بعد رواياته السابقة «جبل قاف»، «بحر نون» و«بلاد صاد»، يعود إلينا عبد الإله بن عرفة ليهدينا روايته الجديدة «الحواميم»، على نفس النسق، نسق الكتابة الأدبية، التي تحفر عميقاً في التاريخ، بعد أن تعجنه وتحوله إلى مادة أدبية تمتح من المعجم الصوفي وعوالمه. في جميع روايته السابقة، نجد بن عرفة بين واحد من طريقين: إما أنه يكتب عن التصوف والصوفية، كما فعل مع محي الدين بن عربي وأبي الحسن الششتري، الصوفيين الأندلسيين، في روايتيه «جبل قاف» و«بلاد صاد»، أو أنه يكتب بالتصوف عن التاريخ. في العمل الأول، يتتبع الروائي الحدث وهو ينمو، وفي العمل الثاني، يتتبع الفكرة وهي تكبر. وما يلفت الانتباه هو أن بن عرفة مهووس بالأندلس، لأنه، حتى الآن، لم يخرج عنها وما زال يبحث بين بقايا أطلال العرب والمسلمين، التي ما زالت تلوح «كباقي الوشم في ظاهر اليد».. عما لم يقله التاريخ بعدُ أو لم يكتبه، مثل ذلك الشاعر الجاهلي الذي لا يريد أن يقتنع بأنه قد «خف القطين وراحوا منك أو بكروا»، كما قال الأخطل، لولا أن مفهوم الوقوف على الأطلال قد تغيّر اليوم، ولم يعد العربي مطالَبا بالبكاء وقول الشعر فقط ، بقدر ما صار لديه خطاب جديد يستند على ضرورة الاعتراف بالذاكرة التاريخية والدعوة إلى عدم طمس مآثر الماضي، لأن طمس تلك المآثر عدوان على الذاكرة وبرهان على التمركز الحضاري حول الذات ومحو الخصوصيات. في روايته الجديدة، يأخذنا عبد الإله بن عرفة إلى مرحلة سقوط مملكة غرناطة، عام 1492، وما تلاه من طرد الموريسكيين في القرن السابع عشر، تزامنا مع الاحتفال بذكرى مرور أربعة قرون على تلك الأحداث المأساوية، من خلال حياة الشيخ ابن معن، الذي اعتُقِل وسُجن وعُذِّب ومات في السجن وأُحرِقت جثته، مثل ما نُكِّل بالعديد من الموريسكيين أو المسيحيين الذين تم اتهامهم بالهرطقة... لكن الشكل الروائي الذي اختاره بن عرفة لصب هذه التجربة هو ما يستدعي الوقوف عنده. فبن عرفة يخوض في مشروع روائي مختلف نحَته من خلال علاقته بالفكر الصوفي، ويتكون هذا المشروع من سلسلتين، الأولى انتهت بالثلاثية «جبل قاف»، «بحر نون» و«بلاد صاد»، وهي مأخوذة من فواتح بعض السور القرآنية ويسميها حروفا نورانية مفْرَدة، بينما ترتكز السلسلة الجديدة، التي تبدأ مع «الحواميم»، على الحروف الثنائية التي تُشكِّل فواتح لبعض السور، مثل: حم، يس، طس، وطه. ولعل بن عرفة، بهذا الشكل من الكتابة، يريد أن يكون وفيا للنموذج المعرفي الصوفي الذي أعطى الحرف قيمة وجودية كبيرة ولم ينظر إليه فقط باعتباره أصغر وحَدة صوتية تتشكل منها الكلمة، كما لدى النحاة واللسانيين، بل كتكثيف رمزي للوجود نفسه. وقد خصص ابن عربي للحرف قسما كبيرا من كتاباته الصوفية وجعل عبد الجبار النفري الحرف مدار مواقفه الشهيرة، مثل الموقف رقم 158 المسمى «موقف حجاب الحرف»، الذي جاء فيه: «وقالي لي: الحرف حجابي الذي لا تخرقه الخوارق ولا تلجه الوالجات». وفي موقف آخر يقول: «الحرف دليل العلم والعلم معدن الحرف»، بل إن الشاعر الفرنسي آرثير رامبو ربما تأثر في كتابة قصيدته الشهيرة «الحروف الصائتة»، التي جعل فيها لكل حرف معنى باطنيا في الثقافة العربية، خلال إقامته في شرق عدن... من خلال هذه الرمزية الحروفية، يحاول عبد الإله بن عرفة أن يجعل من الحرف منطلَقا لبناء النص الكبير، كعمل روائي، جاعلا من الحرف عنصرا مركزيا في هذا العمل، فهو يؤكد في مقدمة روايته أنه يبتدئ في هذه الكتابة بالنور «من أصغر جزء في اللغة، وهو الحرف، لنشيد الكلمة والجملة والنص»، ويعطي بعدا جماليا لهذه التجربة الجديدة.