اسمه المختار جدوان. وكما شغل الناس بأغانيه وسهراته داخل المغرب وخارجه، شغلهم بحكاية اعتزاله الفن بالشكل الذي ألفه منه المغاربة طيلة عشرين عاما، ودشن طريقا آخر لحفظ القرآن وتدبر آياته حيث باتت أمنية الأماني بالنسبة إليه هي تسجيل كتاب الله مرتلا بصوته الجميل. أسئلة كثيرة واكبت هذا التحول الذي فاجأ الكثيرين من عشاق هذا الفنان. ففضلا عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي وقفت خلف «الاعتزال»، يتساءل الكثيرون عن شكل جدوان بعد التغيير، وهل سيعود إلى الفن أم لا? وهل أصبحت مواقفه متطرفة متشددة، أم إن المطرب الشاب التزم فعلا لكن بالإسلام الوسطي المنفتح الذي لا إكراه فيه ولا تطرف ولا تشدد؟. «المساء» وسعيا منها لتسليط الضوء على تفاصيل هذا «الانقلاب» الجذري في حياة المطرب الشعبي «جدوان»، ستمنح قراءها فرصة الاطلاع على ما جرى طيلة شهر رمضان الفضيل من خلال سلسلة حلقات مع المطرب صاحب «وراك خليتيني نساين» الذي بات قاب قوسين أو أدنى من حفظ المصحف كاملا، وصار لا يدع مجلس علم إلا حضره وأمتع الحاضرين بترتيل آياته الكريمة. وهي حلقات تتضمن تفاصيل صريحة ومثيرة عن الأجواء التي يعيش فيها الفنان المغربي، كما تتضمن شرحا لمواقف جدوان من القضايا المطروحة على الساحة الإعلامية والثقافية المغربية, والتي تثير في الغالب جدلا واسعا بين المهتمين. - كيف عاش المختار جدوان سنوات طفولته الأولى؟ أنا من مواليد 1967 بالرباط وترتيبي في العائلة هو الخامس، يكبرني أربعة أشقاء ذكور وتصغرني أختان. ومن الطرائف أن أبناء حي تواركة, الذي ترعرعت فيه, كانوا يأتون عندي ليشتكوا من تصرفات أشقائي الكبار وأحدهم يكبرني ب 6 سنوات اعتقادا منهم أنني أنا الأخ الأكبر ربما بسبب بنيتي الجسمانية أو لكوني تحملت مسؤوليات متعددة في صغري فكانوا يعتقدون أنني الأكثر نضجا بين إخوتي وبالتالي أكبرهم سنا. عشت طفولة عادية كباقي المغاربة، لم أكن طفلا شقيا أخلق المشاكل والمتاعب لأسرتي لكن فترة الصبا لم تخل من «معارك» و«زاعات» بيني وبين أقراني في تلك الأوقات الجميلة من العمر التي لا تتكرر. علاقتي بوالديّ كانت علاقة جيدة وأنا حريص على رضى الوالدين، توفي أبي رحمه الله عام 1997 وهو بحمد الله راض عني وما تزال علاقتي بوالدتي بارك الله لنا في عمرها وصحتها على أفضل ما يكون، وهي تعزني كثيرا منذ سنوات طفولتي الأولى حيث كانت تحميني من أشقائي إذ كلما هم أحدهم بضربي تمنعه، وهي التي اختارت تسميتي على اسم أبيها رحمه الله «المختار» الذي كان متزوجا من ثلاث نساء إحداهن «ماما زهور» التي كانت بدورها تكن لي كل الحب. - تردد دوما أن العلاقات داخل هذا الحي كانت مميزة، كيف ذلك؟ عشنا بحي تواركة لأن جدي لأمي كان يشتغل في «دار المخزن»، والناس في هذا الحي الجميل يعيشون في وحدة ملفتة كما هو الحال في «القصور» الشعبية بالرشيدية أو فكيك. أذكر أن الجيران الفضلاء كانوا حريصين على أن ننشأ كأطفال نشأة سليمة فيراقبون خطواتنا كلها حتى إذا استطعنا أن نفلت من مراقبة آبائنا وأمهاتنا نقع تحت أعينهم فيعاقبوننا بما يناسب حتى لا نعود لمثلها أو يبلغون والدينا عن الأفعال التي قمنا بها بغرض تأديبنا، كانت التربية تتم بشكل يمكن أن نسميه «جماعي» وذات أهداف نبيلة، لكن للأسف هذه القيمة الجماعية باتت مفتقدة في وقتنا الحاضر. - كدتم تلقون حتفكم خلال قصف الحي من طرف انقلابيي 1972 بعد فشلهم في إسقاط طائرة الملك الراحل الحسن الثاني في الجو، وأنت لم تتجاوز بعد الخامسة من عمرك.. ماذا تذكر عن تلك الحادثة؟ أبرز ما وشم ذاكرتي وأنا طفل أخطو خطواتي الأولى في هذه الحياة بحي تواركة هي تفاصيل انقلاب 1972 الذي حاول من خلاله أوفقير والمتآمرون معه قلب النظام. كان الوقت صيفا وكنت برفقة أخي عبد اللطيف الذي كان يأخذني إلى «المسيد» لحفظ القرآن وبينما نحن في طريق «المشور» لفت نظري وجود طائرات في السماء فقلت لأخي مستغربا «شوف دوك الطيارات كيفاش متلاصقين»، ويبدو أن تلك الطائرات كانت في مهمة استطلاعية لأنها ظلت تحوم حول المنطقة لساعات متواصلة. وخلال عودتنا من «المسيد» حوالي الساعة السادسة مساء وبمجرد شروعنا في اللعب رفقة الأقران سمعنا دوي انفجارات هائل فأطلقنا سيقاننا للريح ودلفنا مسرعين لأول منزل وجدنا بابه مفتوحا. أذكر أننا وجدنا ربة المنزل وهي تردد «اللطيف» وتفتح الباب من حين لآخر لتفقد ما يجري وكلنا أمل أن لا تصيبنا قذائف الطائرات الحربية فنلقى حتفنا، وبطبيعة الحال لم نكن في سن تتيح لنا أن نستوعب الحدث. وبمجرد ما انتهى القصف خرجت أبحث عن أمي فلم أجدها في المنزل فذهبت أبحث عنها عند إحدى الجارات فالتحقت بها وما لبث القصف أن تكرر من جديد وقد كنا نعتقد أنه انتهى. لم نكن نفهم ما يجري وحتى تساؤلاتنا لم تكن تجد لها جوابا من طرف الكبار الذين كانوا منشغلين بتأمين سلامتنا. - وكيف انتهت تلك المغامرة؟ حينما خفت حدة القصف، جمعتنا الأم حفظها الله وركبنا الحافلة إذ أن الانقلاب ومحاولة قصف طائرة الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله وهي في الجو لم تمنع من أن تستمر الحياة العادية داخل العاصمة، وتوجهنا صوب أحد معارفنا هربا من القصف حيث قضينا الليلة هناك. علمنا في اليوم الموالي أن الأمور أصبحت عادية فعدنا إلى منزلنا بتواركة وقد بات ما جرى بالأمس حديث الساعة إذ لا تكاد تمر بشخصين إلا وتجدهما يتحدثان عما حدث بالأمس. في ذلك الوقت أذكر أنهم بدؤوا يحدثوننا عن تفاصيل الانقلاب السابق الذي جرى عام 1971 ويخبروننا عن الذين قتلوا في مجزرة الصخيرات من أبناء الجيران الذين لقوا حتفهم على يد الانقلابيين بقيادة الكولونيل اعبابو. - يروج أن حي تواركة هو حي محظوظ لكونه قريبا من القصر الملكي بالعاصمة وأغلب قاطنيه يشتغلون داخله؟ هذا غير صحيح، فحي تواركة ليس «الحي المحظوظ» كما أسميته، بل هو حي عادي تشرف أبناؤه بالعمل في القصر الملكي، لكن أغلب الأسر تنتمي إلى الطبقة الكادحة التي تعمل بجد لكسب قوت يومها. وقد كانت أوضاعهم المالية صعبة في فترات سابقة لكن مع مجيئ عهد جلالة الملك محمد السادس نصره الله تحسنت أوضاع العاملين كثيرا. - هل سبق لك أن رأيت الحسن الثاني في تلك المرحلة من الصغر؟ كنا نسمع بعض الأطفال من أبناء حي تواركة يرددون على مسامعنا أنهم رأوا الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله، لكن شخصيا لم يسبق لي أن رأيته هناك.