الكتب قوة لا يقهرها تعاقب الأزمنة ورفض الأنظمة، ولا اختلاف اللغات وتصارع الانتماءات.. هناك كتب كتبها أصحابها كمذكرات وتحولت إلى ملهمة للثورات، وكتب كانت مصدر شقاء أصحابها في حياتهم، لتصبح هي نفسها مصدر مجدهم وخلودهم.. وأخرى نشرت تنفيذا لوصية الوفاة وأضحت بعد نشرها شهادة ميلاد.. ونحن عندما نختار قراءة ثلاثين منها، فليس لأنها «الأفضل» أو لأنها «الأحسن».. بل لأنها الأكثر تأثيرا في تاريخ البشرية، فمن الدين والفقه، مرورا بالسياسة والاستراتيجية..وصولا إلى العلم والاقتصاد...احتفظت هذه الكتب دوما بوقع عظيم ومستمر في الحضارة والإنسان. كان الاعتقاد السائد في الأوساط العلمية هو أن القلب يصنع الدم، وهذا التصور تسنده أفكار اعتقادية عن كون القلب رمز الإيمان، وما اكتشفه الطبيب الإنجليزي ويليام هارفي (William Harvey) عن كيفية عمل القلب ودوران الدم في الأوعية يعتبر الإنجاز الأهمَّ في الطب في كل زمان ومكان -حسب الكثيرين. فقد رسّخ هذا الاكتشاف مبدأ مهما في الطب ألا وهو الاعتماد على التجارب العملية لفهم وظائف أنسجة وأعضاء الجسم المختلفة، إذ إن ما ألفه هارفي عام 1628 تحت عنوان «بحث تشريحي عن حركة القلب والدم في الحيوانات» كان فاتحة لما تلاه من تجارب وبحوث عديدة كشفت النقاب عن أسرار عمل باقي العمليات الفسلجية في الجسم- كالتنفس والهضم والأيض والتناسل... كان هارفي قد أنهى دراسته الطبية في جامعة «بادوا»، حيث تعلم فيها حقيقة مهمة هي أن للأوردة صمامات تسمح بنقل الدم في اتجاه واحد فقط ولا تسمح له بالرجوع في الاتجاه المعاكس. ولكن دور هذه الصمامات لم يكن معروفاً على وجه التحديد. ورغم أنه كان ما يزال خطراً مخالفة آراء غالين، والتي دعا من خلالها إلى أن الكبد لا يقوم بصنع الدم فقط بل ويضخه إلى كافة أنحاء الجسم أيضاً، فقد قرر هارفي دراسة تدفق الدم في الحيوانات الحية، وهو الأمر الذي كلفه 12 سنة قضاها في محاولة لإقناع الكلية الطبية الملكية في لندن بجدوى تجاربه وأبحاثه التي تضمنها كتابه الجديد والتي امتدح فيها غالين، بينما حاول تحدي العديد من أفكاره. ففي الفصل الثامن، من أصل 17 فصلاً تضمنها كتابه، قدم هارفي، ببالغ الحذر، لنظريته الثورية الخطرة التي تفيد بأن الدم يسري في دورة مغلقة خلال الجسم ابتداء من القلب، فالشرايين فالأوردة، التي تُعيده إلى القلب من جديد. أما في الفصول التسعة اللاحقة، فقد حاول هارفي أن يدعم نظريته بلغة إنجليزية واضحة للغاية. لقد تمكن هارفي فعلاً من أن يشرح، من خلال سلسلة من التجارب الممتازة على الحيوانات الحية، الكيفية التي يدور بها الدم داخل الجسم. فعندما كان يسد شريانا ما، فإن الوريد الذي يأخذ الدم من نفس الجزء كان ينكمش أيضاً، بينما كان انسداد الوريد يؤدي إلى تضخمه أسفل منطقة الانسداد وانكماشه أعلاه، وهي الظاهرة التي لا تكاد تزول بمجرد فتح الوريد من جديد. كما أوضح أيضاً أن الصمامات الوريدية تسمح بجريان الدم في اتجاه القلب فقط. لقد أكدت هذه الاكتشافات مجتمعة أن للدم «دورة» داخل الجسم. النزعة التجريبية وبداية علم التشريح ويليام هارفي هو عنوان ثورة العصور الحديثة في مجال علم الحياة وعلم الطب، حيث تم اكتشاف لقاحات كثيرة ضد أمراض وأوبئة قاتلة، وتم اكتشاف عمل مجموعة من أعضاء الجسم بشكل سهل عملية تشريح أمراضها وتعيين أدويتها، فشهد القرن العشرون تطورا غير مسبوق واكتشافات كبري. فلقد اكتشف الطبيب الهولندي كريستيان إيجكمان أن الأمراض لا تسببها الجراثيم فقط ولن يمكن أن تكون بسبب نقص بعض المواد في الغذاء. فتوصل العلماء إلى الفيتامينات. وفي عام 1909، توصل البكتيريولوجي الألماني بول إيرليخ إلى أول قاتل كيماوي (مركب السلفانيلاميد) للجراثيم، دون قتل خلايا المريض. ثم اكتشف البكتيريولوجي الريطاني ألكسندر فلمنغ عام 1928 البنسلين المضاد الحيوي. ثم أعقبته المضادات الحيوية الأخرى والتي تقتل البكتيريا وليس لها تأثير علي قتل الفيروسات التي ما زالت تكافح أمراضها الفيروسية القاتلة بالأمصال والمقويات الحيوية، حتى الآن، كما في مرض الجدري ومرض شلل الأطفال اللذين اختفيا من الخريطة الصحية العالمية تقريبا في أواخر القرن العشرين. وتوقع العلماء إمكانية القضاء أو السيطرة علي الأوبئة عام 1980، إلا أنهم صُدموا بظهور سلالات جديدة من الجراثيم المعدية مقاومة للمضادات الحيوية، كجراثيم السل (الدرن) والفيروسات المسببة لحمى النزيف الدموي. ويحسب لهارفي أيضا تأسيسه لعلم التشريح، الذي أضحى يلعب دورا أساسيا ليس من الناحية الطبية والعلمية فقط، بل من الناحية الجنائية والقانونية، كعلم التشريح الذي يَدرُس شكل جسم الإنسان وتركيبه. وقد تركزت دراسة التشريح في البداية على وصف الأعضاء والأجهزة (التشريح الوصفي) استناداً إلى تشريح الجثث، ثم انتقل هذا العلم إلى دراسة العلاقات الناظمة لتركيب الجسم وتطوره وعمل الأعضاء والأجهزة (التشريح الوظيفي). صحيح أن التشريح ليس علما حديث العهد، فقد اهتم الإنسان به منذ القدم، ولكنه لم يصبح علما واضحا متعدد الأغراض حتى العصر الحديث، وفي مجال تشخيص الأمراض شهد الطب طفرة في تقنية التصوير التشخيصي كالتصوير بالرنين المغناطيسي والمسح الطبقي. كما أن العلماء في طريقهم للعلاج الجيني لبعض الأمراض، كمرض السكري. وظهر التشخيص وإجراء العمليات بالمناظير وزراعة الأعضاء وتغيير صمامات القلب وتوسيع الشرايين. وكلها كان من المستحيل إجراؤها. وظهرت ممارسة الطب عن بعد بفضل التقدم في توصيلات الألياف البصرية السريعة، عن طريق استخدام الإنسان الآلي وقيامه بالعملية الجراحية في غرفة العمليات. ويقوم الجراح، في هذه الحالة، بتوجيهه في حجرة مجاورة. ويمكن عن طريق الأنترنت أن يقوم جراح في بلد آخر بالقيام بهذه العملية. لكن الإنسان الآلي يقوم بالمهمة بشكل أدق من الجراح البشري. بعد هارفي، جاء غاسبار أسيلي (1581-1626م) وهو جراح إيطالي، اكتشف الأوعية «اللمفية» عام 1622م، ويعد رائد دراسة الجهاز اللمفي التي سهلت فهم الدورة الدموية، ثم مارسيل مالبيكي (1628 -1694م)، جراح وعالم أنسجة إيطالي، كان أستاذا في الفيزياء قبل أن يصير طبيبا للبابا. وهو أول من وصف الدورة الدموية على مستوى الشعريات، وأثبت التركيب النسيجي للرئتين، ويعد مؤسس علم الأنسجة. وقد استخدم المجهر وبدأ باكتشاف التركيب المجهري للأعضاء. فريدريك رويش (1638 -1731م) جراح ألماني شهير، كان أستاذا للتشريح وعلم النبات في أمستردام. طور طريقة جديدة في حقن المواد ضمن الأوعية، فاتسعت معرفة الجهاز الوعائي الدموي، وقد أنشأ متحفا تشريحيا رائعا عد «ثامن عجائب الدنيا»!...
ويليام هارفي في سطور هو طبيب إنجليزي ولد في عام 1578 وتوفي في عام 1657، وهو مكتشف حقيقة الدورة الدموية وعمل القلب كمضخة. فالدراسة الوظيفية للقلب والدورة الدموية بقيت على الأكثر متوقفة تماما منذ 1400 سنة، منذ عهد عالم التشريح (الإغريقي-الروماني) غالين. ولكن هارفي خاض هذا الحقل بشجاعة وجرأة، بالإضافة إلى ذكائه وطرق تجاربه الدقيقة، التي اعتُبِرت نموذجا للبحث العلمي في علم الحياة والعلوم الأخرى. كما شارك وليام هارفي في البحث والتحقيق عن المغناطيس الذي كان الرصيد للبدء في أبحاث تجريبية دقيقة في العالم أجمع. درس هارفي الطب في جامعة «بادوا» الإيطالية والتي تلقب ب«الأم مربية النهضة»، لأنها كانت المركزَ الطبيَّ للنهضة، وبعد أن تخرج منها هارفي، عمل تحت إشراف الطبيب فابريكيوس، الذي اكتشف صمامات الأوردة، وتعلم منه كيفية التشريح والعمل المختبري المنظَّم، الرزين وغير المتسرع.. ولع هارفي بالأبحاث الطبية أكثر من ممارسة الطب في المستشفيات، فاختار الاشتغال على وظائف القلب، وهو موضوع ذو حساسية بالغة في القرون الوسطى، خاصة في إنجلترا المحافظة، فاشتغل 12 سنة قبل أن يستعد لنشر نتائج أبحاثه. وأثار تردده في نشر أبحاثه حول الدورة الدموية العديد من التخمينات، كان أقواها خوفه من ردود الفعل التي قد ترافق هذه الأبحاث، فذكرى كوبرنيكوس وما تعرض له ما زالت حاضرة في الأذهان.. يتكون الكتاب من مقدمة و17 بابا تتناول كلها عمل القلب وحركة الدم الدائرية، أهدى هارفي كتابه للملك شارل الأول، حيث يُشبِّه الملك في مملكته بالقلب في الجسم ويُتبع ذلك بخطاب لعميد الكلية الملكية أرنجيت وباقي زملائه الأطباء.