تحيل كلمة "سلطة"في اللغة العربية إما على التسلط والإكراه، أو على معنى السلط والسليط، أي طويل اللسان، بمعنى أن السلطة تستمد من سلاطة اللسان، أي حدته وفصاحته. والسليط تعني الزيت الذي يضاء به، فكأن السلطة هنا تعني الإنارة والقدرة على قهر الظلام. والسلطان لغة :الحجة والبرهان، وكأن هذا المعنى يدل على أن السلطة لا تحيل على التسلط والجبر فقط، بل القدرة على امتلاك الحجة والبرهان لإقناع الناس وإنارة طريقهم. واستعمالنا لمفهوم السلطةفي التحليليأتي بمعنى السلطة السياسية التي لها القوة في التصرف والحكم وإصدار الأوامر، والتيتنمو بنمو سلطة مركزية شخصية الزعيم العربيالذي يتصرف وكأنه القانون فيما يمكن أن نسميه بظاهرة "شخصنة السلطة"، والتي عادة ما تقدم على أنها ذات طابع مؤسساتي في إطار "دولة المؤسسات". تنبني السلطة بالمجال العربي على القوة لتحقيق وجودها وضمان استمرارها، سواء تعلق الأمر بالقوة البشرية والاجتماعية أو تلك المستمدة من الشرعية الدينية، أو المرتكزة على الموارد الاقتصادية والمالية والمادية عموما.وتتميز بانتقالها عبر نظام وراثي (بما فيها "الجملوكيات" أو "الجمهوريات الوراثية" !)يكاد لا يأخذ بعين الاعتبار القدرات القيادية والتدبيرية والشخصية التي يجب توفرها في رجالات الحكم، وتستمد أيضا قوتها من الصفات المقدسة التي يتحلى بهاالملك أو الرئيس أو الزعيم ... والتي تسعفه في الإنفراد والاستبداد بالأمور الدنيوية والأخروية. فسلطته لا حدود لها، وأوامره الإجبارية لا راد لها! تكاد كل السلطات التي تنشأ بالمجال العربي تقريبا تتميز بالتمركز والاحتكار، نتيجة الاستبداد والتوريث وعامل القرابة والعصبية.إن قيام السلطة على أساس الولاء الصوري المنافق يجعلها محصورة في أفراد معينين، من "الموالي" و"المصطنعين"، للاستمرار في الوجود. أي أنها تصبح ذات طبيعة منغلقة واحتكارية ... ولبسط نفوذها على المجال والسيطرة على الحكم، تبذل كل ما في وسعها لاستمرار التحكم عبر وسائل معنوية رمزية وأخرى مادية، وكذلك القضاء على القوى السياسية والدينية المنافسة التي يفترض أن تشكل خطرا ولو في المستقبل، وإن تم توظيف الموارد البشرية لهذه القوى ففي مجالات ووظائف محدودة لا تؤثر بالمطلق في مستوى تركيز وتمركز السلطة عند الأسرة الحاكمة وبناء مجدها ...ففي إطار سياسة "المركز والهامش" تعمل الدولة العربية على احتكار واستغلال المناصب الكبرى السامية والمؤثرة في السياسة والاقتصاد وكل مناشط الحياة بما يخدمها وخدم خدامها المنعوم عليهم، تاركة المواقع المتوسطة والصغرى ذات التأثير الهامشي لتنافس فئات الشعب إن حالفها الحظ، والتي تشكل الأغلبية المسحوقة. يزداد انغلاق السلطة حينما تتجسد بالأساس في شخص رئيس الدولة، الذي يشكل الرئيس المباشر لكل شريحة، ويجسد مختلف أبعاد السلطة الدينية والإدارية والعسكرية والاجتماعية وحتى الرياضية، ويجب على الكل إعلان الطاعة والولاء. لكن هذا لا يمنع من وجود مراكز أخرى للنفوذ، إذ نجد : * الدائرة العائلية: وتتكون من مختلف أفراد العائلة التي ينتمي إليها رئيس الدولة وامتداداتها السلالية، بالإضافة إلى علاقات المصاهرة. * الدائرة البلاطية: وتتكون من الأشخاص والفئات التي تحيط برئيس الدولة من ديوان المستشارين وموظفي الخدمة والأمن الخاص وتنظيم الاستقبالات وغيرهم، والذين قد يفوق نفوذهم نفوذ الوزراء في بعض الأحيان ... * دائرة جهاز الدولة: وتتكون من الأشخاص الذين يسهرون على تنفيذ أوامر رئيس الدولة وتطبيق قراراته سواء كانوا وزراء أو كتابا عامين وموظفين سامين أو ولاة وعمالا أو علماء ومثقفين رسميين ... هذه الدوائر الرئيسة الثلاث – كما أشار الأستاذ الباحث محمد شقير - تشتمل هي أيضا على دوائر نفوذ فرعية تزداد قوتها وتأثيرها حسب نوع العلاقات التي تجمعها بدوائر القرار المركزية...ولهذا فعادة ما تتمحور مراكز النفوذ الرئيسة أو الفرعية حول من يجسد هذه المراكز، وحول الشخصيات التي تمثلها، وتصبح عبارة عن قنوات يتم من خلالها التأثير على قرارات رئيس الدولة. بما أن كل سلطة هي قوة وعنف وغلبة، فإنها محتاجة دوما إلى "شرعنة" سلوكها ونهجها القهري، ولهذا كان الدين حاضرا دوما أيضا باعتباره ركنا متينا لكل كيان سياسي بالمجال العربي، فإقامة وزارة للشؤون الإسلامية والتظاهر بالاهتمام بأمر الدين وإقامة شعائره وصيانة مؤسساته والذود عنه وعن قضاياه وتنظيم المسابقات و"المواسم الروحية" ... كلها مثلت قاعدة للمشروعية الدينية للزعماء العرب، وعموما ف"الإحتكار الديني" و"تأميم" الفاعلين الدينيين والمرافق الدينية اعتبرت الوسيلة الفعالة لبناء السلطة السياسية،بحكم موقع الدين في الحياة العامة للمجتمعات العربية عبر التاريخ. صدق الرسول صلى الله عليه وسلم : "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ... فأولهن نقضا الحكم ...". فبنقض هذه العرى صرنا أمة نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ! وصحت فينا فراسة إبن خلدونأن العرب لا يعرفون الملك (السلطة)ولا سياسته، فهم "أبعد الأمم عن سياسة الملك"، و"أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم" (للمزيدتنظر المقدمة، خاصة بعض فصول الباب الثاني)...وبالتالي صار الذين أهلكوا العباد وخربوا البلاد واستباحوا أموالها وأعراضها حبا في الرياسة هم أتقن عزفا للنشيد الوطني !وأكثر رفعا لشعارات الشفافية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية ... ولشعارات "الحق الذي يراد به الباطل"، باطل حمل وخدمة مشاريع العالم "الحر" الذي نستورد منه برامجه الإصلاحية دون اجتهاد، عدا ثقافة التخطيط ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب والمحاسبة والمساءلة التي تعد جوهر دولة المؤسسات... مشاريعأخفق في حملها من اختاروهم زعماء لنا عبر "التدبير المفوض الوطني" وواقع "الاحتقلال" !وأصبحت الوحدة العربية التي نادى بها ملأ القوم كخراف تشابكت قرونها لكن الأرجل بقيت تائهة كما عبر عنها أحد الظرفاء !وغدا التلويح بالقوة ضد المتضرر المحتج وسحق المهموم المعارض مظهرا من مظاهر الاغتصاب النفسي والحرب النفسية، ونجحت الأنظمة الإستبدادية العربية في تدجين وإسكات أعداد كبيرة من النخب السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية ... إما بالمكايدة(التشويه والتسفيه والتشريد والتضييق في الأرزاق وتلفيق التهم وغيرها مما أبدعت فيه "اليد الخبيرة النشيطة" ..!)أو المداهنة(شراء الضمائر والإنعام بالمناصب والمسؤوليات ومنح الامتيازات على حساب المعطلين والفقراء والأرامل والأيتام ...). وهكذا تحول العديد من رموز النخب إلى مجرد مروجين بل مستميتين في خدمة استراتيجيات الدولة العربية ولو كانت خطأ ومجازفة، بلمستعدين "على طول" للمشاركة في "الجريمة السياسية"وتزييف إرادة شعوبهم إلى الحد الذي بدا واضحا للجميع ... فقد تم تشجيع الإعلام الهابط وتحنيط التعليم وتدجين الشباب وتمييعه وإشاعة جو استبدادي رهيب ضد الفكر الحر النزيه. كيف لا وسياسة فرض "الأمر الواقع" تنص على أن "الطريق القويم في اتباع الزعيم"، وأن "العقل السليم في التصفيق للزعيم" ..!فارتوت الشعوب العربية ديموقراطية حتى النخاع، ف"حكمت" نفسها بنفسها وانتقدت نفسها بنفسها وتخلفت قبل أوانها !وصار الحليم حيران بين سؤالين مطروحين : هل لا توجد عندنا حرية تعبير ؟!أم لا يوجد عندنا أصلا ما نعبر عنه نظرا لأن الإنسان في بلداننا العزيزة أريد له أن يكون لا لون له ولا طعم ولا رائحة ؟!أم هناك احتمال ثالث أشد ؟! على أي، فلهذا تراجع دور الفكر والعلم والإبداع في العالم العربي إلى الحد لا يطاق، مثلا فآخر الإحصاءات تشير إلى أنه لم تحتل أية جامعة عربية الرتب الخمسمائة الأولى في العالم من أصل 14.000جامعة في العالم، وصار العرب والمسلمون موضوعا للتدافع والتنافس لا طرفا فيه بعدما زادت المسافة الفاصلة بينهم وبين الأممالأخرى اتساعا !وطمست هويتهم بالإتيان على بنيانها الديني واللغوي والتاريخي ... من القواعد، فخر عليهم سقف الجهل والفقر والمرض ...وظهر كأنهم الأكثر فتنة والأضعف هيبة وريحا !وبانحطاطهم خسروا وخسر معهم العالم الكثير! وربما انطبق على حالهم وصف نزار قباني : مسافرون نحن في سفينة الأحزان ! قائدنا مرتزق وشيخنا قرصان ! كل الجوازات التي نحملها أصدرها الشيطان ! مسافرون خارج الزمان والمكان ! مسافرون ضيعوا نقودهم .. وضيعوا متاعهم، وضيعوا أبناءهم وضيعوا أسماءهم، وضيعوا انتماءهم .. وضيعوا الإحساس بالأمان! فكم هي حاجتنا - والحالة هاته - إلى قيادة تعرف ما تريد، وتعمل جاهدة ومجتهدة على تعبئة أغلى الكنوز البشرية والمادية من أجل علو وعزة وريادة أمتها، وليس من هم أشبه بسنابل القمح الفارغة ! والذين قال عنهم شاعرنا أحمد مطر: قد كان يكفي واحد لو لم نكن أغبياء ! يا أرضنا يا مهبط الأنبياء قومي احبلي ثانية وكشفي عن رجل لهولاء النساء ! مع هذا ومهما يكن، فإننا لن نعدم أملا ... ونعيدها كما قالها خبراء العواقب والعبر أنه مر على الأمة الإسلامية سبعة قرون سمان وسبعة قرون عجاف، وهذا قرن فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ..!فالإسلام صنع تاريخ العرب بعدما لم يكن شيئا مذكورا !وخلق أجيالا فريدة التضحية والبذل والعطاء، وقيادات نسجت خيوط شروق الإخلاص والرفعة والوفاء ! وبإمكانه أن يصنعه من جديد إذا رضيت به وفقهته خيار معادن بني آدم !هذا إيماننا ورجاؤنا الواقع اليقين ! ولتعلمن نبأه بعد حين! وإن غدا لناظره لقريب! وأنتم الأعلون ... أعزائي إن رضيتم! وفي الإنتظار ... سلام وألف سلام عليكم!