إن احتكار القرشيين للسلطة لم يكن «فلتة»، بل أتى نتيجة منطقية لمسلسل تم الإعداد له من قبل وبمباركة من «المؤسس القرشي، ذلك أن الوصول إلى السلطة يقتضي وجود تنظيم سياسي، كما يستوجب استمرار احتكارها «تنظيرا» من خلال بلورة مجموعة من المعايير تبرر هذا الاحتكار. شكل الإسلام في تاريخ العرب نقطة «اللاعودة» على مستوى المشروعية السياسية، ولكن هذا لا ينفي أنه كان يتم الرجوع أحيانا إلى «الإرث الجاهلي» قصد تدعيم هذه المشروعية. هاته ملاحظة تنطبق على جميع الحركات السياسية في المشرق الإسلامي حتى سقوط العباسيين، حيث كان يتواجد، جنبا إلى جنب، «الإسلامي» و«الجاهلي» في نطاق «المشروعية». وانطلاقا من هاته الملاحظة، يمكن القول إن السلطة «الراشدة» قد بلورت ثلاثة معايير ليست من طبيعة واحدة، المعياران الأول والثالث مستمدان من الإرث «الجاهلي»، أما المعيار الثاني فمستمد من الموروث «الإسلامي»، والمعيار الأول هو معيار الانتماء القرشي: «لا تدين العرب لغير هذا الحي من قريش»، هذا المعيار في المشروعية الراشدية ليس جديدا، بل هو إعادة إنتاج لخطاب، إن لم يكن «النبي القرشي» قد كرسه بأقواله، فقد كرسه بممارساته. لكن ما هو الأساس الذي يقوم عليه معيار الانتماء القرشي؟ هل «العصبية هي مظهر الاختيار الأول في هذا المقام»؟ تلك نظرة خلدونية صائبة بدون شك، غير أنها قليلة الجدوى في هذا السياق، ذلك أن العصبية هي نظرية في أصل السلطة وليست نظرية في مشروعيتها. وعليه، فإن التنظير للانتماء القرشي يجد مشروعيته في البيئة القبلية للجزيرة العربية. إن العقلية القبلية ترتكز على الالتحام بين أفراد القبيلة وتضامنهم، ولقد تم إنتاج عدة «إواليات» لضمان استمرارية هذا الالتحام والتضامن، وعلى رأسها إوالية التوارث، فالقبيلة لا ترث التركة المادية لأفرادها الهالكين، بل ترث كذلك تركتهم الرمزية. في هذا السياق، يمكن فهم الأسباب التي ستدفع «المهاجرين» إلى الاحتجاج بمعيار الانتماء القرشي، ذلك أن روابط الدم تفوق باقي الروابط في مجال التوارث. هاته الرؤية لم تكن سائدة فقط بين «المهاجرين» بل كذلك بين جميع القبائل، وهي تفسر الكيفية السلمية التي انتقلت بها السلطة بعد «الرسول» إلى «القرشيين» رغم وجود بعض المعارضين. لكن معيار «الانتماء القرشي» المستمد من الجاهلية كان في حاجة إلى تدعيمه بمعيار آخر يتلاءم مع طبيعة الدولة الجديدة الساعية إلى التوحيد، إنه معيار «السابقة إلى الدين». أنتج معيار «السابقة إلى الدين» لتبرير الأحقية في الحكم لمواجهة خطاب «الأنصار» المتمحور حول الدين. يتكون هذا المعيار من عنصرين اثنين : يتمثل العنصر الأول في كون «المهاجرين»، وهم بالطبع من قريش، كانوا أول من اعتنق الإسلام. يتجسد العنصر الثاني في كون الرسول قد استخلف قرشيا (= أبا بكر الصديق) للصلاة بالمسلمين إبان مرضه. إذا كان معيارا الانتماء «القرشي» و«السابقة إلى الدين» قد أضفيا مشروعية على احتكار القرشيين للسلطة في مواجهة الأنصار، فإن هذين المعيارين سيخلقان نوعا من الخلخلة في التكتل القرشي، مما سيستوجب بلورة معيار ثالث وهو معيار السن. يستمد معيار السن أصوله من الموروث الجاهلي، حيث كانت السيرة التقليدية للعرب هي تولية الأمور لكبار السن. سيعاد إنتاج هذا المعيار الجاهلي في خضم الصراع بين جناحي هيئة المهاجرين، فلقد ارتكز الجناح الظافر بالسلطة (أبوبكر، عمر،... إلخ) على حداثة سن ممثل الجناح المعارض (علي بن أبي طالب) لإزاحته وإقصائه من السلطة. إجمالا، يمكن القول بأن السلطة الراشدة قد أنتجت خطابا مخضرما في المشروعية يتعايش فيه «الجاهلي» و«الإسلامي» لكن مع أولوية «الجاهلي»، حيث إن خطاب المشروعية كان يتمحور أساسا حول الانتماء القرشي. لم يكن شرط القرشية بالتعميم، كما بلورته السلطة الراشدة، مطلقا. حقيقة أنه تم الحرص على تداول السلطة في بطون قريش، ولكن في نفس الوقت كان هناك حرص على إبعاد «بني هاشم» لأسباب جاهلية. مع اختفاء السلطة «الراشدة» بوفاة الخليفة الثاني، سيختفي شرط القرشية بالتعميم وتبدأ دورة جديدة في تاريخ المشروعية بالمشرق الإسلامي تتمحور حول شرط القرشية بالتخصيص. باختفاء القيادة الثلاثية للدولة الإسلامية (محمد أبوبكر عمر)، سيجد المسلمون أنفسهم أمام «جاهلية» جديدة، حيث سينبعث التنافس القديم بين بني أمية وبني هاشم. هذا التنافس الذي بدأ بينهما في العصر الجاهلي حول السيادة في الحجاز واستمر في العصر الإسلامي. إن بني أمية وبني هاشم بيتان في قريش صنعا التاريخ العربي الإسلامي بامتياز . بوصول عثمان إلى السلطة سيأخذ شرط القرشية معنى ضيقا وستبدأ فترة الحكم الأموي الذي سيحتاج إلى بلورة مجموعة من المعايير النظرية تتلاءم مع التغيير الجديد في طبيعة السلطة. يقول ابن خلدون إن عصبية مضر كانت في قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية، هذا ما يفسر التزكية المعنوية التي سيمنحها محمد للبيت الأموي عام الفتح والامتيازات التي سيحظى بها خلال فترة القيادة ذات النمط الشوري. لقد كان الأمويون يرغبون في السلطة منذ وفاة النبي محمد وعارضوا تولي قبيلة تيم في شخص أبي بكر للسلطة، لكن رغبتهم هاته في السلطة لم تتضح إلا مع عثمان، حيث منذ البداية سيتم التأكيد على حصر السلطة في بني أمية. عمل الأمويون إبان حكم عثمان على إنجاز مشروعين هامين يؤمنان لهم بقاء السلطة في أيديهم بعد عثمان: احتكار السلطة وضمان استمرارية هذا الاحتكار. لإنجاز المشروع الأول، استولى الأمويون على جميع المناصب الرئيسية في الإدارة والسلطة، وأصبح عهد عثمان في الواقع عهد أسرته وعشيرته. ولإنجاز المشروع الثاني، أدرك بنو أمية أنه ليس بإمكانهم البقاء في السلطة بعد عثمان إلا إذا أوجدوا قاعدة جغرافية بشرية أكثر قبولا لمنطق الدولة. هكذا ستبدأ دولة جديدة، دولة معاوية، تنمو على هامش الدولة الشرعية، دولة عثمان، التي بدأت تتلاشى. لكن ما هي معايير مشروعية الدولة الجديدة؟ ارتكز الخلفاء الأمويون، لتبرير مشروعية سلطتهم، على مبدأ الانتماء إلى قريش المصطبغ بمبدأ الحق الإلهي، لكن مبدأ الحق الإلهي لم يبالغ في توظيفه لأن الخليفة الأموي رغم ذلك كان أشبه بشيخ قبيلة يستمد سلطانه من القوى المادية ومن رضى رؤساء القبائل العربية، وهذا ما دفع فلوتن إلى القول بأن الطابع العام لدولة الأمويين كان دنيويا بكل تفاصيله. انطلاقا من ملاحظة فان فلوتن، يمكن القول بأن خطاب المشروعية الذي أفرزته الدولة الأموية قد تغلب فيه الجاهلي على الإسلامي، فالخطاب الأموي في المشروعية يحيل، أولا وقبل كل شيء، على الموروث الجاهلي. وهاته الإحالة على الجاهلية نستخلصها من ثلاثة معطيات: المعطى الأول يتمثل في التزكية التي منحها الرسول لأبي سفيان عام الفتح، فالرسول كان يعتبر هذا الأخير شيخ مكة قبل الإسلام. المعطى الثاني يتجسد في كون معاوية كان يرى أن عملية اغتيال عثمان تتضمن مسألة إرث، ومنطق التوارث في مجال السلطة هو منطق قبلي جاهلي. المعطى الثالث يتحدد في كون معاوية، قبل مقتل علي، كان لا يحيل فقط على جاهلية الحجاز بل يحيل كذلك على جاهلية الشام، فمعاوية كان يرى نفسه الوارث الشرعي لأمراء الشام القدامى من آل جفنة . مشروعية الدولة الأموية هي، إذن، مشروعية تاريخية تستمد أصولها من الجاهلية في هذا السياق سيعاد إنتاج نفس القيم التي كانت سائدة في الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام، وعلى رأسها النزعة القبلية، وبالتالي تهميش الشرع، وسيغدو الدين ليس فقط مرتكزا إيديولوجيا للدولة بل جزءا من وظيفتها، فهي التي تحدد المسلم من غير المسلم . هكذا ستفرز الدولة الأموية الغارقة في نزعتها العربية نقيضها التاريخي المتمثل في التشيع.. هذا التشيع الذي سيتخذ، منذ نشأته الأولى، اتجاها مضادا للعصبية العربية.