لم يخف إدريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، إعجابه بثلاثة رجال كان يصنفهم بأنهم «رجالات دولة»، فقد اشتغل إلى جانبهم وانقلب عليهم وخاض مع بعضهم صراعات في كواليس المربع الأقرب إلى أهل القرار. أولئك الرجال هم الجنرالان محمد أوفقير وأحمد الدليمي، والمستشار أحمد رضا كديرة. وكان يروق للبصري، في أيامه الأخيرة، أن يردد أنه رابعهم في الوفاء للعرش، غير أن أحدا لا يمكن أن يشارك الرأي في وفاء الجنرال أوفقير، الذي كان أكثر إعجابا به، وربما أن القاسم المشترك بين أوفقير وكديرة هو أن الرجلين معا عملا وزيرين في الداخلية، التي استلمها البصري القادم من نفس المدرسة، مع إضافة بعض التوابل على طبخاتها الانتخابية وغير الانتخابية، لكنه عمل مديرا لديوان الدليمي حين كان الأخير مديرا عاما للأمن، والتقى معه في ما يشبه الند للند عندما عينهما الملك الراحل الحسن الثاني مسؤولَين في الاستخبارات، البصري على رأس مديرية حماية التراب الوطني، التي لم يغادرها إلا في صيف 1999، والثاني مسؤولا أول عن مديرية الدراسات والمستندات (لادجيد)، التي أبعدته عنها حادثة سير قاتلة في مطلع عام 1983. هنا سلسلة حلقات عن رجل الشاوية القوي، في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، تغوص في أعماق تجربته، بما عرف عنه وما لم يكن متداولا على نطاق أوسع. ما بين استضافة مراكش للمؤتمر الدولي لمنظمة التجارة العالمية، وحدوث الهجمات الإرهابية على فندق أطلسي أسني، هناك أقل من أربعة أشهر تفصل بين الحدثين. الأول في مغزاه التاريخي الذي يشير إلى أهمية اختيار المغرب لاستضافة مؤتمر بذلك الحجم في حضور نائب الرئيس الأمريكي آل غور وأصحاب القرار في الدول الاقتصادية المصنفة. باعتباره أول بلد عربي وإسلامي إفريقي يحظى بهذا الامتياز. والثاني في دلالاته التي همت تدويل الظاهرة الإرهابية انطلاقا من الجزائر التي لم تقبل أن تكون استثناء في منطقة الشمال الإفريقي، وسعت إلى تصدير مشاكلها الداخلية بتلك الطريقة التي تضافرت على إخراجها أجهزة استخباراتية ومتطوعون وعملاء جندوا للقيام بمهمة تروم زعزعة أمن واستقرار المغرب. منذ بداية عام 1994، بدا أن العلاقات المغربية الجزائرية انحدرت إلى هوة سحيقة من الخلافات، على عكس المؤشرات الإيجابية في الانفراج التي توجت السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الجزائري الشاذلي بنجديد. وقد شكل اغتيال الرئيس بوضياف القادم من المغرب في اتجاه الجزائر، باعتباره يمثل الشرعية التاريخية رسالة واضحة تفيد بأن العلاقة بين الجزائر والمغرب لا يمكن وفق الساسة الجزائريين أن تمضي في الأفق الذي رسم لها، أقله الانقلاب على كل المكاسب التي سجلها البلدان، وفي مقدمتها فترة الوفاق التي أدت إلى تأسيس الاتحاد المغاربي، في ضوء اتفاق البلدين في قمة إيفران لعام 1988 على تجديد العمل باتفاقية ترسيخ الحدود وحسن الجوار. وقد تجلى ذلك في إعادة العلاقات المغربية الجزائرية إلى نقطة الصفر، وتحديدا من خلال عودة الجزائر إلى العزف على طروحاتها في ملف الصحراء أمام الأممالمتحدة. بعد أن ساد اعتقاد بحدوث نوع من التغيير في الموقف الجزائري على عهد الرئيس بنجديد. بسبب ذلك التصعيد اضطر المغرب إلى طلب تجميد العمل داخل مؤسسات الاتحاد المغاربي، احتجاجا على تصرفات الديبلوماسية الجزائرية التي كانت تناقض مضمون المعاهدة التأسيسية للاتحاد المغاربي، لذلك فقد استمرت أجواء التوتر والحذر طوال منتصف العام 1994. غير أن ذلك لم يحل دون استمرار تدفق زيارات المواطنين الجزائريين إلى المغرب في مقابل زيارات أقل من الطرف المغربي. غير أن يوم الرابع والعشرين من غشت 1994 سيشكل حدا فاصلا في هذه العلاقات، فقد استفاق المغاربة ذلك الصباح على ذوي الأنباء التي تحدثت عن تعرض فندق أطلس أسني في مراكش لهجمات إرهابيين مسلحين أدت إلى مقتل سائحين إسبانيين على الأقل. في ذلك الصباح عرفت إقامة إدريس البصري وزير الداخلية حركة غير عادية، إذ تحولت إلى خلية عمل لمتابعة الموقف. ووفق بعض المصادر، فإن ولي العهد الأمير سيدي محمد (الملك محمد السادس) كان أول من تلقى تقارير ضافية عن الحدث ، وكان ذلك مؤشرا عن انخراطه في صلب التحديات التي تواجهها البلاد، سيما وأن الحادث وقع بعد أقل من شهرين على ترقيته وصنوه الأمير مولاي رشيد إلى درجة عليا في المؤسسة العسكرية، إضافة إلى تلقيه خبرات وتداريب في المناطق الصحراوي المتاخمة للحدود المشتركة مع الجزائر شرقا. لم يمض على تنفيذ تلك الهجمات التي اعتبرت الأولى من نوعها التي يتعرض لها المغرب الآمن داخل حدوده، غير فترة قصيرة جدا، اكتشف خلالها المغاربة أن الجزائريين يقفون وراء الحادث، ليس من خلال اللكنة التي كان يتحدث بها المهاجمون الذين أطلقوا الرصاص فقط، وإنما استنادا إلى معلومات دقيقة نحت في اتجاه تقصي خلفيات الحادث وأبعاده، خصوصا في ظل الاتصالات التي جرت مع بعض العواصم الأوربية، وتحديدا فرنسا التي يحمل المتهمون جنسيتها. كان الامتحان عسيرا بالنسبة لإدريس البصري، كون تسلل أولئك المهاجمين يعني أن هناك حالة استرخاء، وأن السلطات لم تتمكن من توقع مثل هذا الحادث، في وقت كانت الجزائر تخطط فيه لمفهوم تدويل الإرهاب، لذلك فقد تم اللجوء إلى فرض تأشيرات على المواطنين الجزائريين الراغبين في زيارة المغرب، فيما جرت تحريات مع أعداد من المقيمين منهم لتقصي ملابسات الحادث، غير أن السلطات الجزائرية لم تكتف بالرد بالمثل، بل أضافت إلى فرض التأشيرة على المواطنين المغاربة قرار إغلاق الحدود من طرف واحد. في سابقة تنم عن أقصى درجات التصعيد والتوتر. عندما ذهب إدريس البصري إلى البرلمان ليعرض تفاصيل ما وقع أمام لجنة الداخلية التي دعيت للالتئام على عجل، وجد أمامه موقفا موحدا، أجمع عليه نواب المعارضة والمولاة على حد سواء، يقضي بأن كل المغاربة يقفون في صف واحد ضد كل المحاولات التي تستهدف أمن وسلامة البلاد، وقد شكل الوعي الشعبي الذي قاد إلى اعتقال المتورطين بعد مغادرتهم مراكش، من دون أن يتمكنوا من الفرار, ردا قويا على المخططات الجزائرية، فيما قادت تحريات إلى اكتشاف مخازن أسلحة في المنطقة الشرقية، بما يوحي أن المخطط كان أكبر من حادث الهجوم على فندق سياحي. ستبدأ في غضون ذلك عمليات إعادة تقليب الملفات، خصوصا الأعمال الإرهابية التي كانت فرنسا مسرحا لها في الأعوام السابقة، وكذا سجلات المهاجرين المغاربيين الذي يفدون على البلاد. سيما وأن منفذي تلك الهجمات لم يكونوا يحسنون اللغة العربية بالرغم من أن الهجمات ارتدت عباءة دينية، على غرار أعمال العنف المنتشرة في الجزائر. وفيما عرض المغرب دلائل قوية حول تلقي المهاجمين تداريب في استخدام الأسلحة في معسكرات جزائرية، وأخرى في ضواحي فرنسية، فإن السلطات الجزائرية تمسكت برفض المسؤولية، ما حال دون قيام أي نوع من التعاون أو التنسيق بين البلدين في التصدي للظاهرة الإرهابية. عندما زار وفد إعلامي مغربي الجزائر على إثر انتكاسة المسلسل الانتخابي، صرح الشيخ عباس مدني زعيم جبهة الإنقاذ الإسلامية أن لديه معلومات تفيد السلطات الجزائرية وقتذاك بصدد توزيع الأسلحة والتخطيط للقيام بأعمال عنف، على أساس أن تنسب إلى الجماعات الإسلامية، كان ذلك يعني، قبل اندلاع موجات الاقتتال الداخلي وارتفاع الأصوات الداعية إلى الاستئصال، أن السلطات الجزائرية ليست بعيدة عما يراد التخطيط له وتنفيذه، وبالتالي فإن محاولة تدويل أزمتها لاحقا في اتجاه المغرب كان واردا، غير أن السلطات آنذاك لم تعر الأمر كبير اهتمام. ثمة من يذهب إلى أن البصري الذي كانت تربطه علاقات بكبار المسؤولين الجزائريين، كان مطمئنا إلى أن الصراع الداخلي لن ينتقل إلى الواجهة المغربية. وأنه سيبقى محصورا في ساحة بلد المليون شهيد. غير أن الاحتمال لا يستقيم أمام حقيقة أن العلاقات القائمة بين الجزائر والمغرب، حتى في فترة الانفراج، لم تكن خالية من أسباب ودوافع الارتياب. بالنظر إلى أنه لم يكن في الجزائر محاور وحيد في الإمكان الاطمئنان إلى بسط كل الملفات أمامه. فقد كان الملف موزعا بين أجهزة الاستخبارات والجيش وبقايا جبهة التحرير الجزائرية التي يعتقد أنها كانت أكثر عداء من غيرها. الراجح أن المغاربة الذين شيدوا رهانات على المدى الذي تستطيعه قيادة الرئيس الشاذلي بن جديد، فاجأتهم تطورات الأحداث التي دفعته إلى الاستقالة. وحين انتبهوا إلى تنكر الجزائر إلى كثير من التزاماتها كان الكثير من الوقت قد فات. وقد برزت تناقضات جلية في هذا النطاق بين الدكتور عبد اللطيف الفيلالي وزير الخارجية ثم وزير أول وبين إدريس البصري. فقد كان الأول يدفع في اتجاه الإفادة من الأزمة الداخلية التي تجتازها الجزائر، على أساس فرض شروط لتسوية الملفات العالقة. وحين طلب إليه مسؤولون جزائريون إمهالهم بعض الوقت إلى حين ترتيب أمور البيت الداخلي، كان مقتنعا أن الأمر لا يعدو أن يكون مناورة لكسب الوقت، فيما أن إدريس البصري كان يرى عكس ذلك أن تقديم المزيد من المؤشرات عن حسن النوايا في إمكانه أن يدفع الجزائر لرد الدين إلى جاره المغرب، لكن ذلك لم يحدث. لم يكن الملك الراحل الحسن الثاني يرغب في التدخل في الشؤون الداخلية للجزائر، بل إنه صرح مرارا أن أي موقف يتخذه المغرب مهما كان إيجابيا، فإنه يحرك سواكن الوضع الداخلي في الجزائر. غير أن أحداث أطلس أسني جعلته أكثر اقتناعا بأن الجزائر دخلت معركة مفتوحة مع المغرب على كل الجبهات، وكان يتصور أن قرار فرض التأشيرة على الزوار الجزائريين سيكون محدودا في الزمان والمكان، أي أنه سينتفي بمجرد انتفاء بواعثه، إلا أن حسابات الجزائريين كانت تنحو في اتجاه آخر. ولعل أول تقرير سيوضع على مكتب الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بعد انتخابه رئيسا للبلاد. كان يتضمن معلومات مغلوطة حول ما زعمت بعض الأوساط الجزائرية أنه مناشير تلقتها الجزائر جراء فتح حدودها مع المغرب وتسهيل حركة تنقل الأشخاص والبضائع ، وشدد التقرير وفق أوساط جزائرية كانت وراء إنجازه على أن من الأفضل للجزائر أن تنكفئ داخليا. وتحول دون استمرار زيارات الجزائريين إلى المغرب، بذريعة أن الاقتصاد المغربي في إمكانه أن يستوعب الرأسمال الجزائري، وعكس ذلك حاصل بالنسبة لاقتصاديات الجزائر التي كانت في طريقها لتلمس مزايا اقتصاد السوق، غير أن هاجس إضعاف المغرب سيظل قائما في كل الرهانات الجزائرية، انطلاقا من عقدة مستحكمة في التاريخ. ولم يكن حادث أطلس آسني سوى إحدى الأدوات التي استخدمت من أجل تكريس مفهوم ذلك الإضعاف الذي حولته يقظة الشعب المغربي إلى قوة.