سماحة المدينة الحمراء التي توارثتها عن الأجيال المؤسسة هي التي تجعل الزائر لها والساكن بها يصافح بعينيه مشاهد تعايش العادات والتقاليد والأديان، فمراكش، التي تأسست على قباب الصوفية والفقه والفلك والهندسة والأدب، هي نفسها التي تحولت في السنين الأخيرة إلى مدينة بوابتها مفتوحة على مدن العالم. رغم شهر الصيام في عز حر شهر غشت، فالعديد من المقاهي والمطاعم تشتغل بشكل شبه عادي مع الأجانب والمغاربة المتشبهين بهم، وحدهن عاملات الأسواق الممتازة من يجدن حرجا كبيرا في الدفع بقنينات الخمر بأيديهن واستخلاص ثمنها من الأجانب الذي يقصدون، غالبا، تلك الأسواق لشراء كحولهم في أوقات أوج ازدحام المغاربة من أجل شراء التمر والحليب والجبن والبيض. هناك بمراكش من المغاربة من ينزوي في ركن من مطاعم «ماكدو» يتصرف ويوحي لمحيطه بأنه «كًاوري»، يلبس ثوبا رقيقا مع ساعة يدوية غالية الثمن ويضع نظارات على عينيه ويداعب، بشكل هستيري، هاتفه النقال، ويركن لغته العربية في دولاب البيت قبل خروجه في عز رمضان حتى يُصرف اللغة الفرنسية كما شاء ويوزعها على يمينه قبل يساره، يدخن بها ويأكل بها كما لو أنها شفاعته الأولى والوحيدة في هذا الشهر الفضيل. مغاربة آخرون لا يجدون حرجا في مصادقة الأجانب في شهر رمضان دون غيره من باقي شهور السنة، وهؤلاء هم فئة أصحاب التملص الضريبي من الصوم، يبحثون عن أجانب تائهين وسط حي كًيليز ويعرضون عليهم ابتسامة حنونة وماكرة قبل أن يزاوجوا خطوات أرجلهم ويدخلوا سويا مقهى مكيفا أو مطعما، هنالك يتبادلون أطراف الحديث ويتحول هؤلاء المغاربة إلى مفتين وفقهاء، يحللون ويحرمون في الدين وفق هواهم أمام اندهاش الأجانب الذي فيهم من يعرف الإسلام أكثر من أي مغربي لا تتجاوز معرفته الدينية أكثر من ساعات غيابه الكثيرة عن حصص التربية الإسلامية في المدرسة العمومية. تعايش الاختلاف بمراكش وسماحة المراكشيين لم يفرزا فقط فئة المتملصين الذين عراهم الصوم والحر هذه السنة بشوارع كًيليز، بل إن أكثر الأجانب الذين اختاروا الاستقرار الدائم بالمدينة الحمراء لبسوا ثوب الصوم، حتى انتشرت ظاهرة صيامهم وتوسعت لتشمل أصدقاءهم ومعارفهم. وقد اعترف لي العديد منهم بأنهم وجدوا منافع صحية كثيرة في الصوم، زيادة على إيمانهم بضرورة احترام التقاليد الإسلامية للبلد الذي اختاروا العيش فيه وسط أهله وأناسه. صوم الأجانب المستقرين بمراكش أصبح ظاهرة ملفتة للانتباه، إلى درجة أن فرنسيا أسرّ لي بأن مصالح القنصلية الفرنسية تتابع باهتمام كبير هذا التحول العقائدي والاجتماعي في السلوك لدى الأجانب بمراكش، حتى إنه لم يعد غريبا أن يتزاحم المغاربة مع هؤلاء الصائمين الجدد لشراء «البغرير» و«الرغايف» ومشتقات الحليب و«الشباكية» في سوق باب دكالة الشعبي والشهير، وكثيرون منهم يلبسون «الدراعية» المراكشية، وفيهم من يصاب أيضا بداء «الترمضينة». غريب هذا الزحف الأجنبي على ثقافتنا وتقاليدنا الدينية ومعمارنا وأدبنا الشعبي وموروثنا الموسيقي والصوفي، وغريب وغير مفهوم هذا الزحف المغربي نحو الخارج،.. ربما يأتي يوم لن تجد فيه صائمين غير الأجانب بمراكش، ولن تسمع فيه طربا أندلسيا أو ملحونا إلا من جوق أجنبي، ولا بائعة «بغرير» و«شباكية» غير فرنسية أو بلجيكية عجوز أو «نفار» ألماني بعيون زرقاء... في مدينة تناست روحها في جسد غيرها.