قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... الخليفة المهدي يتقي شر رعاع الناس قعد المهدي قعودا عامّا للناس، فدخل رجل، وفي يده نعل ملفوفة في منديل، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أهديتها لك.فقال: هاتها. فدفعها إليه، فقبّل باطنها ووضعها على عينيه وأمر للرجل بعشرة آلاف درهم. فلما أخذها وانصرف قال لجلسائه:أترون أني لم أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يرها فضلا عن أن يكون لبسها؟ ولو كذبناه قال للناس: « أتيت أمير المؤمنين بنعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فردّها عليّ» وكان من يصدقه أكثر ممن يدفع خبره، إذ كان من شأن العامّة ميلها إلى أشكالها والنصرة للضعيف على القوي، وإن كان ظالما اشترينا لسانه وقبلنا هديّته وصدّقنا قوله، ورأينا الذي فعلنا أنجح وأرجح. روي أن المتوكّل قال:أشتهي أن أنادم أبا العيناء، لولا أنه ضرير. فقال أبو العيناء: إن أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الهلال ونقش الخواتم، فإني أصلح. وسئل أبو العيناء عن حماد بن زيد بن درهم وعن حمّاد بن سلمة بن دينار فقال: بينهما في القدر ما بين أبوايهما في الصرف. المجنون لا يصلي.. جاء رجل إلى ابن عقيل فقال: إني كلما أنغمس في النهر غمستين وثلاثا لا أتيقن أنه قد غمسني الماء، ولا أني قد تطهرت، فكيف أصنع؟فقال له: لا تصلي. فقيل له: كيف قلت هذا؟قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى ينتبه، وعن المجنون حتى يفيق»، ومن ينغمس في النهر مرة أو مرتين أو ثلاثا ويظن أنه ما اغتسل فهو مجنون. أنظر إلى ثيابك وأنت تستحم ومن المنقول عن بعض الفقهاء، أن رجلا قال له: إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل، هل أتوجه إلى القبلة أم إلى غيرها؟ قال: توجه إلى ثيابك التي نزعتها. المنصور وزوجة التاجر الخائنة بلغنا عن المنصور أنه جلس في إحدى قباب مدينته، فرأى رجلا ملهوفا مهموما يجول في الطرقات، فأرسل من أتاه به، فسأله عن حاله، فأخبره الرجل أنه خرج في تجارة فأفاده مالا وأنه رجع بالمال إلى منزله، فدفعه إلى أهله، فذكرت امرأته أن المال سرق من بيتها ولم تر نقبا ولا تسليقا. فقال له المنصور: منذ كم تزوّجتها؟ قال: منذ سنة. قال: أفبكر هي تزوّجتها؟ قال: لا. قال: فلها ولد من سواك؟قال: لا. قال: فشابّة هي أم مسنّة؟ قال: بل حديثة. فدعا له المنصور بقارورة طيب كان يتخذه له حادّ الرائحة، غريب النوع، فدفعها إليه وقال له: نطيّب من هذا الطيب، فإنه يذهب همّك. فلما خرج الرجل من عند المنصور قال لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم.. فمن مرّ بكم فشممتم منه رائحة هذا الطيب فليأتني به. وخرج الرجل بالطيب، فدفعه إلى امرأته وقال لها: وهبه لي أمير المؤمنين. فلمّا شمّته بعثت إلى رجل كانت تحبّه، وقد كانت دفعت المال إليه، فقالت له: تطيّب من هذا الطيب، فإن أمير المؤمنين وهبه لزوجي. فتطيّب منه الرجل ومرّ مجتازا ببعض أبواب المدينة، فشمّ الموكل بالباب رائحة الطيب منه، فأخذه فأتى به المنصور، فقال له المنصور: من أين استفدت هذا الطيب فإن رائحته غريبة معجبة؟ قال: اشتريته.قال: أخبرنا ممن اشتريته؟! فتلجلج الرجل وخلط كلامه.فدعا المنصور صاحب شرطته، فقال له: خذ هذا الرجل إليك، فإن أحضر كذا وكذا من الدنانير فخلّه يذهب حيث شاء، وإن امتنع فاضربه ألف سوط من غير مؤامرة. فلما خرج من عنده دعا صاحب شرطته، فقال: هوّل عليه وجرّده ولا تقدمن بضربه حتى تؤامرني. فخرج صاحب شرطته، فلمّا جرّده وسجنه أذعن بردّ الدنانير وأحضرها بهيئتها، فأعلم المنصور بذلك، فدعا صاحب الدنانير فقال له: رأيتك إن رددت عليك الدنانير بهيئتها أتحكمني في امرأتك؟ قال: نعم. قال: فهذه دنانيرك، وقد طلقت المرأة منك. وخبّره خبرها. لباقة الوزراء في حضرة الأمراء روي عن الرشيد أنه رأى يوما في داره حزمة خيزران، فقال لوزيره الفضل بن الربيع: ما هذه؟ فقال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين. ولم يرد أن يقول الخيزران لموافقته اسم أم الرشيد. ورأى الفتح بن خاقان في لحية المتوكّل شيئا فلم يمسه بيده، ولا قال له شيئا، ولكنه نادى: يا غلام مرآة أمير المؤمنين. فجيء بها حتى أخذ المتوكّل ذلك الشيء بيده.