اسمه المختار جدوان. وكما شغل الناس بأغانيه وسهراته داخل المغرب وخارجه، شغلهم بحكاية اعتزاله الفن بالشكل الذي ألفه منه المغاربة طيلة عشرين عاما، ودشن طريقا آخر لحفظ القرآن وتدبر آياته حيث باتت أمنية الأماني بالنسبة إليه هي تسجيل كتاب الله مرتلا بصوته الجميل. أسئلة كثيرة واكبت هذا التحول الذي فاجأ الكثيرين من عشاق هذا الفنان. ففضلا عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي وقفت خلف «الاعتزال»، يتساءل الكثيرون عن شكل جدوان بعد التغيير، وهل سيعود إلى الفن أم لا? وهل أصبحت مواقفه متطرفة متشددة، أم إن المطرب الشاب التزم فعلا لكن بالإسلام الوسطي المنفتح الذي لا إكراه فيه ولا تطرف ولا تشدد؟. «المساء» وسعيا منها لتسليط الضوء على تفاصيل هذا «الانقلاب» الجذري في حياة المطرب الشعبي «جدوان»، ستمنح قراءها فرصة الاطلاع على ما جرى طيلة شهر رمضان الفضيل من خلال سلسلة حلقات مع المطرب صاحب «وراك خليتيني نساين» الذي بات قاب قوسين أو أدنى من حفظ المصحف كاملا، وصار لا يدع مجلس علم إلا حضره وأمتع الحاضرين بترتيل آياته الكريمة. وهي حلقات تتضمن تفاصيل صريحة ومثيرة عن الأجواء التي يعيش فيها الفنان المغربي، كما تتضمن شرحا لمواقف جدوان من القضايا المطروحة على الساحة الإعلامية والثقافية المغربية, والتي تثير في الغالب جدلا واسعا بين المهتمين. - تفتق وعيك بالدين وتعاليمه قبل انطلاق مسيرتك الفنية، كيف جاء ذلك؟ لقد أتممت صوم رمضان وسني 12 سنة، وكنت أؤدي الصلاة في المسجد وألتزم بتلاوة القرآن الذي كنت أقرأ ختمة كاملة منه خلال الشهر الفضيل من كل عام. ساعدني على ذلك أن شهر رمضان في طفولتي كان يتزامن والعطلة الصيفية كما هو الحال عليه حاليا. في هذه الفترة من العمر كان وعينا بالقيم الدينية السمحة وبكتاب الله وفضل قراءته قد بدأ يتشكل ويتبلور في صور جميلة مؤثرة. وإلى جانب الصوم والصلاة وتلاوة القرآن، كنت حريصا تمام الحرص على إخراج «العشور» عن نصيبي من المال الذي أحصل عليه من خلال مشاركاتي مع فرق أشقائي، كنت أسمع عن «العشور» فاعتقدت أن الأمر يتعلق بعشرة بالمائة عن كل مبلغ فقررت إخراج تلك النسبة عن كل ما أحصل عليه، قبل أن أعرف بعد ذلك بأن الزكاة لا بد لها من نصاب أولا ومرور الحول عليها ثانيا ولا تتعدى نسبة 2.5 بالمائة ثالثا. وببركة الصلاة وتشبثنا بها نجانا الله من موبقات السجائر والخمور والمخدرات التي ابتلي بها بعض زملائنا في أقسام الدراسة والمجال الفني. - دائما ما كنت تردد أن ابتعادك عن جو تعاطي المخدرات والتورط في انزلاقات أخلاقية كان بفضل تشبثك بالصلاة؟ بالفعل، فالصلاة قضية محورية في تربية الأطفال، وأنا أنصح الآباء والأمهات بترسيخ هذه الشعيرة التعبدية في نفوس أبنائهم وأؤكد لهم أن بركات الصلاة لا أحد يعلمها إلا الله تعالى. وحسب تجربتي الخاصة فالصلاة نهتنا عن كثير من الفواحش إلى جانب أنها جعلتنا نتعرف على أصدقاء مميزين كلهم كانوا حريصين على التشبث بها، مثلما كانوا حريصين على تحصيل النقاط الجيدة في الدراسة وطاعة آبائهم والابتعاد عن صيغ الانحراف بشتى أنواعها. المراهقون والشباب عليهم أن يعلموا أن عمر الإنسان محدود وعليهم أن يفنوه في طاعة الله والالتزام بتعاليم الدين الحنيف والاستمتاع بطعم الحياة الجميل النقي الطاهر، خاصة وهم يصادفون في حياتهم تجارب وحالات لا ينفع فيها عمر الشباب بشيء. أنا كنت أقع في الخطأ نفسه وأقول سأنتهي وأتوب بعد بلوغي سن الأربعين، ووحده فضل الله مكنني من أن أصل إلى تلك السن وكان بالإمكان أن أتوفى قبل تحقيق ذلك. الإنسان لا يستطيع أن يشتري ولو ثانية واحدة من العمر بمال الدنيا كلها، فعليه إذن أن يسارع إلى التوبة ويبتعد عن التسويف، ويحزنني كثيرا شخصيا أن أرى بعض الناس لا يصلون ولو تأملوا في الصلاة وكرمها وعظمتها لعرفوا المتعة الحقيقية أين تكمن. - في هذه الأجواء التي نشأت فيها، صدر لكم أول شريط غنائي وعمرك يقارب ال 20 عاما.. بعدما أصبحت لدينا فرقة مدربة ومطعمة بعناصر محترفة تتقن العزف على آلات موسيقية متنوعة، خططنا لإصدار أول شريط غنائي ونجحنا في ذلك عام 1987 حيث تضمن الشريط 7 أغاني تراثية غيرنا توزيعها الموسيقي، وأغنيتين كنت مؤلف كلماتهما وملحنهما. اشتهر هذا الشريط بأغنية «أنا اللي مسيكينة» وهي أغنية عراقية الأصل وليست مغربية كما يعتقد الكثيرون، ووجد الشريط رواجا كبيرا داخل المغرب وخارجه، غير أننا لم نستفد ماديا كفرقة الشيء الكثير من وراء ذلك لأن الذين يحققون أرباحا مهمة من وراء الأعمال الفنية هم المنتجون أساسا والوضع ما يزال مستمرا حتى الآن برغم ظهور القرصنة والإنترنت التي أضرت بالجميع. وقعنا مع شركة للإنتاج عقد احتكار استمر لمدة خمس سنوات كاملة كنا مجبرين خلالها على إنتاج «ألبوم» غنائي كل سنة مقابل 4000 درهم فقط مقابل كل «ألبوم» لفرقة يبلغ مجموع مكوناتها 9 أعضاء ! - ماذا يعني عقد احتكار بالنسبة للفنان؟ أفتح هنا قوسا للتوضيح بأن عقود الاحتكار للأسف هي ظاهرة سيئة وخطيرة يجب إعادة النظر فيها، لأنها تعني ببساطة استعباد الفنان. نحن مثلا حصلنا على 20 ألف درهم خلال خمس سنوات كاملة مقابل 5 أشرطة غنائية، في حين حقق المنتج أرباحا كبيرة، خاصة وأن بعض الأشرطة حققت نجاحا كبيرا داخل الوطن وخارجه ! عقد الاحتكار يعني أن كل المنتوج هو ملك لشركة الإنتاج تتصرف فيه بالطريقة التي تريد، تبيعه أينما ومتى شاءت، في حين يحصل الفنان على مبلغ هزيل، في الوقت الذي يعتقد فيه الناس أن الفنان «شبع فلوس» والعكس هو الصحيح. وقد باتت الأوضاع أكثر سوداوية مع ظهور القرصنة بالشكل الرهيب الذي نراه جميعا، إلى جانب الإنترنت حيث باتت الأغاني توضع رهن إشارة المتصفحين مباشرة بعد خروجها إلى السوق. مأساة الاحتكار انتهت بعد نهاية الخمس سنوات حيث اضطررنا لتسجيل ألبوم غنائي كل سنة، لكن بعدما وقعنا عقدا مع شركة جديدة بدأنا ننتج ألبوما غنائيا كل سنتين أو ثلاث سنوات وركزنا على الجودة منذ ذلك الحين. - كيف كانت علاقتكم كمجموعة للغناء الشعبي مع لجنة الكلمات داخل الإذاعة الوطنية؟ للأسف كانت النظرة السائدة عن مجموعات الغناء الشعبية أن كلمات أغانيها تخدش الذوق العام وتخالف قيم المغاربة المحافظة. ويسر الله لي كسر هذا التعميم حيث كنت أقوم بمبادرة بالاتصال بلجنة الكلمات داخل الإذاعة الوطنية من تلقاء نفسي، والتي كان يرأسها الراحل الخضير الريسوني رحمه الله، حتى أضمن أن تكون كلمات الأغاني متوافقة مع الذوق العام، وللأسف تم تغييب دور هذه اللجنة مع ظهور دوزيم والقنوات الإذاعية المنافسة. وأذكر أن الراحل عبد القادر الراشدي رحمه الله، وقد كنت أشتغل معه من وقت لآخر، خاطبني ذات يوم سنة 1989 بقوله «لجنة الكلمات الحقيقية هي أنك تستطيع سماع أغنيتك بحضور أفراد أسرتك دون أن يجد أي واحد منكم أدنى حرج في ذلك»، وقد اتخذت تلك النصيحة الغالية مبدأ لي في حياتي الفنية فيما بعد، فحرصت رفقة أعضاء فرقتي على أن تكون أغانينا خالية من أي كلمات خادشة للحياء.