قال ابن الجوزي رحمه الله: «وما زال العلماء الأفاضل يعجبهم الملح ويهشون لها لأنها تجم النفس وتريح القلب من كد الفكر».. ففائدة النوادر والطرائف والفكاهات عظيمة فهي مبعث على دماثة الخلق، وصفاء في الذهن، وأريحية مستفيضة، فإذا استقصينا نوادر الخلفاء والأمراء والولاة وجدنا أنفسنا إزاء كنز لا تحصى جواهره، وتعرّفنا من خلال ذلك الاستقصاء على حِكَم وعِبَر ودروس في الدين والدنيا، تجلب للنفس الأنس والمرح... في هذه المجموعة، جزء من هذا الكنز الأدبي الذي يضم أجمل ما وقعت عليه طرائف الخلفاء والأمراء.. هذه الباقة لطيفة، جميلة مؤنسة، ملونة بألوان مُشْرقة، واحة تستظل بها النفس من قيظ الصيف... قال معاوية لابن عباس «لي عندك حاجة هل تقضيها؟» فقال بن عباس «لي عندك حاجة هل تقضيها؟» قال نعم، فقال بن عباس سل حاجتك، فقال معاوية أن تهب لي دورك وضياعك التي في الطائف، فقال هي لك، فقال معاوية وما حاجتك؟ قال بن عباس أن ترد لي ما وهبتك، قال معاوية وهو يضحك قد أرجعتها إليك. الوليد وطلاق سعدى طلق الوليد بن يزيد زوجته سعدى، ولما تزوجت غيره، اشتد عليه ذلك، وندم على ما كان منه، فدخل عليه أشعب فقال له الوليد هل لك أن تبلغ سعدى عني رسالة، ولك عندي خمسة آلاف درهم، فمد إليه قصيدة مطلعها: أسعدى هل إليك لنا سبيل/ولا حتى القيامة من تلاق. فأتاها أشعب واستأذنها في الدخول وأذنت له، فقالت ما بدا لك في زيارتنا يا أشعب، فأجابها أشعب أرسلني إليك الوليد برسالة، فأنشدها الشعر، فقالت لجواريها، عليكن بهذا الخبيث، فلما هممن به قال لها:لقد جعل لي الوليد خمسة آلاف درهم إن أنا فعلت، فقالت له، والله لئن لم ترجع إليه برسالتي هذه لأعاقبنك، فقال أشعب ياسيدتي إجعلي لي أجرا، فقالت لك بساطي هذا، فأعطته إياه، وتلت عليه البيت :أتبكي على سعدى وأنت تركتها/ لقد ذهبت سعدى فما أنت صانع. فلما بلغت الرسالة الوليد، ضاق صدره واغتاظ غيظا شديدا، وقال لأشعب، اختر مني ثلاثا:إما أن أقتلك، أو أطرحك من هذا القصر، وإما أن ألقيك إلى هذه السباع فتفترسك، فقال أشعب «ما كنت تعذب عينا نظرت لسعدى»، فتبسم الوليد وخلى سبيله. لم أمر بجهنم قال البحتري، كنت عند المتوكل، وكان عنده عبادة المضحك، فأمر به فألقي في بركة ماء في القصر، فغرق وكاد يموت، فانتشله الخدم وألبسوه ثيابا جديدة واطمأنت نفسه، سأله المتوكل كيف أنت يا عبادة؟ فأجاب جئت من الآخرة، قال المتوكل كيف تركت أخي الواثق؟ فقال بن عبادة لم أمر بجهنم، فضحك المتوكل حتى استلقى على ظهره، وأمر له بصلة. تحت الأرض السفلى قال المتوكل يوما لجلسائه أتدرون أول ما عاب الناس على عثمان؟ قالوا بلى، قال لأنه لما توفي الرسول صلى الله وعليه وسلم، قام أبو بكر على المنبر دون مقام رسول الله بدرجة، ولما تولى عمر الخلافة بعد أبي بكر نزل درجة أخرى دون درجة أبي بكر، وعندما تولى عثمان بن عفان، صعد إلى أعلى المنبر مكان رسول الله، فأنكر عليه المسلمون ذلك، وكان المراد أن يكون دون درجة عمر، فقال عبادة يا أمير المؤمنين ما أحد أعظم منة عليك من عثمان، قال المتوكل كيف ذلك؟ قال عبادة كونه صعد أعلى المنبر، فلو كان كل من ولى نزل من مقام من تقدمه، لكنت أنت اليوم تخطب تحت الأرض السفلى. المأمون ولقاء زوجته أم العباس أشرف المأمون على نهر الفرات فصادف جارية كأنها القمر ليلة تمامه من حيث الجمال وبيدها قربة ماء قد ملأتها وحملتها على كتفها وصعدت من حافة النهر فسألها المأمون: يا جارية من أي العرب أنت؟ قالت: أنا من بني كلاب، قال المأمون: وما الذي حملك أن تكوني من الكلاب، فقالت: والله لست من الكلاب وإنما أنا من قوم كرام غير لئام يكرمون الضيف ويضربون بالسيف، ثم قالت: يا فتى من أي الناس أنت، فقال: أو عندك علم بالأنساب قالت: نعم. فعجب المأمون من جمالها وذكائها وفصاحة لسانها، وقال والله لأ تزوجن بهذه الجارية وسأل عن أبيها وخطبها منه فزوجه بها وعاد مسرورا وهي والدة ابنه العباس. الشاعر ابن بيئته قدم علي بن الجهم على المتوكل - وكان بدويا جافيا - فأنشده قصيدة قال فيها : أنت كالكلب في حفاظك للود/ وكالتيس في قراع الخطوب أنت كالدلو لا عدمناك دلوا / من كبار الدلا كثير الذنوب فعرف المتوكل قوته، ورقة مقصده وخشونة لفظه، وذلك لأنه وصف كما رأى ولعدم المخالطة وملازمة البادية. فأمر له بدار حسنة على شاطئ دجلة فيها بستان يتخلله نسيم لطيف والجسر قريب منه، فأقام ستة أشهر على ذلك ثم استدعاه الخليفة لينشد، فقال :عيون المها بين الرصافة والجسر/جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري خليلي ما أحلى الهوى وأمره /أعرفني بالحلو منه وبالمر!