عام1982، ووصفه بأنه لا يعدو أن يكون تقريرا مكتوبا من قبل الشرطة لتعذيب المواطنين. والواقع أنه ورغم التعديلات الذي أجريت على هذا الدستور والتي كانت عبارة عن محاولات لموافقة المعايير الأوروبية لكن ذهنية الجيش والعلمانية مازلت المعالم الرئيسية التي تميزه، كما أنه مازال يحمل روح الانقلاب في طياته بشكل قوي. والتعديلات التي تدعو إليها حكومة العدالة والتنمية ترتكز على فكرة أن الدولة هي من أجل خدمة الشعب وليس العكس. فجوهرها هو إعادة هيكلة مؤسسة القضاء بجميع تشكيلاتها الرئيسية، وترسيم صلاحياتها فقط في إطار إقامة حكم القانون، وضمان حيادها في الصراعات السياسية التي تشهدها البلاد. إلى جانب تحصين الأحزاب السياسية من الحل والإغلاق، وضبط أداء المؤسسة العسكرية وفق أحكام القانون والدستور على أساس قاعدة الحياد السياسي، والتفرغ لحماية أمن الدولة من الأخطار الخارجية. و من بين المواد ال26 موضوع التعديل، نجد مثلا نص المادة 146 من الدستور التي تحدد اختصاصات المحكمة الدستورية العليا، كما تحدد طريقة تكوينها، ويقترح التعديل أن يتم رفع عدد أعضائها من 11 حاليا إلى 17 عضوا أصيلا، حيث يعين البرلمان ثمانية منهم، أما التسعة الباقون فيختارهم رئيس الجمهورية. كما يقتضي التعديل أن تكون ولاية العضو المنتخب 12 عاما، مدة واحدة غير قابلة للتمديد، وأن يحال إلى التقاعد إذا ما بلغ سن التقاعد حتى لو لم تنته مهلة 12 عاما في المحكمة. أما بالنسبة لصلاحيات المحكمة، فيقترح التعديل، فيما يتعلق بقضايا حل الأحزاب السياسية أن يصدر القرار بأكثرية ثلثي عدد أعضائها، وليس بالأغلبية المطلقة النصف زائد واحد كما هو معمول به حاليا. فقد كشفت الممارسات العملية في السنوات الماضية، أن غلبة التوجه العلماني المتشدد على تلك الرئاسات القضائية، قد حولها إلى طرف في الصراعات الحزبية والسياسية، مما يشكك في شرعيتها وحيادها، حتى أن المواطن العادي بات يعتبر القضاء عقبة في طريق الإصلاح السياسي في البلد. وفي جانب آخر، فالتعديلات الدستورية ستعزز من الحريات الأساسية للأفراد والأحزاب السياسية، وتقربها من المعايير الأوروبية لحريات وحقوق الإنسان. وهذا من شأنه أن يفتح الباب مجددا لإزالة الحظر المفروض على ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية والجامعات. مشروع التعديل سيغير نظام الحكم في تركيا من البرلماني إلى النظام الرئاسي، فمدة رئاسة الجمهورية التي تبلغ حاليا 7 سنوات غير قابلة للتجديد، ستصبح خمس سنوات قابلة للتجديد، بحيث لا يكون رئيس الجمهورية رئيسا على مجلس الأمن القومي التركي. ويأمل أن يخلو الدستور الجديد من المادة 30 للدستور الحالي، والتي تنص على تجريم «إهانة العرق التركي»، والتي حوكم بموجبها الكثير من الكتاب والمفكرين الأتراك. كما أن حماية الحياة الخاصة للمواطنين تعتبر ضمن التعديلات، حيث إن التعديلات المرتقبة على المادة 20 ستنص على أنه لن يتم السماح للدولة بجمع وتقصي المعلومات حول الحياة الخاصة للمواطن لترهيبه أو ابتزازه، لأن ذلك يعتبر انتهاكا لخصوصياته وحرياته الفردية، وعليه فعلى الدولة استعمال المعلومات المسجلة في الوثائق والأوراق الرسمية فقط. المعارضة: «التعديلات خطة من الحكومة لأسلمة البلاد» يقود المعارضة حزب الشعب الجمهوري الذي قدم زعيمه «دينيز بايكال» مؤخرا استقالته على إثر فضيحة جنسية، حيث يتهم هذا الحزب حكومة العدالة والتنمية بسعيها لإحكام سيطرتها على المؤسسات القضائية، والقيام بانقلاب مدني تمهيدا لأسلمة الدولة والمجتمع. كما حذر بايكال من الاستمرار في مساعي التعديل، وهو ما فسره البعض بأنه دعوة صريحة إلى الجيش للقيام بانقلاب عسكري إذا أصر حزب العدالة والتنمية على التعديلات الدستورية. من جهته يرى حزب الحركة القومية المتطرفة أن التعديلات الدستورية ستؤدي إلى انفتاح الحريات الاجتماعية والشخصية بشكل كبير وبالتالي سيصبح بإمكان الحركة الكردية الاستفادة منها، وذلك – حسب رأيه – سيشكل خطرا على القومية التركية. ومعروف أن هذا الحزب متطرف إلى حد كبير. بين من يرى أن هذه التعديلات ستتيح للمجتمع التركي فرصة استرداد الولاية الكاملة على نفسه، وبين من يراها تهديدا لأمن الدولة ومبادئ العلمانية والوحدة القومية، يواصل الوقت مسيرته إلى غاية 12 شتنبر الذي سيحدد مصير تركيا السياسي.