شكلت الحرب الكيماوية جزءا من العمليات العسكرية التي قامت بها مختلف الدول الأوربية خلال فترة ما بين الحربين ضد المدنيين في كل من أفغانستان، العراق، ليبيا وإثيوبيا، حيث قام الجيش البريطاني، الإسباني، والإيطالي بإلقاء مواد كيماوية ذات أضرار بالغة على النساء، الأطفال والعجزة، دون أن يعير اهتماما إلى الأوفاق الدولية التي حظرت إنتاج واستعمال هذه الغازات، رغم مصادقة هذه الدول على معاهدة فرساي، وتأخرها مدة طويلة في المصادقة على بروتوكول الغاز الذي أعقب إعلان مبادئ فرساي. من هذا المنطلق، شرع في نوفمبر 1923 في استعمال قنابل تلقى بواسطة الطائرات معبأة بغاز الفوسجين fosgeno والكلوروبيكرينا، cloropicrina، والتي أنتجت ربما بمصنع مليلية. وهذا ما تؤكده ماريا روسا دي مادارياكا، استنادا إلى وثائق مصلحة التاريخ العسكري، لكنها تختلف في شهر هذه العملية التي ترجعها إلى يوليوز، حين أغارت بهذه الغازات الخانقة طائرات من السرب الرابع من أسطول الطيران أيام 14، 26، و28 من نفس الشهر. أما أول قبيلة اختيرت لتجربة القصف بغاز الخردل بواسطة الطائرات فكانت قبيلة بني ورياغل نظرا لقربها من مطار الناظور، والذي أرجعته المصادر إلى يونيو سنة 1924. وقد أكد أحد الطيارين الذين شاركوا في هذه العمليات الجديدة، وهو Hidalgo de Cisneros Ignacio، الذي سيصبح قائدا عاما لسلاح الطيران الجمهوري خلال الحرب الأهلية الإسبانية، أنه كان أول من ألقى إحدى تلك القنابل من مخزون ال100 قنبلة من النوع الأكثر وزنا، الذي كان في المتناول خلال تلك الفترة (نوع 100 كيلو)، والذي ألقي افتراضا قبل صيف 1924. وقد كان هذا النوع هو المستورد من المخزون الذي بقي عند الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى، وهو الذي تم نقله بحذر شديد إلى المصنع الكيماوي بمليلية. هذه القنابل كانت تستطيع حملها فقط طائرات Farman F60 Goliath، لأنها أكثر وزنا بالنسبة للطائرات الأخرى. فاستنادا إلى الأرشيفات التي اطلعنا عليها، يبقى جليا أن أول استعمال لقنابل غاز الخردل بواسطة الطائرات تم في يونيو 1924. حرب الغازات الكيماوية السامة ضد منطقة شمال المغرب في المنطقة الشمالية الغربية، كان استعمال القنابل الكيماوية أكثر تعقيدا، ذلك أن انتشار القوات الإسبانية في أماكن متعددة داخل هذه المنطقة كان صعبا وخطيرا حسب تقرير عسكري، لأنه لم يكن ممكنا تحديد الأماكن الملوثة بالغازات السامة، بفعل استعمال قنابل C2 الأكثر خفة ووفرة من قنابل C1 زنة 50 كيلو. في هذا الإطار، خلال معارك أنجرة التي جرت في ديسمبر من سنة 1924، استعملت القوات الإسبانية القنابل الكيماوية ضد السكان كما فعلت في المنطقة الشرقية. إذ ما بين 15 و30 ديسمبر ألقيت على المنطقة الغربية، بما في ذلك أنجرة، 184 قنبلة C1 و75 قنبلة (cloropicrina C4) و110 قنبلة TNT، هذا، إضافة إلى 559 قنبلة ذات نوعية غير محددة ألقيت يوم 11 ديسمبر فوق سوق أربعاء بني حسان. ولما كانت قبيلة أنجرة مجاورة لمدينة طنجة، فقد تهاطلت قنابل كيماوية على هذه الأخيرة. وقد ساهمت هذه القضية في فضح النظام الإسباني باستعماله أسلحة محرمة دوليا، حيث قام ليوطي بمراسلة الرئيس الفرنسي يخبره باستعمال الإسبان لأسلحة كيماوية، وأن مجموعة من الأطفال والنساء تتدفق بكثرة على مستشفى مرشان بطنجة. نفس الشيء تذكره الوثائق البريطانية، خصوصا وثائق وزارة الخارجية البريطانية التي أشار إليها القنصل العام البريطاني بطنجة. الأولى تعود إلى شهر دجنبر من سنة 1924، يذكر فيها أن ممثلا لقبيلة أنجرة قصده يوم 20 من نفس الشهر ليشتكيه الغارات بقنابل كيماوية على مداشر هذه القبيلة من طرف طيارين إسبان، حيث أدى هذا إلى عمى أو فقدان المتضررين بصفة مؤقتة للبصر، كما حدثت إصابات بين النساء والأطفال. وبطلب من وزارة الطيران البريطانية التي أرادت الاطلاع على المزيد من المعلومات حول نوعية الغاز المستعمل في هذه الغارات، أجاب القنصل العام البريطاني يوم 19 أبريل من سنة 1925 بأن المصادر المختلفة التي استطاع جمعها تشير إلى أن الغاز الذي استعمله الإسبان هو بدون شك الإيبيريطا. وقد ساق في هذا الجانب شهادة الدكتور Forraz، مدير المستشفى الفرنسي بطنجة، والذي كانت له خبرة في مواد الغازات الخانقة خلال الحرب العالمية الأولى، حيث يؤكد استقباله في هذا المستشفى حالات متعددة تسببت فيها الإيبيريطا. كما أشار جهاز المخابرات البريطاني SIS إلى تعرض بعض ضواحي العرائش إلى هذه الغارات، وقد خلفت عند انسحاب الجيش الإسباني 25 في المائة من الضحايا. كذلك، أشار الملحق العسكري البريطاني إلى أن الغارات كانت تتجه صوب الناس مباشرة، لهذا كانت الأسواق الأسبوعية هدفا لهم حينما تكون آهلة بالناس لقد قامت 20 طائرة إسبانية في 29 يونيو بإلقاء 600 قنبلة قريبا من تطوان، مسببة أضرارا بشرية جسيمة، حيث تعرضت العديد من المنازل للتدمير، وكثير من الغلات للحرق، كما تم رش القبائل بغاز الخردل. وهذا ما يؤكده وزير الحربية في الجمهورية الريفية السيد محمد أزرقان بقوله: «وفي هذا الإبان، حضر زعيم الإصبان الجنرال «بريمو ريفيرا» صحبة أركان حربه إلى قشلة أدلاو (واد لاو)، وشاهد بنفسه البارود الواقع بين الجانبين، وما تجريه الطيارات العديدة من إطلاق المدمرات والغاز الخانق وما قامت به المراكب الحربية من رمي المقذوفات / النارية على المجاهدين، وكأن القيامة كانت قائمة...». من جانب آخر، أعطى الفرنسيون أهمية للموضوع، إذ قامت أجهزة مخابراتها بالمقيمية العامة بمحاولة اعتراض وحل شفرات الاتصالات بين القيادات الإسبانية. من هذه الشفرات، واحدة اكتشفها المؤرخ الفرنسي جون مارك دولوناي وهي كالتالي: في 9 شتمبر من سنة 1924 طلب من القائد العام بتطوان السماح باستعمال قنابل محملة بالغازات الخانقة لإيقاف هجوم 5.000 ريفي بمرتفعات كالاس Kalas، وهي الإمكانية الوحيدة لإنقاذ الوضع. وخلال أيام معدودة، طلبت الإغارة بالغازات السامة على قبيلة تالامبوط. كما أنه في يناير من سنة 1925، حين كان الزعيم محمد بن عبد الكريم في أعز أيام قوته، أعلم بأن الغازات الخانقة أحدثت عمى عدد كبير من الأشخاص في عدة دواوير. لكن تغيير استراتيجية الجنرال Primo de Rivera في منتصف سنة 1925، التي تترك جانبا خيار الانسحاب مقابل إعادة الاحتلال، عرقلت بشكل جدي عملية استعمال القنابل الكيماوية، حيث لم يكن بالإمكان إرسال قوات الجيش إلى المناطق الملوثة بغاز الخردل قبل تجهيز الجنود بالأقنعة الواقية وإرسال فرق النظافة لرش تلك المناطق بالماء.
بالمنطقة الشمالية الشرقية: في الحقيقة، كانت أول التموينات قد وصلت إلى مطار الناظور يوم 20 يونيو من سنة 1924، أشير لها رسميا بقنابل C1 زنة 50 كيلو للواحدة، والمعبأة بغاز الخردل وكيلوات قليلة من مادة T.N.T لكي تستطيع تفجير محتوياتها. إذ سيتم إلقاء 16 منها (زنة 50 كيلو) يوم 22 يونيو على مركز القيادة العامة لمحمد بن عبد الكريم بآيت قمرة، 20 أخريات على منزله، 20 على سهل غيس، 12 على قبيلة تيزيمورين Tizimmoren، 9 على القبائل الموجودة ما بين نهر النكور وغيس، 18 على أجدير و4 فوق قبيلة سوق الحد. أي ما مجموعه 99 قنبلة من فئة C1. ثم في اليوم الموالي ألقيت 101 قنبلة من نفس الفئة C1. في نفس الوقت، بدئ يوم 23 يوليوز في إلقاء قنابل من فئة C2، أقل حجما ووزنا من الأولى (10 كيلو). أما في ديسمبر، تم الهجوم لأول مرة بقنابل من فئة C5 (20 كيلو). كما استعملت تلك الغازات بشكل مكثف يوم 28 شتنبر من سنة 1925 خلال الهجوم الإسباني على المواقع الريفية لإعاقة تقدم المدفعية بعد إنزال الحسيمة، حيث قام قائد سفينة ألفونسو XIII بإعطاء تعليمات إلى الجنرال قائد الطيران البحري بالإغارة بالإيبيريطا في اتصال باللاسلكي، التقطه الفرنسيون الحلفاء. وقد أشار وزير الحربية في الجمهورية الريفية السيد محمد أزرقان هذا بقوله: «حتى نزل الإصبان قرب أجدير برأس العابد في حدود بقيوة وبني ورياغل، وحضر في البحر ستون مركبا حربيا، إسباني وفرنسوي، التي منها المركب الحربي المسمى بباريز الذي ضربه الريف بقنابل المدافع التي كانوا نصبوها بأجدير عندما كان يحاول النزول هناك، مع حضور العدد الذي لا حصر له من الطيارات التي كانت ترمي محلات المجاهدين بالمقذوفات النارية والغازية الخانقة، وقتالة بالمسمومات، وجميع أنواع الفتك الذي لا يخطر ببال». وفي اليوم الموالي، أعلن بأنه في يوم 30 شتمبر ستصل سفينة Velasco إلى سبتة محملة ب300 قنبلة غازات خانقة. وكان من الضروري تنظيم نقلها على وجه السرعة إلى تطوان لكي تقوم الطائرات بشكل استعجالي باستعمالها في الإغارة بالإيبيريطا من أجل إعاقة تنقلات آليات مدافع العدو. وفي نفس الوقت، أعلمت القيادة العامة للجيش الإسباني في مارس من سنة 1925 بأن جميع المناطق التي كانت تحت إمرة العدو قد تمت الإغارة عليها بغاز الخردل. حرب الإبادة الجماعية: مبيد ضد الإنسان، الحيوان، النبات وحتى الماء: أمام قلة فاعلية هذه الغازات، قام Stoltzenberg بزيارة إلى مدريد في ربيع 1922، حين كان Manuel García Prieto رئيسا لمجلس الوزراء وSantiago Alba في قصر Santa Cruz، حيث طلب خلالها زيارة مسرح العمليات، والذي زاره في يونيو من سنة 1923، ومن ثم اقترح خلالها التقني الألماني أنواعا من طرق كيفية استعمال هذه الغازات التي ارتطمت بعقلية العسكريين الإسبان المفتقدة لأدنى تجربة في ميدان الحرب الكيماوية: منها طريقة على نمط رش مبيدات محاربة الأوبئة، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الجوية والتضاريس المغربية. في نفس الوقت، نصحهم بعدم الاكتفاء بالإغارة على المداشر، ولكن أيضا الحقول، الطرق، قنوات الري، وكذا خزانات المياه، كأهداف غير مألوفة في الحروب الكلاسيكية، حتى لا يستطيع المغاربة الوقاية من التسمم، وفرض حصار اقتصادي عليهم بعرقلة أعمال الزراعة والرعي. في هذا الاتجاه، وفي برقية أرسلت إلى القواد العسكريون من طرف القائد العام لمليلية يوم 1 ماي من سنة 1924 حضهم فيها على: «القيام بعمليات مكثفة ومستمرة وتدمير مزارع ومحاصيل العدو...بقنابل من مختلف الأنواع، خاصة تلك الحارقة وأخرى من النوع الآخر (أي الكيماوية)». في نفس الاتجاه، وبمحادثة تلغرافية مع الملك ألفونسو XIII يوم 8 أكتوبر، كان الجنرال بيرينكير Berenguer أمينا على الرغبة الملكية حيث قال: «نأسف لعدم تمكننا من إرسال سرب من القاذفات لكي يقوم بواسطة الغازات بإقفار وبجرذ الحقول الريفية حتى نتمكن بسرعة وفي أراضيهم من إفهامهم مدى قوتنا. فباستعمال جميع الآليات العسكرية في آن واحد، سيتعدد التأثير. وأنا لا أظن أنهم يستطيعون الصمود بعد تدمير وبشكل عنيف سبعة أو ثمانية من بؤر المقاومة». وقد اقتفى الإسبان في هذا الخطة البريطانية في العراق، التي كانت العمليات فيها أكثر كثافة خلال فترة الحصاد، ما بين أواسط أبريل وأواسط ماي. من جانب آخر، أخبر الملحق العسكري الأمريكي البريطانيين بأنه في يناير أعلمته فرقة المدفعية بأنها بصدد تجربة غاز الخردل ليس فقط على الإنسان، بل وعلى الحيوان: «لقد كانت عادة الطيارين الإسبان إلقاء قنابل الغاز على المداشر التي تقام بها الأسواق، إما يوم قبل أو خلال ساعات التبضع»، بحيث في بيان مؤرخ بيوم 1 أكتوبر من سنة 1923، أصدر القائد العام للقوات الجوية بتطوان أمره إلى الطيارين بالإغارة على القبائل ذات الأهمية الاستراتيجية والتجارية بالقنابل في اليوم والساعة التي تكون فيها الأسواق آهلة بالناس. في هذا الصدد، أعلم جهاز المخابرات البريطانية S.I.S بأن غارة واحدة– بالتأكيد بغاز الخردل- ضد المدنيين في نواحي العرائش بعد انسحاب القوات الإسبانية منها، خلفت نسبة 25% من الخسائر البشرية. لقد كان تصميم القنابل قد أعد على أساس انفجارها خلال إلقائها من الطائرة نحو الهدف المرسوم بهدف رشه بأكبر كمية ممكنة من غاز الخردل. لهذا، كان العلو، الزاوية، توقيت الإلقاء، ثم الحساب الصحيح لسرعة الرياح، أمور أساسية لنجاح العملية. في هذا الصدد، كتب العقيد (كورونيل/ كولونيل) Ignacio Despujols، الرجل الثاني في القيادة العامة للقائد العام بالمغرب، الذي عمل منسقا للجنة عسكرية كانت تدرس مشروع الإنزال بخليج الحسيمة، تقريرا يوم 28 يوليوز من سنة 1923 إلى رئيسه المباشر يقترح عليه استعمال أكبر قدر ممكن من القنابل الكيماوية خلال عملية الإنزال، بحيث إن استعمال هذه الغازات يجب أن تسبقها عملية تمويهية عن طريق استعمال كثيف للمدفعية خلال اليوم كله عن طريق إلقاء قنابل عادية، بحيث إن العدو يقتنع بجدية الهجوم ومن ثم يكون من الأكيد قيامه بجمع كل قواته من أجل التصدي للعملية. ومن ثمة، وبعد نار المدفعية، يجب البدئ في عملية فورية ومتواصلة خلال 24 ساعة، بإلقاء سيل حقيقي من قنابل الغازات السامة بنسبة تزيد عن 10 مرات، على ما اقترحه Von Tschudi، رئيس الطيران الألماني، والتي كانت التي بإمكانها تصفية أي كائن في 80 أو 100 كلم2، المساحة الأصلية للناحية الغنية، الخصبة والآهلة بالسكان من المنطقة المجاورة لخليج الحسيمة، ومن ثم: «لا يجب أن يبقى أحد على قيد الحياة، والذين ينجون يبقون معطوبين بشكل مطلق. هذا هو الإشهار أو الدعاية الفعالة لإحلال السلم بين القبائل المتمردة».
الطرق المغربية التقليدية في التصدي: أمام استمرار الغارات بشكل مكثف خلال فترات النهار، بدأ المغاربة بتعويد حياتهم اليومية على هذه المستجدات، مستغلين الأمان الذي يوفره لهم الظلام للقيام بزراعة الأراضي أو إقامة الأسواق ليلا. كذلك، من أجل حماية أنفسهم، قام السكان بحفر الكهوف والاحتماء بها وقت الغارات. بحيث، كان أغلبهم يقوم بحرق التبن عند مداخل هذه الكهوف عند كل غارة لمنع تسرب الغاز إلى الداخل. بالإضافة إلى هذا، وكما أشار شهود عيان، كان الناس يقومون بغلق أنوفهم بالثوم لتفادي رائحة غاز الخردل الكريهة، أو تناول الثوم والحامض لدرء التسمم، دون الانتباه إلى الأضرار التي يحدثها بالجسم. كما أشار بعضهم إلى أن السكان أصبحوا يتحاشون أكل المنتوجات الفلاحية، كفواكه الأشجار والخضر، نتيجة لتلوثها بهذا الغاز القاتل. في نفس الوقت، كان السكان يقومون بإحصاء القنابل الملقاة بواسطة الطائرات. فعند سقوط القنبلة التاسعة، يكونون متيقنون بأن الطائرة لا تحمل رشاشا، لهذا يخرجون من مخابئهم مباشرة لإطلاق النار عليها بعد سقوط آخر قنبلة. لكن لما تلقي الطائرة فقط ستة قنابل يكون من الراجح استعمالها مباشرة نار الرشاش، مما كان يدفع المغاربة إلى أخذ الحذر بعد مغادرة مخابئهم. ومن متناقضات تبرير إسبانيا استعمال الحرب الكيماوية، وهو للعجب تبرير إنساني، يكمن في كونها سوف تعمل على تقليص الخسائر البشرية والمادية في الجانبين الإسباني والمغربي بإنهاء المقاومة في أسرع وقت ممكن. بحيث إنه خلال النصف الأول من سنة 1923 قام مبعوث من المقيمية العامة بسفر إلى ألمانيا سلم بموجبه عند عودته إلى مدريد تقريرا لنتائج سفره إلى العقيد (الكولونيل) Ignacio Despojols والمقدم (الطينيينطي كورونيل) Alfredo Kindelán رئيس القوات الجوية بالمغرب، فيه هامش حول حرب الغازات السامة جاء فيه: «هذه الممارسات التي تظهر للوهلة الأولى أكثر وحشية، هي بالعكس، أكثر إنسانية لسرعة نتائجها». كما أنه خلال مناقشة الجنرال Luis Silvela، الذي كان حاضرا خلال لقاء Stoltzenberg مع الملك في أوائل شهر شتمبر من سنة 1924 مع مجموعة من الجنرالات، من بينهم Martínez Anido، موضوع استيراد قنابل الإيبيريطا من ألمانيا، أعلن عن قناعته كون الغازات السامة هو الحل السريع لمشكلة المغرب، إذ ستعمل على: «الحفاظ على حياة جنودنا، ولن تهدد حياة السكان بمعارك دموية». انقلاب الحرب الكيماوية ضد الجيش الإسباني وضعف فاعليتها: ضعف تمرس التقنيين والطيارين الإسبان: أمام صعوبة إدماج الألمانيين، القبطان Grauert والملازم أول (طينيينطي) Jeschonnek ضمن صفوف اللفيف الأجنبي La Legión خلال زيارتهما إلى مدريد في أبريل ويوليوز من سنة 1925، اقترح الجنرال Magaz أن يتسلل هذان الضابطان بلباس مدني إلى المغرب ويمران كتقنيين للطيران المدني إلى تقنيين للطيران العسكري حين عملهما داخل الجبهات المغربية. وقد أطلعوهما على المطارات والمنشآت العسكرية التي تهمهما، وسمح لهما بالمشاركة في عمليات جوية على الأراضي المغربية، حيث رافقهما في رحلتهما ضابط إسباني يتكلم الألمانية. ومن هذا المنطلق، لا يوافق A.Viñas طرح Kunz وMüller (مؤلفا كتاب: «محمد بن عبد الكريم الخطابي في مواجهة السلاح الكيماوي» حول مشاركة هذين الضابطين في غارات بالغازات السامة، لأنهما لم يكونا خبيرين بها، وأن مهمتهما كانت استطلاعية فقط. وقد جاء في تقريرهما إن عمليات غارات الحرب الكيماوية الإسبانية لم تكن في المستوى نظرا لسوء التنظيم وعدم أهلية وكفاءة التقنيين والربابنة الإسبان، ثم قلة القنابل وسوء تجهيز المشاة، خصوصا بالأقنعة الواقية. فالحرب الكيماوية الإسبانية كانت إذن تتم بطريقة تقليدية، بحيث إن هذا النوع الجديد من الحرب حمل الطيارين الإسبان مسؤولية كبيرة نظرا لكونهم كانوا متمرسين في استعمال قنابل T.N.T والقنابل الحارقة، وليس لهم أية تجربة مع قذائف وقنابل غار الخردل الخطيرة. فقد كانت القنابل تلقى بشكل عشوائي لإحداث أكبر عدد ممكن من الخسائر حتى تظن أن الطيارين الإسبان هم أطفال صغار يقومون بتوزيع منشورات. وهذا ما جعلهم في أحيان عدة يخطؤون أهدافهم لتسقط القنابل في الاتجاه المعاكس. فقد أشار القنصل البريطاني بطنجة خلال شهر مارس من سنة 1925 أن طيارين إسبان في إحدى الغارات بقنابل الإيبيريطا أحدثا العديد من الجرحى أو خسائر جانبية، كما يقال اليوم، بسبب انحراف قنبلة إيبيريطا بفعل الرياح لتسقط فوق القوات الإسبانية. كما أن قنبلتين انفجرتا عند هبوط طائرتين مخلفة إصابة رقيب (سارخينطو) بجروح خطيرة في إحداها، ووفاة عريف (كابو) ورقيب (سارخينطو) بالأخرى. نفس الشيء أشارت إليه الأرشيفات العسكرية، حيث كانت القنابل في أحيان عدة تخطأ أهدافها لتسقط فوق قبائل حليفة للجيش الإسباني. لهذا السبب، أرسلت مذكرة يوم 31 مارس إلى جميع القياد ((commandants والطيارين تمنع عليهم فيها الإغارة على أية منطقة دون ترخيص من القيادة العامة، والمعتمدة بالأساس على إشارة العقيد المكلف بالعلاقات مع الأهالي (indígenas)، والمطلع بشكل دقيق على مواقع القبائل الصديقة. بل إن الأخطاء المرتكبة من لدن الطيارين الإسبان أصابت حتى جنود الجيش الفرنسي، حيث اشتكى بعض قواد الجيش الفرنسي يوم 28 مايو من سنة 1926 من مسألة إلقاء الطائرات الإسبانية قنابل الغاز فوق المناطق التي توغلت فيها كتيبة فرنسية. في نفس الوقت الذي نجا فيه فيلق تحت قيادة الجنرال كباث مونطيس Capaz Montes بأعجوبة من قنابل ألقاها طيارون إسبان في شهر شتمبر. في هذا الإطار، أصبح الربابنة في جميع الطائرات يصطحبون مساعدين لهم، ملازم أول (طينيينطي/ ليوتنان) أو رقيب (سارخينطو/ سارجان)، الذي كانت مهمته تتحدد في استعمال الرشاش أو إلقاء القنابل بيديه أو عبر صحن ذي مقابض (Palanca/ Palanque/Levier) حين تعطى له الإشارة من طرف الطيار. كما أن خطة الطيران على مستوى منخفض كانت تعرض أكثر حياة الطيارين الإسبان للخطر بفعل سهولة إصابة الطائرات ببنادق المجاهدين. لهذا، رغم محاولة ملئ فراغ المساحة الصغيرة الممكنة داخل مقصورة القيادة، صدرت تعليمات من القيادة العليا في بداية سنة 1924 إلزام الطيارين استعمال الصدرية الواقية داخلها ( مقصورة القيادة). كذلك، أعلم الطيارون بأنه في حالة إصابة الطائرة تجب محاولة التوجه نحو البحر والارتماء في الماء، بحيث يكون هناك زورق سريع في انتظارهم، ثم وضعت مع كل طيار رسالة باللغة العربية وحوالة ب 5.000 بسيطة تعطى نقدا لحاملها في حالة تسليمه الطيار حيا إلى إحدى المواقع الإسبانية. من جهة أخرى، أخبر مراقب أمريكي خلال إقامته بقبيلة مطالسة في سنة 1924 أن الطائرات كانت تأتي دائما في نفس الساعة من الصباح والمساء. أما خلال يوم الأحد تظهر فقط طائرة واحدة، وباقي الأسبوع تأتي طائرتان في اليوم، فقط ترسل ثلاثة طائرات يوم الخميس الذي يقام خلاله السوق. بالإضافة إلى هذا، تشير المصادر العسكرية، في أغلبها متفرقة، إلى أنه بشكل متكرر لم تكن القنابل والقذائف الكيماوية الملقاة بواسطة الطائرات أو المدافع تنفجر، لهذا، كان المغاربة يقومون بجمعها في عربات التبن التي، بعد إشعال فتيلتها، ثم يتم دفعها نحو المواقع الإسبانية. وقد كان الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي يدفع بسيطتين مقابل كل قنبلة غير منفجرة. أما القنابل الكيماوية الغير المنفجرة الملقاة بواسطة المدافع، فكان يتم جمعها لإعادة إلقائها على المواقع الإسبانية. وهناك مثال إلقاء بعضها على مدينة تطوان بواسطة مدفع غنموه من الفرنسيين. في نفس السياق، تفنن المغاربة في صنع المفرقعات الغازية، إذ يؤكد في هذا الصدد وزير الحربية في الجمهورية الريفية السيد محمد أزرقان: «لقد تفنن المعلمون الحدادون الريفيون في الحرب أيام الأمير ابن عبد الكريم في استعمال المفرقعات الغازية اليدوية بما يغتنمونه (كذا) من الغاز الخانق الموجود في المعاقل التي استولوا عليها، ومن العدد الكثير من القنابل التي ترميها الطيارات عليهم ولم تنفجر وبقيت على هيئتها من غير انفجار، وعملوا لذلك معامل صناعية اشتغل بها بعض المعلمين يفتحونها ويخرجون منها المواد الفتاكة، ويجعلونها في ظروف من قزدير، يرمونها باليد على العدو [ص.7]فتنفجر في جموعهم، فعظم الخطب على أعدائهم، ولم يعرفوا أنهم إنما يرمونهم بحجارتهم. وقد استعان الريفيون باليهود العارفين بتهيئة المفرقعات اليدوية والكي عليها بالقزدير والرصاص المذاب. وغالب العدة التي قابل الريفيون بها عدوهم مأخوذة منه لا من غيره؛ لأنهم لم يجدوا من الأجانب من يساعدهم على إمدادهم بالمدد الخارجي». من جهتهم كذلك، كان الإسبان مهتمين بشكل كبير بجمع بقايا أو شظايا القنابل الكيماوية، حيث كانوا يدفعون درهمين على كل شظية، وهذا راجع حسب نظرنا لممارسة تعتيم على جريمة استعمال هذه الأسلحة المحظورة دوليا. ضعف تجهيز الجيش: من جانب آخر، حسب تقرير المدير البريطاني للأبحاث حول الحرب الكيماوية في نوفمبر من سنة 1925، فإن قيادة الجيش الإسباني لم تعر أي اهتمام لحماية جنودها خلال عمليات التوغل: «يمكن أن يلاحظ ضعف دراسة الجيش الإسباني لتكتيك الحرب الكيماوية، بحيث إذا كان مرتقبا القيام بعملية توغل سريعة، يكون من اللازم عدم استعمال غاز ملوث لفترة طويلة كغاز الخردل في هذا الميدان، لأنه سيعرقل بشكل جدي تحرك القوات المهاجمة، إذ يجب الحفاظ على هذا الغاز للأهداف التي سيتم احتلالها، على الأقل، خلال أسبوع واحد». لهذا، فقد تضررت فرق الجنود في تدخلها لقمع انتفاضة قبيلة أنجرة بسبب تحويل الرياح لاتجاه الغازات (محتمل غاز الكلوروبيكرينا cloropicrina) الملقاة بواسطة الطائرات، فقط سقطت هذه القنابل عليهم بعد تدخلهم بقليل.. كما أشار تقرير سري لضابط في الطيران البريطاني H.Pughe Lloyd، الذي زار المغرب الإسباني، إلى وزير الدفاع البريطاني، إلى أن استعمال السلاح الكيماوي لم يلق ترحيبا بين الجنود، نظرا لعدم تجهيزهم بالأقنعة الواقية ضد الغازات، مما نتج عنه حدوث خسائر ضمن صفوفهم: «لقد شرح لي عقيد بالتفصيل بأن الإيبيريطا (Iperita/Yperite) (غاز الخردل) لم يكن ينظر إليها بعين الرضى، ذلك أنه خلال هجوم الجيش على إحدى القرى، التي كانت قد تعرضت ثلاثة أسابيع من قبل إلى غارات بالغازات السامة، وقعت خسائر كبيرة ضمن الجنود الإسبان بفعل تعرضهم لإشعاع هذه الغازات». لهذا، ممكن أن يكون اقتراح Despujols استعمال كمية كبيرة من غاز الخردل في احتلال الحسيمة لم يؤخذ بعين الاعتبار عندما تحولت الخطة نحو الإنزال، أو على الأقل، تخفيض الكمية المقترحة من لدنه. ج- ضعف الوقاية بمصانع الإنتاج وأماكن التخزين: في نفس الاتجاه، ومن خلال ملاحظات Pughe Lloyd إلى مدير المركز البريطاني للحرب الكيماوية في بورتون Porton، كانت حماية العمال بمصانع مليلية وLa Maestranza تتم بطريقة رديئة: «كنت أراهم يعبئون القذائف بطريقة عتيقة وخطيرة، مقارنة مع الطريقة المستعملة من لدنكم في بورتون...». ونتيجة لهذا، كان الجنود والتقنيون الإسبان أنفسهم يتعرضون لخسائر مهمة، كما حدث في معمل الأسلحة الكيماوية La Maestranza وParque لمليلية، حيث خلال عشرة أشهر من العمل جرح 10 ضباط و82 جندي في تركيب قنابل غاز الخردل. أو كما حدث في مطار مليلية، حين تكسرت إحدى القنابل الكيماوية دون أن تنفجر مخلفة وراءها 20 إصابة، بعضها بحروق بليغة، حيث كان من بين المصابين القبطان Planell، رئيس الحرب الكيماوية. كما يمكن إرجاع سبب التأخر في الاستعمال الكثيف للقنابل الكيماوية بالأساس أيضا إلى مشاكل تقنية. فأمام الأخطار الكبيرة التي تواجه نقلها وتخزينها، كان من الضروري تجهيز مطارات سبتة، تطوان والعرائش بشكل جيد قبل استقبال التموين من مليلية. بالإضافة إلى أن آلية الإلقاء أو الإطلاق لبعض الطائرات كانت سريعة التلف، بحيث إذا لم تركب القنابل بشكل جيد يمكن أن تشتغل هذه الآلية مباشرة عند لمسها لأجزاء أخرى من الطائرة، أو تنحبس القنابل داخلها (آلية القذف أو الإطلاق). يضاف إلى هذا مشكل تخزين القنابل بسبب عدم وجود نظام يؤمن عدم انفجارها. لهذا، صدر أمر من القائد العام لمليلية يوم 7 مايو من سنة 1925 بنقل 400 من 1.200 من قنابل C5 من مخازن مصنع La Maestranza بمليلية إلى مخازن أخرى للقنابل الكيماوية في تطوان والعرائش. د- ضعف فاعلية الحرب الكيماوية: من جهة ثانية، كان الطيارون وقائديهم (comandantes) يعرفون الشيء القليل عن هذه القنابل خلال المرحلة الأولى من استعمالها، وكذا الأعداد التي يمكن استخدامها، حيث كانت مثلا مسألة خوض معركة معينة ترغمهم على استعمال 100 قنبلة من غاز الخردل بواسطة الطائرات، ذات حجم غير محدد وذلك من أجل تدمير مدفع واحد فقط. كما أنه بسبب ضعف مفعول هذه المواد الكيماوية أمام الحرارة، توصلت القوات الجوية بأوامر للإغارة على الأهداف في المساء، أو خلال الهجومات الليلية. كذلك، كان على الطيارين التحليق على علو منخفض لضمان عدم تشتت الغاز السام قبل السقوط فوق الهدف. بالإضافة إلى ضرورة استعمال هذه القنابل بشكل دقيق أمام قلتها، كما أشار أمر من القيادة العامة لمليلية يوم 9 نوفمبر. ونتيجة لهذا، تحولت الغارات الاستراتيجية إلى مهارة تفوق فيها الطيارون الإسبان بشكل جيد. عامل آخر ساهم في عرقلة فاعلية هذه الحرب الكيماوية، تمثل في نوعية الطائرات المستعملة من طرف الجيش الإسباني، ضد الاقتراح الذي تقدم به الملك الإسباني في وقت سابق بعدم الاقتصار على اقتناء طائرات Junkers دون غيرها. حيث تم في سنة 1925 شراء 20 طائرة Breguet و30 طائرة Fokker، الإثنتين بقوة 450 حصان، يضاف إليهما طائرات مائية (2 Savoia وطائرة واحدة من نوع Dornier) رغم ذلك، فحتى يناير من سنة 1926، كانت القوات الجوية تستعمل فقط خمس 1/5 الطائرات المخصصة للغارات الكيماوية. إذ، في تقرير له أشار Pughe Lloyd: «فقط طائرتين من عشرة كانت تحمل قنابل غازية، ليس بسبب عدم جدوى هذه الغازات، بل بكل بساطة نظرا لكون الطيارين لم يكونوا يعرفون طريقة استعمالها». 5- قوانين دولية فارغة: معاهدات حظر إنتاج واستعمال أسلحة الدمار الشامل: بالنسبة لحظر استعمال هذه الغازات الخانقة، فإن الدول المصادقة على معاهدة لاهاي مؤرخ بيوم 29 يوليوز من سنة 1899 حرمت استعمالها. كما أن وفاقا جديدا للاهاي سنة 1907 امتد ليشمل جميع أنواع الغازات، حيث كانت إسبانيا من بين الدول المصادقة عليها. كذلك، موازاة مع مقتضيات معاهدة السلام بفرساي ليوم 18 يونيو من سنة 1919، فإن بندها 171 حظر إنتاج، وطبعا استعمال غازات الحرب. في هذا الإطار، اقترحت لجنة مشكلة من مستشارين للأمين العام للحكومة الأمريكية، بمناسبة مؤتمر الحد من التسلح لسنة 1922، ضرورة حظر كلي الأسلحة الكيماوية. حيث تبنى البند الخامس من وفاق واشنطن ليوم 6 فبراير الفكرة وصادق عليها مجلس الشيوخ. لكن هذا الوفاق لم يصبح ساري المفعول نتيجة لمعارضة فرنسا بفعل تعرضه لبعض الإجراءات التي تخص الغواصات. بعد ثلاث سنوات من ذلك، وبمبادرة أمريكية، وضعت ترتيبات ستفضي في النهاية إلى التوقيع على بروتوكول جنيف. في هذا التجاه، شاركت إسبانيا، إلى جانب دول أخرى، في مفاوضات حول النص الذي سيؤدي إلى نطاق الحق العالمي في حظر استعمال الغازات الخانقة، السامة أو ما شابهها، بما فيها الوسائل البكتيريولوجية أو الجرثومية في العمليات العسكرية. هذا الوفاق وقع يوم 17 يونيو من سنة 1925. وبدون شك كان حضور إسبانيا مجرد درع واق لأنشطتها، بحيث لم تلتزم بهذا الوفاق إلا يوم 22 غشت من سنة 1929، أي بعد مرور حوالي سنتين من قضائها على المقاومة المسلحة بشمال المغرب في 10 يوليوز من سنة 1927. نداءات بن عبد الكريم، وسلطان المغرب، وأحرار العالم في ظل التواطؤ الدولي المكشوف: لم يكن بالإمكان إخفاء هذه الحرب البشعة وهذا الرعب غير المسبوق، والذي سيكون انطلاقة قوية لما سيعرف اليوم بأسلحة الدمار الشامل، بحيث بالإضافة إلى إطلاع الرأي العام العالمي عليه، حاول المغاربة، وعلى رأسهم الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي، التنديد باستخدام الدول الأوربية أسلحة محرمة دوليا ضد شعب تقريبا أعزل يحارب من أجل انعتاقه من الغطرسة الأوربية التي تسعى إلى فرض حضارتها بالقوة على شعب تدعي تخلفه وتوحشه، مبررة تدخلها العنيف إلى رفض المغاربة باستخدامهم للقوة لهذا الهدف الأوربي النبيل الذي ضحت من أجله بأبناء جلدتها. لقد قامت كل من فرنسا وبريطانيا بالتعتيم على استعمال إسبانيا هذه الغازات، حيث لم يسمح للباحثين الإطلاع على وثائق مخابراتها حتى السنوات الأخيرة. أما اجتماعات السياسيين والعسكريين حول موضوع استعمال هذه الغازات، فإما أنه لم يتم تدوينها، أو أن مدوناتها إما أتلفت أو خبئت. في هذا الإطار، كانت أهداف Stoltzenberg، ومعه القادة الإسبان، تتوخى من استعمال هذه الغازات السامة القضاء على المقاومة المسلحة بشمال المغرب عن طريق عرقلة أهم مصدر قوتها وهي زراعة الأراضي لأجل إحداث أزمة غذاء لديها وتكسير القاعدة الاقتصادية للقبائل. في نفس الوقت، فإن أخبارا عن انتشار وباء الطاعون قفزت إلى الصحافة الدولية. ومن ثمة، أصبح الريفيون يشكون بما يحدث، حيث في رسالتين من الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى النائب السلطاني بطنجة يوم 27 دجنبر من سنة 1924 صرح الأمير في الأولى: «...إننا نحترم المنطقة المذكورة كما قدمنا، ونريد أن نحترمها دائما وأبدا، ما لم تجعلها الحكومة الإسبانية عرضة للأخطار. فإذا فعلت وساعدتموها على جميع أفعالها، فحينئذ نتيقن بأن لا حق لنا أمامكم وأمام الدول المتمدنة، التي لا قلب رحيم لها على اليتامى والنساء الذين يذوقون من عذاب السموم الإسبانية ألوانا. لهذا نحتج أمامكم على هاته السموم التي تمطر به الطيارات الإسبانية جميع المنطقة والتي تفتك بالرجال والنساء والصبيان شأن الأمم العاجزة على المقاومة». في حين، صرح في الثانية: «لقد مرت ثمانية أيام على تاريخ إرسالنا للكتابين اللذان ألصقا بباب السوق وزنقة العدول، واللذان عرينا فيهما الفضائح التي ترتكبها يد الهمجية الإسبانية ويد الاستعمار الممقوت، وكنا قد قدمنا احتجاجاتنا إلى الرأي العام وطلبنا من أحرار العالم مشاهدة ذلك عيانا. فلم تمض تلك المدة حتى عادت يوم تاريخه الطيارات حاملة تلك السموم وأمطرتنا بها، في الوقت الذي ما زال القلم بين أصابعي أفكر فيما أكتبه مرة ثانية، بعدما أصبحت كتابتي عبارة عن صيحة في واد. وأخيرا، دفعني الرجاء في إعادة كتابة الشكاية حول هذا الأمر نفسه. أيها الأحرار، في مقدوركم أن تؤنبوا الحكومة الإسبانية التي وضعت رجلها العرجاء على الشروط التي انتخبتموها عليها وفرغتم مجهودكم في التحفظ عليها، ومنها استعمال الغازات الخانقة، سيما على النساء والصبيان والبهائم. هذا يدل على عجز إسبانيا عن المقاومة بدون هذا الغازات. إن هذا يمس بكرامتها وكرامة الأمم المتمدنة. إن لها القنابل الجوية غير الغازية، ولها المدافع الضخمة والمتوسطة، ولها الأسطول الحربي، ولها السلاح الجديد، أفلا يكفيها هذا كله. إن لم يكفيها، فتيقنوا أنها عجزت، لأن النساء والصبيان تحترمهم جميع الأديان من كل ملة ولا يقتلهم إلا الأراذل من كل أمة. لهذا، وبصفتي قائدا عاما لجيوش هاته الناحية، احتج بكل قوة أمام الحق وأمام الدول الإسلامية والأوربية». كذلك، في نداء آخر، وجهه إلى الأمة الجزائرية والتونسية، يحمل تاريخ 10 غشت 1925، نقتطف النص المتعلق باستعمال الغازات السامة، يقول: «أجدير في 10 أوط سنة 1925 الموافق 26 محرم الحرام عام 1344 من الأمير بن عبد الكريم إلى الأمة الجزائرية والتونسية أحييك أيتها الأمة النبيلة باسم الشعب الريفي الذي قام يناضل في سبيل حريته ويجاهد وراء إعلاء كلمة الله ونصرة المسلمين. ........ وأما إذاعة هاتين الدولتين (فرنساوإسبانيا) رغبتهما في عقد الصلح فما هي إلا مخاتلة ودسيسة سياسية تتوسلان بها لالقاء تبعة تلاشي عقد الصلح على عاتقنا ولتضليل الرأي العام الاسلامي ومخادعة أمتيهما اللتين تدمرتا مما أنزلنا بهما من البطش والتنكيل بهاته الحرب التي أظهرنا فيها قدرتنا العظيمة وبأسنا الشديد ثم إنهما لو كانتا صادقتين في دعواهما لما كنا نرى الآن تتابع سوق الجيوش وحشدها على الحدود بلادنا زيادة فأزيد إن من يريد الصلح لا يزيد الحرب وطيسا ولا يبدؤ باستعمال الغازات المخنقة ويرميها بالطيارات على الأسواق والمدن السلمية في الليل والنهار فتقتل النساء والصبيان الآمنين في مساكنهم إن من يريد الصلح لا يتكالب على حرق المزروعات وقتل الأنعام ظنا منه أن هذه الوسائل تميتنا جوعا فنذعن إلى الخضوع والاستسلام إن من يفعل ذلك ويدعي أنه يريد الصلح فما هو إلا كاذب ومرائي. ........... أزف إليكم إخواني هذه الكلمات لعل فيها توصية وذكرى لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد والسلام على من اتبع طريق الهدى وسبيل الرشاد». ونجد في آخر الوثيقة إمضاء: محمد بن عبد الكريم، ثم طابعا فيه: محمد بن عبد الكريم الخطابي كان له. الله. وثيقة الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي المؤرخة بيوم 10 غشت 1925 فيما يتعلق بموقف سلطان المغرب، فقد كان واضحا ضد استعمال القوات الجوية الإسبانية للغازات السامة ضد منطقة الريف وأنجرة، حيث غضب غضبا شديدا عندما وصله نبأ إصابة ثمانين شخصا ينتمون إلى دوارين، وأن أغلب الضحايا هم من النساء والأطفال، أصيبوا بالعمى بسبب هذه الغازات الخانقة، ومن ثم، قام السلطان بإبلاغ المقيم العام الجنرال ليوطي امتعاضه من هذا الفعل الشنيع الذي مس رعاياه في منطقة الحماية الإسبانية، وأخبره بأنه سيعلن موقفه هذا في رسالة سلطانية سوف تتلى في جميع مساجد الامبراطورية الشريفة. في هذا الاتجاه، يرجع كل من سباستيان بالفور و أنخيل بينياس تاريخ هذا النداء إلى أوائل يناير 1925. إذ يشيران إلى كون المقيمية العامة بالرباط أخبرت حكومة باريس في يناير من سنة 1925 بالاضطراب الذي حصل للمغاربة بسبب استعمال الغازات في منطقة قريبة من طنجة، وهذا ما دفع الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى إصدار أمر بوضع ملصقات في مختلف الأماكن بمنطقة الحماية الإسبانية تهم قضية استعمال القوات الإسبانية الأسلحة الكيماوية، حيث كانت تهدف هذه الملصقات فضح عملية (حسب كلام الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي): «رش المنطقة كلها، بما فيها أناس أبرياء كالنساء، الأطفال، الشيوخ وحتى الحيوانات بالغازات الخانقة..... لقد أرسلنا عددا من النساء والأطفال إلى مستشفى مارشان لكي يعالجهم الدكتور الفرنسي فوراز Forraz. بعضهم توفي بسبب تآكل أكبادهم بفعل السم». لكن كل هذه النداءات نسفت كلها من طرف إسبانيا، كما هو الشأن بالنسبة لملتمس الزعيم بن عبد الكريم المرفوع إلى اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي طالب من خلاله بفتح تحقيق في استعمال إسبانيا سلاحا محظورا دوليا، كما عاب الزعيم محمد بن عبد الكريم على فرنسا صمتها التام. بل إن هذا الصمت هم جميع الدول المتورطة في استعمال هذه الأسلحة خلال الحرب العالمية الأولى أو بعدها. فقد كانت مصالح الاستخبارات البريطانية، حسب المؤرخ البريطاني سباستيان بالفور اعتمادا على الأرشيف البريطاني، على علم بعمليات استيراد إسبانيا للمواد الكيماوية المحظورة من ألمانيا، لكنها غضت الطرف عن ذلك مريدة تعزيز مكانة إسبانيا بشمال المغرب ضد تحرير الأراضي الريفية أو السيطرة الفرنسية. كما أن القنصلية الألمانية بتطوان وكذا السفارة الألمانية بمدريد كانت على علم بمجريات الأمور، وهذا ما لوحظ في التقارير المرفوعة إلى حكومتها والتي أشارت إلى استعمال الأسلحة الكيماوية من طرف الدول الكولونيالية خلال الحرب الأولى أو بعدها، كما سبق. والغريب في الأمر، هو ما أشارت إليه المؤرخة الإسبانية ماريا روسا دي مادارياكا، بكون بن عبد الكريم أخفى التأثير القاتل الذي يخلفه غاز الخردل بين السكان، حيث اعتمادا على تقرير مؤرخ بمليلية يوم 20 يوليوز من سنة 1924، فإن قبيلة بني ورياغل أخفت بشكل حذر آثار هذه الغازات وعتمت على أخبار أضرارها، خصوصا بالخطوط الإسبانية، لأسباب نفسية تروم الحفاظ على معنويات المقاومة. بالإضافة إلى هذا، رفع المتعاطفون مع حركة التحرر الريفية شكاوى ضد استعمال هذه الغازات إلى عصبة الأممبجنيف. وأغلب الظن أن هؤلاء المتعاطفين كانوا في أغلبهم شيوعيين، ذلك، أن وثيقة فرنسية اكتشفها المؤرخ الفرنسي جون مارك دولوناي تشير إلى أن الملك ألفونسو XIII صرح للملحق العسكري الفرنسي خلال مراسيم توديعه يوم 15 يونيو من سنة 1925 خلال محادثات شخصية أن الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي عرف كيف يمهد الطريق إلى ثورة عامة بجميع العالم الإسلامي «بتحريض من موسكو و اليهودية العالمية، قادرة على إحداث اضطرابات خطيرة بأوربا، بسبب الدعاية المكثفة التي تنشرها الشيوعية بالقارة». و قد اتهم بالأخص الشيوعيين الفرنسيين باستغلال الثورة الريفية لنزع الثقة عن حكومة باريس. كمية الغازات المنتجة والمستعملة لأغراض حربية: أمام تشتت الوثائق الموجودة بالأرشيفات العسكرية الإسبانية، يصعب تحديد الغازات التي أنتجتها إسبانيا لأهداف حربية. فخلال عملية ترتيب تلك الوثائق القليلة، يظهر أنه خلال سنة 1924 بدئ في إنتاج كمية كبيرة من المواد المستوردة من غاز الخردل لتعبئته في القنابل، حيث أرسل مصنع Stoltzenberg في هامبورغ بعض هذه التموينات إلى إسبانيا والمغرب، وأخرى صنعت مباشرة بمصنع La Marañosa ومليلية. فحسب البرقيات المتبادلة بين Primo de Rivera وقياده (comandantes) في المغرب في أكتوبر، تم طلب 30 طنا من غاز الخردل من ألمانيا، حيث أرسلت الطلبيات الأولى في باخرتين من هامبورغ. كذلك، كان بالإمكان الحصول على تموين من المواد الكيماوية عن طريق ممونين خواص فرنسيين. هذه التموينات الجديدة سمحت لمصنع مليلية من رفع الإنتاج من 300 كيلو إلى طن يوميا. في هذا السياق، لم يأخذ الإحصاء الذي أعده الضباط الألمان السالف الذكر (400 طن من غاز الخردل) بعين الاعتبار الإنتاج ما بين الربع الأخير من سنة 1925 ونهاية الحرب سنة 1927. كذلك، لم يلحق بهذا التعداد المواد المستعملة لإنتاج جميع قنابل وقذائف الغازات السامة المشتراة من فرنساوألمانيا. بصفة عامة، كان إنتاج إسبانيا من الغازات السامة لأهداف حربية ما بين سنتي 1923 و1925، حسب تقرير الضابطين الألمانيين Grauert وJeschonnek على الأقل حوالي 400 طن من الإيبيريطا، مما شكل ثلث ما أنتجته فرنساوإنجلترا خلال الحرب العالمية الأولى. هذه الكمية تبقى ناقصة إذا أضفنا إليها 100 طن من هذه المواد السامة التي زود بها Stoltzenberg إسبانيا. كذلك، استنادا إلى الملحق العسكري البريطاني بمدريد، فإنه إلى غاية مايو من سنة1925 لم يكن مصنع La Marañosa قد أصبح ينتج الغازات، التي كانت تصنع خلال تلك الفترة بمصنع Aranjuez، حيث كان يعمل مجموعة من الخبراء الألمان لصنع 50 قنبلة معدنية يوميا، لتبعث، ليس فقط المصنوعة بأرانخويث، بل المصنوعة بكوادالاخارا كذلك، إلى مليلية لتعبأتها بالإيبيريطا، التي كانت تركيباتها (أي الإيبيريطا) تستورد من مصانع Stoltzenberg في هامبورغ بألمانيا وتخلط بمصنع مليلية. التركيبة الرئيسية المستوردة كانت مادة oxol، والتي كانت تسمى أيضا ب Fiodiglicol، إحدى المواد المفاعلة المستعملة في صنع الإيبيريطا. كما يشير المؤرخ البريطاني سيباستيان بالفور أن ضابطا إنجليزيا زار منطقة الحماية الإسبانية بشمال المغرب في يناير من سنة 1926، وبعد صعوبة جمة استطاع الإطلاع على المنشآت الكيماوية القريبة من مليلية التي كانت تحدث رائحة متميزة. ولم يكن هناك إحراج في إخباره بأن هذه المواد تستورد من ألمانيا، وأنه هناك تباشر فقط آخر مراحل مسلسل التصنيع (أي التعبأة). هذه المنشآت كانت تستطيع إنتاج حوالي 500 لتر يوميا من غاز الخردل (حوالي 800 كيلو)، في حين، كان يتم التخلص من مواد أخرى لكونها لم تكن فتاكة. من جانب آخر، تمت عملية توثيق استعمال الأسلحة الكيماوية بواسطة المدافع بشكل أسوأ، بحيث تقريبا لم تقم التقارير حول غازات هذه القطع الحربية بذكر نوعية الصواريخ (misiles) المستعملة، فقط تذكر حجم، قطر وعيار قطع المدافع. لكن، هناك مصدر وحيد يعطي فكرة حول عدد القذائف الكيماوية المستعملة. بحيث، إن الجداول الغير كاملة لكمية الذخائر التي كانت تحتوي عليها مخازن قوات المدفعية في سنة 1926 توحي بعمليات نقل كثيرة لما تسميه «قنابل الغاز» في قطاع مليلية وسبتة. ففي أبريل، هبطت احتياطات مليلية إلى 80 قذيفة وسبتة ارتفعت حتى 293 قذيفة. في الشهر الموالي أي مايو، سجلت مليلية 594 قذيفة، أما سبتة فقد استنفذت كل مخزونها. في شتنبر، كانت لدى مليلية 328 قذيفة، لكن بعد شهرين استنفذت هذه الكمية جميعها. في نفس الوقت، لا تقدم الوثائق معلومات حول زنة هذه القذائف، إلا أن عملية إطلاقها فقط من قطع المدفعية الثقيلة التي كان قطرها أو عيارها cm 15,5 يوحي بأن المسألة تتعلق بقذائف متوازية مع قنابل C5 للطائرات. من جهة أخرى، حسب التقارير العادية المتعلقة بالحرب الكيماوية ما بين سنتي 1926 و1927 والمتعلقة أيضا بكمية الأسلحة المخزنة بمخازن القوات الجوية، كان طبيعيا استعمال لحد تلك الساعة قنابل C5، وإن تم ذلك بكمية أقل مع توالي الوقت. فقد كان المطار الجديد لالدريوش Drius بإقليم الناظور يحتوي على 114 من قنابل ذلك الصنف. حيث أشارت الأرشيفات العسكرية إلى استعمال طائرات هذا المطار 160 قنبلة C5 خلال شهري يناير وفبراير. في حين، كانت مخازنه تحتوي ما بين شهري ماي وغشت على عدد 353 قنبلة C5، مما يوحي بعدم استعمال أية واحدة منها. أما في 21 غشت، فقد ارتفع العدد إلى 5.000، رغم المخاطر التي واجهتها عملية تخزينها، وكان ذلك راجع إلى الهجوم المرتقب على قبيلة تمسمان التي لم تستسلم رغم تعليق الغارات السابقة عليها. مهما يكن من أمر، يظهر بأن الغارات المكثفة التي كانت تميز الهجومات الجوية الأولى بالقنابل الكيماوية تم تعويضها، سنتين من بعد، باستعمال حذر لها. ذلك، أن المراجع العرضية التي تحدثت عن استعمالها توحي بأن قنابل غاز الخردل استعملت بشكل خاص ضد التحصينات ومواقع المدافع، دون نجاة القبائل منها. في نفس الوقت، كان سبب خفض كميات القنابل المستعملة راجع بالأساس، كما أشرنا سابقا، إلى خطة بداية توغل القوات الإسبانية والفرنسية داخل المناطق المتمردة. الفصل الثالث: الموت الذي لاحق الأجيال: أضرار غاز الفوسجين وغاز الخردل: بالنسبة لغاز fosgeno، فهو غاز صعب الإخفاء، ذو رائحة قوية مميزة، لذلك يعد غازا خطيرا للغاية، يحدث انفعالا كبيرا لخياشيم الأنف فيفقده حاسة الشم لمدة طويلة، لكن تأثيراته القاتلة تكون بسبب الضرر الذي يحدثه بالقصبة الهوائية والرئتين. أما مبيد الإيبيريطا (سميناه مبيدا، لأن القوى الاستعمارية تعاملت مع المغاربة ليس كبشر بل كحشرات، لأنه ليس من غريب الصدف أن تكون طريقة استعماله على غرار مبيدات الحشرات. فقد جاء على لسان الملك ألفونسو XIII ما يلي: «الذي يمكن بحثه هو الإبادة، كما يتعلق الأمر بحيوانات (bêtes malfaisantes حسب التعبير الفرنسي (بني ورياغل والقبائل الملتفة حول بن عبد الكريم»)، فهو غاز لا لون له، بمذاق حلو، يحدث أضرارا بليغة بالإنسان وبالبيئة، ويسبب قبض البطن واجتفاف الجسم. ذو رائحة كريهة تذكر بنبات الخردل والثوم. هذا الغاز يعمل داخل الجسم في اتصال مباشر مع الخلايا حتى يخربها. حين تنفجر القذائف أو القنابل المعبأة به تنتشر على شاكلة قطرات خفيفة تنزل على شكل مطر فوق الأهداف القريبة، مشبعة إياها بهذا الغاز، حيث يدوم مفعوله لمدة طويلة، قد تدوم 8 أيام في مساحة عارية وطقس جاف، بل شهرا في ملاجئ تحت أرضية، حقول ذات نبات كثيف، أطلال، دمار، خراب، ملابس، أحذية، مياه، ...إلخ. فهو عبارة عن غاز مخادع، حيث إن المتأثرين به لا يحسون بأدنى ألم أو مضايقات في البداية، إذ لا تظهر الأعراض الأولى إلا بعد حين. بحيث يتسرب عميقا في أنسجة الجسم، ويقوم بإذاية الكبد، الكليتين، المعدة، الأمعاء، والجهاز العصبي المركزي. أما مفعوله الخارجي فيحدث انتفاخا في العينين، التدمع الدائم وتشنج الجفن. بحيث يجد الشخص المصاب صعوبة في النظر، بل إن العمى يمكن أن يكون بشكل دائم. بالنسبة لأعضاء الجهاز التنفسي، تكون الأعراض الأولى عبارة عن جفاف في الحنجرة، وصوت سعال على نمط رنين جرس معدني، داء السل، الأزما (صعوبة التنفس أو الضيقة)، مشاكل في القلب، ومرض السرطان. بالنسبة للجلد، فإن الأعراض تكون عبارة عن انكماش وانتفاخ في المكان المصاب، وحكة شديدة في أغلب الحالات. كما أن الإنسان إذا لمس التراب، النبات أو الماء يتفزر جلده مثل قشرة البطاطا التي غليت بالماء، وبشكل متتابع، تظهر بعض البقع الحمراء تبدأ بالامتداد لتحدث دمامل (كأكياس بلاستيكية مملوءة بالماء)، والتي يمكن أن تشكل قرحات لمدة طويلة. فإذا ما تعرض الشخص لإشعاع هذه المادة لمدة طويلة يموت على الفور. كذلك، بالإضافة إلى الأضرار الجسدية، تحدث الإيبيريطا صدمة نفسية، إذ يصاب المرء بعدم التركيز والاكتئاب. والأدهى، أن التقدم الطبي كان لا يزال خلال تلك الفترة عاجزا عن معالجة هذه الأضرار. وقد أكدت جميع الاستجوابات التي أجريت سواء بمنطقة جبالة أو الريف مع شهود العيان هذه الأعراض. إن أقدم تقرير حول أضرار غاز الخردل يعود إلى الأيام اللاحقة للهجومات الجوية الأولى ليونيو من سنة 1924. فيه تأكد بأن سكان مدشر بني توزين عانوا من الحرائق والغثيان، بعضهم عمي وآخرون عانوا من مشاكل في النظر، بل إن الذين أتوا بعد ذلك بقليل عانوا من دمامل في جميع أجزاء الجسم. وقد كان رد الفعل الذي لم يستطع المصابون احتماله، حسب التقرير، هو الخوف والرعب الذي أعقب الغارات. ففي يوم 3 يوليوز، استطاع بعض الشهود رؤية ثلاثين من سكان بني ورياغل بأجسام مغطاة بالجروح. ويوم 16 من نفس الشهر، أفاد شهود عيان بروز مرض جديد وعجيب يصيب المغاربة الموجودين بالداخل، خصوصا من سكان قبائل بني ورياغل وتمسمان، يتمثل في التدمع المزمن والزكام الأنفي، ومن ثم لم يكن هناك شك بأن الأمر يتعلق بأضرار غاز الخردل من مسافة قريبة من موقع الانفجار. كذلك، تنبه هؤلاء شهود العيان إلى أن السكان أصبحوا يتحاشون أكل المنتوجات الفلاحية، كفواكه الأشجار، نتيجة لتلوثها بهذا الغاز القاتل. لقد أعطت النشرات الإخبارية الإسبانية والأوربية الأكثر أرثودوكسية، والتي تغاضت عن ذكر استعمال هذهالأسلحة الكيماوية نظرا لحصولها على المعلومات من مصادر رسمية أو ثانوية (oficiales o secundarias) إسبانية، أهمية قصوى إلى انتشار وباء التيفوس، الذي كان منتشرا خلال تلك الفترة، كعامل أساسي في دحر المقاومة المسلحة الريفية. في هذا السياق، فإن أحد أهم أعراض التيفوس انتشار بقع ذات لون أرجواني بجلد الإنسان، كذلك، الإصابة بالحمى وبالكآبة. ومن ثم، هناك خلط خلط مقصود ما بين الفقاعات ذات اللون الغامق والتعب الذي يحدثه غاز الخردل مع أعراض التيفوس، خصوصا وأنه أمام نية إخفاء أية مرجعية تؤكد استعمال غاز الخردل، قامت بتشجيع هذا التأويل، أي إرجاع سبب هذه الأعراض إلى مرض التيفوس وليس إلى استعمال غاز الخردل. 2- مرض السرطان وعلاقته بالغازات الكيماوية السامة: ارتفاع نسبة مرضى السرطان بشمال المغرب:
انتهت الحرب الكيماوية بعد استسلام آخر المقاومين في الشمال يوم 10 يوليوز سنة 1927 مخلفة وراءها المئات من القتلى وآلاف الجرحى. في هذا الإطار، فرغم القسوة التي واجهت بها فرنسا المقاومة المسلحة بمنطقة حمايتها، لم تقم باستعمال هذه الغازات السامة المحظورة، أو على الأقل، لم نعثر على دليل لاستعمالها من طرف فرنسا في الأرشيفات الألمانية، الفرنسية، البريطانية أو الإسبانية. رغم هذا، اطلعت على مقال بجريدة الأحداث المغربية لمراسلها بتطوان، لم يشر إلى إسمه، يذكر فيه أن مصدرا متخصصا، لم يذكره كذلك، أشار استنادا إلى وثائق وزارة الدفاع الفرنسية والوثائق الديبلوماسية، تتعلق بما ذكره القائد أرمانكو، قائد القوات الجوية الفرنسية بالمغرب، أن ضربة واحدة في بني زروال يوم 9 ماي من سنة 1925، وفي ظرف وجيز جدا لا يتعدى الدقيقة، خلفت ما يناهز 800 ضحية. من خلال اطلاعنا على وثائق الأرشيفات السالفة الذكر، لم نجد ما يشير إلى استعمال لا إسبانيا ولا فرنسا لغازات سامة ببني زروال. كذلك، تكلم المراسل عن تحالف إسباني فرنسي لم يفرق في هجوماته ما بين الأهداف المدنية والعسكرية من خلال إستهدافه للأسواق الأسبوعية والمحاصيل الزراعية والدواوير، ومن ثم، فقد سبق وأن ذكرنا بأن إسبانيا وحدها سلكت هذه الحرب القذرة عملا بنصيحة الألماني Stoltzenberg. لذلك، كنت أتمنى لو ذكر المراسل إسم المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات، مرفقا بالبيبليوغرافيا، حتى تكون الأمور أكثر توثيقا. بمحض الصدفة، استطعت الحصول على المرجع الذي اعنمده مراسل الجريدة، والذي هو عبارة عن استجواب أجري مع أحد المختصين في موضوع الحركة الخطابية (كنت اتصلت به في تطوان قبل ذلك من أجل مدي بمعلومات حول موضوع استعمال الدول الكولونيالية للغازات السامة، لكنه نفى معرفته بالموضوع) بإحدى الجرائد الوطنية، استنادا إلى جنرال وليس القائد أرمانكو، كما ذكر مراسل جريدة الإحداث المغربية. ففي صفحة كاملة من الاستجواب، نجد فقط ثلاثة أسطر تشير إلى المعلومات السالفة المتعلقة باستعمال الغازات السامة، وهي استنباط من الأستاذ حول إمكانية ارتباط الأعداد الكبيرة من الضحايا باستعمال الغازات السامة، دون تحديد الدولة التي قامت بذلك. إن التقارير المعتمدة على معلومات معدة من طرف مخبرين مغاربة حول زيادة هجرة السكان منذ يونيو من سنة 1924 من المناطق المتضررة من الغارات في اتجاه منطقة الحماية الفرنسية، توحي حجم المعاناة التي سببتها قنابل T.N.T، القنابل الحارقة والقنابل الكيماوية. حيث تشير إحدى تلك التقارير: «لقد انحطت معنويات العدو...إنهم يخافون تلك الغارات، ومن ثم، من المستحسن استعمالها بكثافة». وهكذا، ذكر هؤلاء في شتمبر من سنة 1925، مشاهدة زمرة كبيرة من الناس عميان بالقبائل. في نهاية الحرب، أي لما بدأت طبيعة الغارات الكيماوية تقل بصفة كبيرة ما بين سنتي 1926 و1927، توفي مآت المغاربة، وممكن الآلاف تعرضوا لإصابات خطيرة بسبب تضررهم بالمواد الكيماوية المسببة للموت والملقاة عليهم طوال ست سنوات. لكن أخطر نتيجة خلفتها، والتي لا زالت تمس سكان شمال المغرب، هي انتشار مرض السرطان بشكل ملفت للنظر بالمنطقة الشمالية للمغرب. فلا إسبانيا ولا باقي الدول التي استعملت غاز الخردل خلال تلك الفترة كانت تعرف بأن له تأثير خطير لمدة طويلة، ذلك أنه في قبيلتين قريبتين من مدينة مولد الزعيم محمد بن عبد الكريم أجدير، تكلم السكان عن إصابات ووفيات حدثت بين عائلاتهم بسبب ما يسموه السم، أي غاز الخردل، وأن نوعية السرطان السائدة هناك هي سرطان الرئة والقصبة الهوائية وسرطان الدم Leucemia، وهي أعراض لواحدة من أضرار غاز الخردل. لقد حكى أحد القرويين من قبيلة تافراست Tafrast (أظن تافرسيت) أنه قبل مولده بأيام قليلة سقطت ثلاثة قنابل غاز الخردل في فناء بيت عائلته، نتيجة لذلك أصيبت أختاه بالعمى المزمن وتوفيتا بمرض السرطان سنوات بعد ذلك، في حين سقط شعر أخيه البكر وأمه عانت من مشاكل في جهازها التنفسي طول حياتها حتى وفاتها بسرطان الرئة. شخص آخر من نفس القبيلة ذكر بأن جده، أباه، أمه، عمته وأخته توفوا جميعهم بسرطان الحنجرة والصدر، بسبب انفجار قنبلة السم قريبا من مكان تواجدهم. ثالث من قبيلة قريبة أكد بأن المكان الذي كان النبات ينمو فيه بغزارة أصبح بعد تعرضه لغارة بقنابل الغاز قاحلا لمدة خمس أو ست سنوات. في هذا الإطار، حسب جمعية وطنية فإن 60% من المرضى الخاضعين للعلاج من مرض السرطان بالمركز الاستشفائي سيدي محمد بن عبد الله بالرباط جاؤوا من نواحي الحسيمة والناظور، اللتين تعرضتا بشكل مكثف للغارات بالأسلحة الكيماوية. هذه الإحصائيات تبقى نسبية نظرا لشمولها فقط على عينة من المصابين، حيث بقي العدد الحقيقي غير معروف نتيجة عدم قدرة أكثرية المصابين الانتقال إلى الرباط بسبب الظروف المادية، ثم انتقال بعض المصابين إلى مستشفيات عمومية بحيث لا يشملهم الإحصاء، بالإضافة إلى وفاة الأغلبية دون تحديد سبب وفاتهم بمرض السرطان. رغم ذلك، فهذه الإحصائيات تمدنا ببعض احتمالات تأثير الغازات الكيماوية على الأجيال الجديدة في شمال المغرب. فمن بين 2.624 طفل خاضع للعلاج بالمركز الاستشفائي بالرباط ما بين سنتي 1986 و1988، 49% أتوا من الشمال، في حين يبقى أغلبية الآباء المنتمين لهذه المنطقة ليس في مقدورهم إرسال أبنائهم إلى العاصمة من أجل تلقي العلاج، وهذا ما يدل على أن أعداد الأطفال المصابين بشمال المغرب يفوق بكثير الإحصائيات الرسمية.
الإثبات العلمي لعلاقة الغازات الكيماوية بمرض السرطان: في موضوع علاقة الغازات السامة بمرض السرطان، يشير René Pita، أستاذ بالمدرسة العسكرية للدفاع (النووية، البيولوجية والكيميائية)، ومتعاون مع شعبة علم التسمم والصيدلة بكلية البيطرة بجامعة كوملوطينسي بمدريد، اعتمادا على الدراسات التي أجريت من طرف خبراء عالميين من مختلف الدول، إضافة إلى دراسات وزارة الدفاع بالولايات المتحدة، أن أضرار الإيبيريطا يمكن تلخيصها على الشكل التالي: تعتبر الوكالة الدولية للأبحاث حول داء السرطان (ليون بفرنسا) في هذا الاتجاه أن الإيبيريطا هي مادة مسببة للسرطان بالنسبة للإنسان. لأنه لوحظ مرض مجموعة من عمال مصنع الإيبيريطا بسرطان الجهاز التنفسي، خصوصا إذا كان التعرض لها بشكل دائم. ومن ثم، هناك صعوبة في تأكيد هذه العلاقة في حالة التعرض لتأثيرها مرة واحدة، كما هو الحال في حالة الحروب. بالنسبة للتأثيرات على المواليد، كالإعاقة أو الأمراض الوراثية، فإن معهد الطب بالولايات المتحدة وصل إلى نتيجة تتمثل في صعوبة وقلة ضمان إثبات وجود هذه العلاقة على نظام التوالد عند الأشخاص. في نفس الاتجاه، هناك دلائل افتراضية بواسطة المعاينة السريرية على أن غاز الخردل يمكن أن يكون السبب في تغير الجينوم genoma والنقل الوراثي للسرطان من المصابين بالغازات الكيماوية لسنوات العشرينات إلى سلالتهم. لقد أشارت التجارب المجراة على الحيوانات بالولايات المتحدة وفي أماكن أخرى على أن مادة غاز الخردل تسبب أضرارا وراثية ويمكنها إحداث تشوهات وراثية في خلايا الخصوبة للنسل. أما فيما يخص تضرر البيئة بشكل دائم بسبب الجرعات الكبيرة المسكوبة لغاز الخردل، فقد أثبتت المعاينة للمناطق المتضررة هذه العلاقة، إذ هناك مناطق كبقيوة وبني بوفراح و أجدير ينمو فيها النبات بشكل غير عادي. فمنزل الرجل الذي سقطت القنابل بفناءه لم ينم النبات فيه البتة، في حين، ينمو النبات تقريبا بوفرة في الأراضي المجاورة له. كذلك، فحسب المصادر الشفوية، فإنه في المناطق الملوثة بغاز الخردل، كانت الماشية تموت بسبب تناولها للحشائش الملوثة بهذه الغازات، والنبات لا يعود إلى النمو خلال عدة شهور، وفي نفس الوقت، فإن الماء أو الحجر المستعمل للوضوء أو التيمم يقوم بسلخ الجلد مثل قشرة البطاطا المسلوقة. 3- هل تعترف إسبانيا وتعتذر عن جرائمها ؟: بالنسبة للتعويضات المطلوبة من طرف هيئات المجتمع المدني المغربي فهي ليست مادية بالأساس، و تروم في مجملها إلى الطلب من الحكومة الإسبانية الاعتراف بهذه الحرب المحظورة دوليا و تقديم اعتذار رسمي عنها إلى عائلات الضحايا، كذلك، القيام بإنشاء بنى تحتية في إطار عملية تنمية الأقاليم الشمالية، منها بالخصوص إنشاء مركز استشفائي لمرض السرطان المنتشر بكثرة في هذه المنطقة والذي يجعل من الصعب على سكانها الانتقال إلى المركز الاستشفائي الوحيد بالمغرب بالرباط وهو مستشفى سيدي محمد بن عبد الله. في هذا الإطار، فإن الجانب الإسباني، وأخص منه بالذكر كلا من María Rosa de Madariaga وAngel Viñas، يرى أنه لا داعي لاعتذار إسبانيا عن استعمال هذه الغازات الفتاكة والمحظورة دوليا سنة 2002 لما اقترفته الملكية الألفونسوية والبريموريبيرية خلال فترة العشرينيات، ما دام المغرب لم يقم بتقديم اعتذار رسمي إلى الشعب الإسباني عن الجرائم –حسب زعمهما- التي اقترفها المغاربة خلال مشاركة فرق الجيش المغربي في الحرب الأهلية الإسبانية. من هذه الناحية، لا أعرف أية علاقة بين استعمال الغازات وتدخل فرق الجيش المغربيفي الحرب الأهلية الإسبانية، ذلك، كوننا نتكلم بصيغة قانونية تتعلق باحترام أوفاق الحرب، حيث إن الجيش المغربي دخل بصورة شرعية إلى الأراضي الإسبانية تحت قيادة إسبانية ولم يقم بسلوكات تنافي قانون الحرب، على عكس الحكومات الإسبانية، فإنها قامت بحرب إبادة جماعية، وهو ما يصطلح عليه اليوم بالحرب ضد الإنسانية. وما يدل على طرحنا، قيام عدة حكومات بالاعتذار لدول أخرى عن جرائمها في فترة سابقة، منها على سبيل المثال اعتذار الحكومة الإيطالية للشعب الإثيوبي سنة 1996 عن استعمالها لهذه الغازات السامة سنة 1935. خاتمة: شهد النصف الثاني من القرن 19 تسابقا بين الدول الإمبريالية في استعمار الدول الفقيرة من أجل البحث عن أسواق ومصادر الطاقة والمواد الخامة، بعد أن وصلت الرأسمالية الصناعية إلى أوج ازدهارها. وبالفعل كان لابد من سبب لتبرير تدخلها هذا وجدته في هدف «إنساني نبيل» تمثل في تحديث وتطوير مؤسسات وإنسان هذه الدول. ولسخرية القدر كان لابد من سلوك منهج العنف للوصول إلى هذا «الهدف النبيل» أمام «تعنت هذه الشعوب في رفض الحضارة لأنها تحب التخلف وحياة البدو»، ومن ثم كان من اللازم استخدام أعتى الأسلحة من رشاشات إلى مدافع فدبابات، وحتى الطائرات، بل أسلحة الدمار الشامل ضد شعب لا يملك من العتاد سوى بعض الخماسيات وإيمانه بقضيته. في الحقيقة، كانت مقاومة المغاربة تعبيرا عن رفض الخضوع للقيم التي أرادت هذه الدول تركيزها داخله، لأنه وعى منذ اللحظة الأولى أن قيمها تلك لم تكن سوى واجهة أرادت من خلالها تدمير بنياته الأساسية القائمة على مؤسسات تسير وفق تفكير منبثق من تقاليده البربرية والعربية، ثم الإسلامية واليهودية، وعلى أسس اقتصادية في أغلبها فلاحية وتجارية، أو ما عرف في الأبجديات الماركسية بنمط الإنتاج الأسيوي. يضاف إلى هذا استناده على نظام عشائري تراتبي، سواء بالحواضر أو القبائل، كانت فيه الشرافة أو الانتماء إلى البيت النبوي تخول لصاحبها مشروعية ممارسة السلطة. لذلك، وعت الدول الكولونيالية أن أقصر طريق لتركيز النظام الرأسمالي القائم على النهب والاستغلال يمر عبر تدمير هذه البنيات. لهذا، وبسبب وعيها بعدم تكافؤ موازين القوى ومعرفتها الجيدة بالجغرافية، سلكت المقاومة المسلحة المغربية استراتيجية عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع العدو باللجوء إلى حرب العصابات - التي اقتفاها كل زعماء التحرر العالمي من هوشي مينه، إلى ماوتسي تونغ، فالماريشال تيتو، عمر المختار، حتى تشي غيفارا-، وهذا ما خول لهم دحر جيش إمبريالي من بين أعتى الجيوش الأوربية، ومن ثم اكتساب عطف كل التيارات المناوئة للإمبريالية. بالفعل، لم تكن هذه الهزيمة المخجلة والكابوس المزعج أن يمر دون انتقام، باللجوء إلى حرب قذرة باستخدام ما يعرف اليوم بأسلحة الدمار الشامل، ليس فقط ضد المقاومين، بل ضد المدنيين من أطفال، نساء وعجزة، بل كذلك ضد الحيوانات، ولم تسلم منها حتى البيئة من نبات، شجر وماء. فرغم اطلاع الدول الأوروبية على استخدام إسبانيا هذه الغازات الفتاكة المحرمة دوليا طبقا لمعاهدة فرساي المعدلة ببروتوكول جنيف، فإنها لزمت الصمت، لأنها كانت متورطة فيها بشكل غير مباشر من جهة، وأخص منها بالذكر ألمانياوفرنسا، دون إغفال استعمالها خلال الحرب العالمية الأولى. أما إنجلترا فإنها تغاضت الطرف لأنها كانت متورطة فيها في دول أخرى بآسيا كالعراق وأفغانستان. يضاف إلى هذا، عامل استراتيجي تمثل في تأكيد مقدرة الدول الكولونيالية في دحر أية حركة تحررية بالمستعمرات تروم الانعتاق من قبضتها. لهذا وقع تعتيم على استعمال هذه الدول لهذه الحرب القذرة حتى لا تلطخ سمعتها في أوساط الرأي العام العالمي. لقد تركت حرب الغازات الكيماوية السامة هذه التي استخدمتها إسبانيا نتائج سلبية على المنطقة لا زالت تعاني منها حتى اليوم، أخص منها بالذكر مرض السرطان الذي يحصد اليوم نسبة مهمة من سكان المنطقة، خصوصا الأطفال. لكن الملاحظ هو صمت فعاليات المجتمع المدني عن هذه الجرائم التي تدخل ضمن ما يسمى اليوم بالجرائم ضد الإنسانية، وهذا راجع بالأساس إلى غياب الدراسات التي توضح وتثبت استعمال إسبانيا لهذه الحرب. وقد تم مؤخرا خروج ملف استعمال إسبانيا للغازات السامة ضد المدنيين المغاربة إلى النقاش الرسمي، حيث قدم مشروع قانون إلى البرلمان الإسباني من طرف حزبين صغيرين كاطلانيين، بضغط من بعض الفعاليات والأكاديميين المغاربة والأجانب. ورغم أن الحزبين الرئيسيين في إسبانيا، الحزب الشعبي والحزب الاشتراكي العمالي الإسباني الحاكم حاليا، قد صوتا ضد المشروع، فإن دخول الملف في غرفة البرلمان يعتبر خطوة جريئة في اتجاه المصالحة مع الذاكرة التاريخية. كذلك، من الجانب الرسمي المغربي، فقد طالب البرلمان المغربي باعتذار إسبانيا عن استعمال هذه الغازات وتعويض الضحايا، بعد مطالبات عدة من لدن الفعاليات والأكاديميين المغاربة، وهو إجراء يسير في اتجاه تجاوز معيقات التصالح مع الذاكرة المشتركة المغربية الإسبانية، وبناء مستقبل خال من حسابات تفتح دائما آلاما ماضوية، خصوصا وأن التعويض الذي يطالب به الضحايا، ليس ماديا بالأساس، بل فقط، المساهمة في تنمية المنطقة، عن طريق إحداث بنى تحتية تساعد السكان في تجاوز جروح الماضي، وفتح أبواب المستقبل أمامهم.