هناك معارك وثورات مشهورة في التاريخ السياسي للمغرب، بعضها يعرفه أغلب المغاربة، ولكن معظم تلك المعارك وخلفياتها و حيثياتها تخفى على الكثيرين ابتداء من الحرب التي قادها القائد الأمازيغي يوغرطة ضد روما، مرورا بحروب وثورات وقعت في العصور الوسطى، وانتهاء بمعارك العصر الحديث. ومن خلال هذه الرحلة عبر عدد من المعارك والثورات، تتوخى «المساء» أن تلقي الضوء على تلك المعارك والثورات، شخصياتها، وقائعها، وبالأخص تأثيرها على المسار السياسي للمغرب. تعد الزاوية الدلائية من الزوايا التي لعبت دورا حاسما في التاريخ السياسي للمغرب من طرف الشيخ أبي بكر الدلائي، الذي ينحدر من قبيلة مجاط الصنهاجية القادمة من أعالي ملوية. وحسب الباحث المغربي الراحل محمد حجي في كتابه حول الزاوية الدلائية، فإن كلمة «الدلاء» تطلق على الأرض التي أسس فيها المجاطيون زاويتهم بالجنوب الغربي للأطلس المتوسط المشرف على سهول تادلة. ولفظ الدلاء عربي من جمع دلو، أي إناء يستقى به، استعمله بهذا المعنى كتاب عاشوا في الزاوية الدلائية مثل الحسن اليوسي ومحمد المرابط الدلائي. تأسست هذه الزاوية في القرن العاشر في الأطلس المتوسط. كانت غايتها صوفية في البداية. فعلى سبيل المثال كان لمحمد بن أبي بكر الدلائي نفوذ قوي لدى القبائل البربرية في الأطلس المتوسط. كما امتاز بعض أبنائه بالشجاعة والفروسية، غير أنه لم يحاول، حسب حجي، أن يستغل كل هذه الأمور من أجل حشر نفسه في الشؤون السياسية، وكان يدعو بالأساس إلى التمسك بالوحدة والسمع والطاعة. لكن سرعان ما انحرفت هذه الزاوية عن هذه الغاية إلى أهداف سياسية، خاصة في نهاية الحكم السعدي. وقال صاحب «النزهة» إنه في أيام السلطان محمد الشيخ بن زيدان السعدي قويت شوكة أهل الدلاء وانتشرت كلمتهم في بلاد الغرب وضعف الشيخ عن مقاومتهم وعجز عن مقارعتهم وبعث إليهم قاضيه الفقيه أبا عبد الله محمد المزوار المراكشي يطلب منهم ترك الشنآن والرجوع إلى اجتماع الكلمة. وتحكي الروايات التاريخية أنه في سنة 1050 هجرية قام محمد الحاج الدلائي بالزحف على مكناسة وتمكن من السيطرة عليها، ثم حاول أيضا أن يستولي على مدينة فاس، لكنه ووجه بمقاومة أبي عبد الله العياشي، غير أن هذا الأخير انهزم، وحاصر محمد الحاج الدلائي مدينة فاس، ثم عاد أبو عبد الله العياشي مرة أخرى وخاض ضده الحرب فهزمه. لما توفي أبو عبد الله العياشي عاد محمد الحاج الدلائي مرة أخرى وحاصر فاس لمدة تقارب الستة أشهر وقطع عنها المؤونة حتى لحق أهل فاس الجهد وارتفعت الأسعار حتى خضعت له. أمام ارتفاع نفوذ وقوة الزاوية الدلائية بدأت تلوح في الأفق بوادر ثورات ضدها مثل الثورة التي قادها مغربي يدعى الخضر غيلان المنتمي إلى قبيلة عربية تقطن بين العرائش وتطوان. كان هذا المغربي أحد أهم مساعدي أبي عبد الله العياشي. وبعد موت هذا الأخير، قام الخضر غيلان بالاعتصام بالريف وظل ينتظر الفرصة للثورة على الدلائيين، إلى أن أتيحت له هذه الفرصة عام 1653 ميلادية الموافق ل 1063 هجرية، فهاجم أولا مدينة القصر الكبير واستولى عليها، وقتل فيها علي بن أحمد الذي قام باغتيال العياشي، ثم بدأ الخضر غيلان يوسع نشاطاته الحربية ليستهدف المدن والقبائل التي كانت تحت إمرة الدلائيين. وقد حاول محمد الحاج الدلائي القضاء على الخضر غيلان فوجه له جيشا قوامه 80 ألف شخص، وقد التقى الجيشان في مولاي بوسلهام، غير أن جيش الدلائيين مني بالهزيمة. هذه الهزيمة أبانت عن ضعف الدلائيين الذين كان عليهم أن ينتظروا ثورات أخرى، منها ثورة أهل فاس التي ظلت خاضعة للحكم الدلائي ما يقرب من عشرين سنة. وحسب محمد حجي، فقد مرت ثورة أهل فاس بمرحلتين: المرحلة الأولى تحالف فيها الفاسيون مع ثورة الخضر غيلان. إذ أرسل أهل فاس مجموعة إلى القصر الكبير لمساندة الخضر غيلان ضد الدلائيين، فيما قامت مجموعة أخرى بالتحضير لانقلاب داخل المدينة. لكنها شهدت مذبحة رهيبة جعلت الدلائيين يتراجعون عن حكمها. المرحلة الثانية التي امتدت من 1663 إلى 1664، عادت فيها مدينة فاس طواعية إلى حكم الدلائيين، إذ لم يكن لحكام المدينة الجدد أي كفاءة لحكمها. وحكى محمد حجي أن مجموعة من أعيان فاس توجهوا إلى الدلاء يعتذرون للسلطان محمد الحاج الدلائي عما بدر منهم من عصيان وتمرد ورجوه أن يعيد إلى فاس الاستقرار والأمان والطمأنينة بعد جو من الخوف والاضطراب الذي سادها.