هناك معارك وثورات مشهورة في التاريخ السياسي للمغرب، بعضها يعرفه أغلب المغاربة، ولكن معظم تلك المعارك وخلفياتها و حيثياتها تخفى على الكثيرين ابتداء من الحرب التي قادها القائد الأمازيغي يوغرطة ضد روما، مرورا بحروب وثورات وقعت في العصور الوسطى، وانتهاء بمعارك العصر الحديث. ومن خلال هذه الرحلة عبر عدد من المعارك والثورات، تتوخى «المساء» أن تلقي الضوء على تلك المعارك والثورات، شخصياتها، وقائعها، وبالأخص تأثيرها على المسار السياسي للمغرب. مليلية أو مريتش باللغة المحلية مدينة مغربية ساحلية بشمال المغرب تخضع منذ قرون للسيطرة الإسبانية. و يحكي الباحث المغربي محمد القاضي في مقال له تحت عنوان «مليلية المغربية وخمسة قرون من الاحتلال» أن مدينة مليلية كانت أول هدف رسمه الإسبانيون للنيل من الوحدة الترابية للمغرب، عملاً بوصية عاهلة إسبانيا إزابيلا قبل وفاتها، التي أوصت زوجها وابنتها بخوض حرب ضد المغرب، وقالت: «أرجو من ابنتي ومن زوجي فيرناندو تجنيد أنفسهما كلياً لاحتلال إفريقيا وخوض الحرب ضد المغاربة في سبيل العقيدة». وبالفعل تمكنت إسبانيا على يد القائد بيدرو دي إيسطوبينيان سنة 1497م باحتلال هذه المدينة، ومنذ تلك الفترة والمدينة تعيش الاحتلال ومآسيه. ويورد الباحث محمد القاضي تفاصيل الاحتلال الإسباني لمدينة مليلية: «كانت مملكة البرتغال قد شرعت حينذاك تنافس الدولة الإسبانية الناشئة في حملة الاعتداء على المغرب. وقد استطاع ملك البرتغال في معاهدة ALCAGAVAS المبرمة يوم 4 سبتمبر 1479م أن يحمل إسبانيا على اعتبار مليلية جزءا من المملكة المغربية بعد أن كانت تعتبرها تابعة لمملكة تلمسان. وكان السلطان محمد الشيخ الوطاسي قد اتفق مع سلطان تلمسان على أن يهجر مدينة مليلية إثر الخلاف المحتدم الطويل الذي نتج بينهما حول ملكيتها. فاستغل الإسبانيون هذا الخلاف وما نتج عنه فاغتصبوا مليلية في 17 سبتمبر 1497م». وإذا كانت إسبانيا تتمسك بمليلية وتعتبرها إسبانية، فإن المغرب لم يسلم قط بالتنازل عن سيادة إسبانيا على هذه المدينة كما لم يسلم بسيادة التاج الإسباني على مدينة سبتةالمحتلة وغيرها من الجزر المغربية المحتلة بشمال المغرب. والدليل على عدم تسليم المغرب وحكامه بالأمر الواقع، هو مطالبة السلاطين المغاربة، الذين تعاقبوا على حكم المغرب، باستعادة السيادة المغربية على تلك الثغور المحتلة. ويشهد على ذلك على سبيل المثال محاولة السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، الذي قام بحصار مدينة مليلية من أجل تخليصها من الاستعمار الإسباني في عام 1185 هجرية. وكتب الناصري في كتابه «الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى» عن خبر حصار السلطان سيدي محمد بن عبد الله لمدينة مليلية المحتلة، إذ ذكر أنه «لما كانت أواخر سنة أربع وثمانين ومائة وألف (1184 هجرية) غزا السلطان محمد بن عبد الله مدينة مليلية وفيها نصارى الإصبنيول فأحاطت عساكره بها ونصب عليها المدافع والمهاريس وشرع في رميها أول يوم من المحرم سنة خمس وثمانين ومائة وألف (1185) واستمر على ذلك أياما فكتب إليه طاغية الإصبنيول يعاتبه على حصارها ويذكره بالمهادنة والصلح الذي انعقد بينه وبين السلطان ويقول له هذا خط كاتبك الغزال الذي كان واسطة بيني وبينك في عقد الصلح لا زال تحت يدي فأجابه السلطان رحمه بأن قال إنما عقدت معك المهادنة في البحر فأما المدن التي في أيالتنا فلا مهادنة فيها ولو كانت فيها مهادنة لخرجتم إلينا ودخلنا إليكم فكيف ادعاء المهادنة مع هذه المداهنة. فبعث إليه الطاغية عقد الصلح بعينه فإذا هو عام في البر والبحر فكف عن حربها وأفرج عنها وترك هنالك جميع آلات الحرب من مدافع ومهارس وكراريص وبنب وكور وبارود». ونقل الناصري عن بعض الفقهاء تفسيرهم لصفقة الصلح التي كتبها الغزال والتي تضمنت مهادنة مع الإسبان برا وبحرا، إذ قيل إن الصيغة التي كتبها الغزال كانت تتضمن عبارة بحرا لا برا، غير أن الإسبان حرفوا فيها. وفي هذا السياق كتب الناصري «وسمعت من بعض فقهاء العصر وقد جرت المذاكرة في كيفية هذا الصلح فقال إن الغزال رحمه الله لما أعطى خط يده بالصلح والمهادنة كتب في الصك ما صورته وإن المهادنة بيننا وبينكم بحرا لا برا، فلما حاز النصارى خط يده كشطوا لام الألف وجعلوا مكانها واوا فصار الكلام هكذا بحرا وبرا وأن السلطان رحمه الله إنما أخره لاختصاره الكلام وإجحافه به حتى سهل على النصارى تحريفه، وكان من حقه أن يأتي بعبارة مطولة مفصلة، حتى لا يمكن تحريفها فيقول مثلا والمهادنة بيننا وبينكم إنما هي في البحر وأما البر فلا مهادنة بيننا وبينكم فيه أو نحو هذا من الكلام فيصعب تحريفه وقد نص أهل علم التوثيق على هذا وأن الموثق يجب عليه أن يبسط الكلام ما استطاع ويجتنب الاختصار المجحف وما يؤدي إليه بوجه من الوجوه والله أعلم».