اسمه المختار جدوان. وكما شغل الناس بأغانيه وسهراته داخل المغرب وخارجه، شغلهم بحكاية اعتزاله الفن بالشكل الذي ألفه منه المغاربة طيلة عشرين عاما، ودشن طريقا آخر لحفظ القرآن وتدبر آياته حيث باتت أمنية الأماني بالنسبة إليه هي تسجيل كتاب الله مرتلا بصوته الجميل. أسئلة كثيرة واكبت هذا التحول الذي فاجأ الكثيرين من عشاق هذا الفنان. ففضلا عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي وقفت خلف «الاعتزال»، يتساءل الكثيرون عن شكل جدوان بعد التغيير، وهل سيعود إلى الفن أم لا? وهل أصبحت مواقفه متطرفة متشددة، أم إن المطرب الشاب التزم فعلا لكن بالإسلام الوسطي المنفتح الذي لا إكراه فيه ولا تطرف ولا تشدد؟. «المساء» وسعيا منها لتسليط الضوء على تفاصيل هذا «الانقلاب» الجذري في حياة المطرب الشعبي «جدوان»، ستمنح قراءها فرصة الاطلاع على ما جرى طيلة شهر رمضان الفضيل من خلال سلسلة حلقات مع المطرب صاحب «وراك خليتيني نساين» الذي بات قاب قوسين أو أدنى من حفظ المصحف كاملا، وصار لا يدع مجلس علم إلا حضره وأمتع الحاضرين بترتيل آياته الكريمة. وهي حلقات تتضمن تفاصيل صريحة ومثيرة عن الأجواء التي يعيش فيها الفنان المغربي، كما تتضمن شرحا لمواقف جدوان من القضايا المطروحة على الساحة الإعلامية والثقافية المغربية, والتي تثير في الغالب جدلا واسعا بين المهتمين. - استمرت جولاتكم الفنية خارج البلاد بعد النجاح الذي لقيتموه في المغرب؟ زرنا بعد نجاح الجولات الأولى داخل البلاد وخارجها كلا من هولندا وبلجيكا وفرنسا، ووقعت لنا بعض الطرائف، منها أنه بعد إحيائنا لحفل بمدينة بوردو اكتشفنا أن أحد أعضاء الفرقة «صاحب لاباطري» اختفى فجأة، وعلمنا بعد أن أبلغنا الشرطة عن اختفائه أنه نجح في الحصول على جواز سفره وأصبح بعد عشية وضحاها «مهاجرا سريا»، وتأكدنا أنه فر إلى العاصمة البلجيكية بروكسيل. تكررت حادثة الهروب خلال حفل بأمريكا، كيف تم ذلك؟ (ضاحكا) بالفعل هذا ما حدث، فبعد عدة جولات في أوروبا، جاءت فرصة إحياء حفلات مماثلة بالولايات المتحدةالأمريكية سنة واحدة قبل أحداث 11 سبتمبر. وبعد تجربة فرار زميلنا بفرنسا قررت منذئذ الاحتفاظ بجوازات السفر. المهم أنه بتنا في إحدى الليالي عند أحد الموظفين بقنصلية المغرب هناك في منزله، وأعطيته جوازات السفر لكي يحتفظ بها عنده حتى لا تتكرر تجربة «الحريك». لكن للأسف، لم تمنع هذه الاحتياطات من أن نقع في المشكل نفسه حيث عمد اثنان من أعضاء المجموعة إلى تكرار السيناريو نفسه بعدما نجحا في اكتشاف مخبأ جوازات السفر وسرقة جوازيهما، أحدهما عازف على «الأورغ» والثاني يشتغل هو الآخر على الإيقاع «لاباطري». - يبدو أن عازفي «لاباطري» هم نظريا الفنانون الأقرب إلى الحريك. (ضاحكا) يبدو أن الضجيج الذي تحدثه هذه الآلة يصيب دماغ العازفين عليها بالارتجاج في المخ ويدفعهم لاتخاذ قرارات غير محسوبة العواقب. وماذا حدث بعدئذ؟ بلغنا عن حادثة الفرار وعدنا إلى المغرب، والطريف أن أحدهما اتصل بي بعد تفجيرات 11 سبتمبر 2001، وقال لي «وراه ذنوبك خرجو فينا» وحكى لي المسكين عن الظروف المريرة التي عاشوها بعد تلك التفجيرات الدامية، حيث كان كل من تبدو عليه ملامح عربية متهما، وقد أكد لي أنه في بعض الأحيان كان يفضل البقاء داخل المنزل ليومين متتالين يعاني مرارة الجوع، عوض أن يغامر بالخروج خشية إلقاء القبض عليه من طرف أجهزة الأمن الأمريكية، علما أنه كان حينئذ مهاجرا سريا لا يتوفر على أوراق الإقامة الرسمية. ومن المفارقات أننا عدنا إلى أمريكا عام 2004 وتمكن «الباطور» الذي هرب عام 2000 من الالتحاق بنا حيث اشتغل معنا على الإيقاع، وعلمنا وقتها أنه كان ما زال عاجزا عن إنجاز أوراق الإقامة الرسمية، في حين نجح العضو الآخر «عازف آلة الأورغ» في ضمان تلك الأوراق مما مكنه من زيارة بلده من حين لآخر، عكس «الباطور» الذي لم يزر أهله منذ سنة 2000، حيث توفي أخوه ومرضت أمه ولم يستطع العودة إلى البلاد لرؤيتهما. المهم أن إحياء الحفلات بدول أجنبية استمر بعد ذلك، وكان آخرها على ما أذكر حفل تم إحياؤه بالجزائر بمهرجان تيمقاد الدولي حيث تجاوب معنا الجمهور الجزائري وعبر عن حبه وعشقه للفن المغربي. ألم يسبق لكم أن أحييتم سهرة فنية داخل إسرائيل؟ اقترح علي عام 2001 أحد الأشخاص المغاربة، أفضل عدم ذكر اسمه، إحياء حفلات هناك، وشجعني بكل الوسائل لكنني رفضت رفضا مطلقا الموضوع، ولقد سمعت شخصيا من بعض الفنانين المغاربة الذين يحيون حفلات هناك بأن الإسرائيليين يستغلون تلك الزيارات التي يتم تخصيصها بتغطية إعلامية ويستغلونها في الدعاية لهم، في حين الأمر يشكل طعنة للأشقاء في فلسطينالمحتلة، لهذا أنا ضد إحياء حفلات في إسرائيل بالمطلق. وأود أن أذكر هنا أنني أحييت عدة حفلات ليهود مغاربة في فرنسا مثلا، حيث فوجئت بأنهم يحفظون أغانيّ، وكانوا يطلبون مني أداء بعض الأغاني التي تشتهر بها المناطق التي ينحدرون منها في المغرب. بعد سلسلة جولات ناجحة داخل المغرب وخارجه، سبق أن صرحت أنك خلال تلك السنوات القليلة التي سبقت الاعتزال بدأت تحس بتناقض كبير بين ما تعيشه وما تريده لنفسك، هلا شرحت لنا ذلك؟ هذه حقيقة عشتها فعلا، فكما سبق أن قلت إنني منذ سنوات الطفولة الأولى وفي فترة الشباب كنت حريصا على أداء الصلاة وقراءة القرآن والتشبث بقيم الدين الإسلامي، لكن استمراري في الغناء أوجد نوعا من التناقض داخل نفسي بين ما أمارسه على أرض الواقع وما أريده وأحبه، والمتمثل في أن أعيش في انسجام مع نفسي. للقرآن مكانة كبيرة في قلبي وكنت دائما أتذكر النصيحة التي أكد الفيلسوف المسلم الراحل محمد إقبال أن أباه قدمها له حينما خاطبه قائلا: «تعامل مع القرآن وكأنه يخاطبك أنت لوحدك» وهذا ما حدث فعلا، حيث إن آيات الذكر الحكيم والتدبر في معانيها كان لها الأثر الأكبر في دفعي لتغيير مسار حياتي من النقيض إلى النقيض.
- ومن بين آيات القرآن كان لواحدة منها أثر كبير على قرارك بالاعتزال؟ نعم هي الآية الموجودة في سورة الأحقاف والتي كنت أصل إليها في العشر الأواخر من رمضان بعد أن تكون آثار الأيام الأولى قد بدت واضحة على نفسي كباقي المسلمين، والآية هي « وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ، وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ»، ومنذ بلوغي سن الثالثة والثلاثين وحتى الآن لا تكاد أذناي تسمع هذه الآية الكريمة حتى تنزل دموعي وهو أمر لا أستطيع وصفه. كنت أدعو الله تعالى أن تنطبق علي هذه الآية حتى إذا بلغت سن الأربعين أستطيع تغيير حياتي إلى الشكل الأفضل الذي أريده، والذي أكون فيه مرتاحا نفسيا ولا أحس بذلك التناقض الذي طالما أرقني. وأن يبارك الله في عمر الإنسان حتى يستطيع التوبة، إنها نعمة ما بعدها نعمة ويستحيل على المخلوق أن يزيد في عمره ولو ثانية واحدة، ولذلك فالمسارعة في التوبة مسألة لا نقاش فيها. واستمرت الحفلات برغم ذلك.. نعم استمرت السهرات بهذا التناقض الداخلي الذي تحدثت عنه، وكنت مثل ذلك الممثل الذي يكون مجبرا على أن يدخل إلى خشبة المسرح ويمثل دور الإنسان السعيد وإن كانت حالته النفسية على عكس ذلك تماما. لكن هنا أوضح حقيقة وأعضاء الفرقة يشهدون بها، وهو أننا حرصنا ما أمكن على اختيار الحفلات المناسبة وبأقل عدد ممكن، علما أنني كنت دائما أفتح الباب أمام أعضاء الفرقة للعمل مع فرق أخرى حتى لا أضيق على رزقهم.