حينما كنا أطفالا، لم يكن في متناولنا كل هذا الكم من القنوات الأرضية والفضائية العربية والأجنبية بكل اللغات واللهجات والأشكال والتخصصات، وبسيل من البرامج المباشرة والمسجلة، الطويلة والقصيرة.. كنا نشاهد قناتنا الوطنية الوحيدة التي كانت تبدأ بثها في السادسة مساء وتنتهي في الحادية عشرة وتعرض مسلسلا مصريا وحيدا بمعدل حلقة في الأسبوع، وفيلما كل يوم جمعة غالبا ما يكون كلاسيكيا تنبعث منه أصوات عبد الحليم وشادية، وتتلاعب بداخله خصلات شعر أنور وجدي وضحكات إسماعيل ياسين البهلوانية. مرت السنوات راكضة، لتحتل الصحون المقعرة السطوح والشرفات والنوافذ، ولنصاب بتخمة القنوات الملتقطة من كل القارات، وليصاب العباد بالتيه بين الأطباق المقدمة والوصفات المعدة حسب الطلب وحسب الأهواء والأعمار.. الشيوخ يختارون القنوات الدينية، والأقل منهم سنا القنوات الإخبارية، والشباب القنوات الرياضية والغنائية وقنوات الأفلام، أما الصغار فإنهم يجلسون مشدوهين أمام قنوات الأطفال، لكنهم يقتاتون أيضا من أطباق الشباب والكبار، وقد يظلون أمام الشاشات إلى ساعات متأخرة من الليل. أما النساء فقد خُصصت لهن العديد من القنوات الفضائية، وهناك من تحمل أسماء أنثوية لجذبهن، بالإضافة إلى البرامج الموزعة هنا وهناك والتي في غالبيتها تخاطب نموذجا واحدا من النساء أو بالأحرى تحاول أن تخلق نساء مستهلكات، خاضعات، بليدات لا يهمهن غير مظهرهن وشعرهن وآخر صيحات الموضة في اللباس والأواني والفراش، برامج تختصرهن في كائنات لا عقل لها، ليست معنية بقضايا العالم السياسية والاجتماعية والثقافية، بل فقط دمى، لا همّ لهن سوى شكلهن. اعتناء المرأة بأناقتها وجمالها وألقها ليس سببا وحيدا لوجودها والمحور الذي تدور حوله حياتها، بل هو جزء من الاهتمامات الأخرى التي يجب أن تشغلها، كعملها وثقافتها وبحثها المستمر عن أساليب جديدة لخلق نوع من التوازن في حياتها وحياة من يحيطون بها. المرأة عقل قبل الجسد.. لم تخلق لتكون سلعة للاتجار والاستغلال ومادة للمتعة والإثارة و»قضية» للدعايات الرخيصة ووسيلة لبيع منتوجات الشركات العالمية المتخصصة في الأغراض النسائية. لقد عرضت إحدى القنوات الإخبارية دعاية شعارها «إختر ما تشاهد»، في محاولة منها للفت انتباه الناس إلى البحث عما يفيدهم ويغني معارفهم ويرقى بأذواقهم وبأفكارهم كي يكونوا فاعلين في مجتمعاتهم وقدوة لأبنائهم. وإذ أدعو بدوري نساءنا إلى اختيار ما يشاهدنه، ومراقبة ما يشاهده أبناؤهن، فإنني آسف على ما آلت إليه صورة المرأة في الإعلام والفن والإشهار، وكذلك استهدافها من خلال أعمال لا مضمون لها ولا محتوى يرقى بهؤلاء النسوة الغارقات أصلا في الجهل والأمية والتفاهة. الغريب أن هناك العديد من النساء يشتغلن في حقل الإنتاج، ومنهن الكثيرات يدرن شركات للإنتاج، لكنهن للأسف أول من يُسوّق هذه الصورة النمطية المتخلفة عن جنسهن رغم أنهن يعشن حياة مختلفة ويفكرن بأسلوب مختلف، فيما التصحيح والتغيير كان من الممكن أن يحدث من خلال النساء أنفسهن بكتابة وإنتاج برامج وأعمال ودعايات ترقى بالمرأة إلى فوق، لا أن تجذبها إلى أسفل. قراءة بسيطة فقط للإعلانات التي تتحفنا بها قنواتنا وتلك الملصقات التي شوهت جمالية مدننا والصور التي تغلف المجلات وبعض المتاجر، ستعطينا صورة واضحة عما تشكله المرأة بالنسبة إلينا وبالنسبة إليها أيضا.. جسد للعرض، لا غير. أعتقد أن التغيير يجب أن يبدأ من عند النساء أنفسهن، وألا يكتفين فقط بالاحتجاج والتضايق والتنديد، لأن لديهن كل الأسلحة والإمكانات المعرفية والعلمية والمادية لتوحيد الجهود ومحاربة تلك الصورة المذلة التي باتت ملتصقة بهن.