غلاف العدد الأخير من مجلة «الإيكونومست» البريطانية العريقة كان لافتا للنظر، وكذلك عنوانها الرئيسي «التغيير قادم إلى حلفاء الغرب من العرب»، فليس من عادة المجلة المذكورة التي تعتبر «العقل المنظر» للنظام الرأسمالي الغربي، والحلف الأنجلوسكسوني على وجه الخصوص، تخصيص مساحة كبيرة من صفحاتها للحديث عن الأوضاع الداخلية غير المطمئنة لأهم دولتين عربيتين وهما مصر والمملكة العربية السعودية. وتلخص المجلة الأزمة في البلدين في الحالة الصحية لزعيميهما وتقدمهما في العمر، (العاهل السعودي الملك عبد الله 87 عاما.. والرئيس مبارك 83 عاما)، وعدم حسم مسألة الخلافة بشكل واضح، خاصة في مصر، وبدرجة أقل في المملكة العربية السعودية. الأمر الذي ينبئ بمرحلة من عدم الاستقرار. تركيز المجلة على هذين البلدين لا يعني أن البلدان الأخرى في وضع أفضل، فالعراق يعيش مرحلة هي الأسوأ في تاريخه الحديث، وسورية تواجه أزمات اقتصادية متفاقمة، والسودان على أبواب التفتيت، واليمن على حافة التحول إلى دولة فاشلة، وصحة الرئيس الجزائري ليست أفضل من صحة الرئيس مبارك أو العاهل السعودي، ولكن هذا التركيز على البلدين يعكس قلقا غربيا لافتا بسبب دوريهما في إطار التحالف مع الغرب وسياساته وخوض حروبه جميعا بطرق مباشرة أو غير مباشرة. فالتحديات الضخمة التي يواجهها البلدان تحتاج إلى قيادات شابة لائقة صحيا. فالمنطقة على أبواب حرب مع إيران قد تكون السعودية رأس حربتها، والأزمات تحيط بمصر من كل جانب، حيث باتت مهددة بالجوع والعطش بعد تمرد دول منبع النيل على اتفاقات توزيع الحصص المائية، والسياسات المصرية المتبعة تجاه حصار قطاع غزة باتت تشكل إحراجا للنظام أمام شعبه، خاصة بعد مجزرة سفن الحرية. أما تفاقم الأوضاع الداخلية المصرية فحدث ولا حرج. غلاف المجلة، الذي صور الرئيس مبارك على شكل «فرعون» يغرق في رمال مصر المتحركة، جاء معبرا وملخصا لأحوال البلاد وطبيعة المتغيرات المتسارعة الدائرة حاليا فيها، وكأن المجلة تؤكد التنبؤات التي نعرفها جميعا ويعرفها معظم أبناء مصر من أن مرحلة التغيير قد بدأت وأن المسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل. القلق الغربي على مصير النظامين المصري والسعودي، والأول على وجه الخصوص مبرر ومفهوم، فالولايات المتحدة استثمرت أكثر من ستين مليار دولار في النظام المصري الحالي علاوة على عشرات المليارات الأخرى من الدول الأوربية المانحة، كثمن لهذا الاعتدال المصري والأدوار المنبثقة عنه مثل محاربة التطرف في الوطن العربي، ودفع عملية السلام الفاشلة، ومنع أي تهديد حقيقي للأمن الإسرائيلي. بينما حدث العكس تماما في حالة السعودية، أي أنها هي التي استثمرت في الغرب مئات المليارات من الدولارات لشراء صفقات أسلحة، وشراء أسهم وأصول وعقارات لضمان الحماية الغربية، علاوة على خدمات أخرى مماثلة لخدمات النظام المصري ومعظمها عن قناعة وإيمان. احتمالات التغيير في مصر تبدو الأقرب، حيث يشعر الكثيرون داخل مصر وخارجها بأن البلاد تعيش حاليا نهاية مرحلة، وقرب بدء مرحلة أخرى، ويحلو للكثيرين المقارنة بين الظروف الحالية ومثيلتها في أواخر حكم الملك فاروق، حيث حسم مجموعة من الضباط الأمور بثورة عسكرية أطاحت النظام وأسست لعهد جديد. الرئيس مبارك فاجأ الكثيرين عندما أجاب عن سؤال لأحد الصحافيين حول هوية رئيس مصر القادم بقوله: «إن الله وحده يعلم»، الأمر الذي ألقى بظلال الشك حول عملية التوريث التي رعاها ومهد لها طوال السنوات العشر الماضية على الأقل. التوقعات بحدوث التغيير في مصر لم تتوقف طوال الأعوام الماضية، وغالبا ما انتهت بخيبة الأمل، واتسم أصحابها بعدم الدقة، ولكن يبدو أن الوضع مختلف هذه المرة، لأن الأوضاع الراهنة تؤكد نضوجا في هذا الإطار وأدوات القمع التي ساهمت في الحفاظ على استمرارية النظام بدأت تتآكل، خاصة بعد افتضاح عمليات التعذيب التي كان آخر ضحاياها الشاب خالد سعيد وردود الفعل الغاضبة عليها داخل مصر وخارجها، خاصة في الدول الغربية الحليفة. الجيل المصري الجديد مختلف عن الجيل السابق المستكين المستسلم المسلم بأقداره. فهذا الجيل أكثر تعليما وأكثر تحضرا وأكثر انفتاحا على العالم الخارجي، وأقل صبرا على تدهور الأحوال في بلاده، وأصبح يملك أدوات الاتصال الحديثة ويجيد استخدامها لإيصال فورة غضبه. مضافا إلى ذلك تراجع دور النظام المصري إلى حدوده الدنيا، بعد ضعف النفوذ الغربي، ونمو قوى اقتصادية في منطقة الخليج، وصعود قوى عسكرية وسياسية إقليمية عظمى في المنطقة مثل تركيا وإيران. الأمر الذي أوقع المنظومة الغربية والإسرائيلية التي صمتت على القمع من أجل الاستقرار في حالة من القلق والارتباك على مصالحها في المنطقة في المستقبل المنظور. فقد جرت العادة على أنه كلما حصل أي تهديد للمصالح الغربية في المنطقة يهرع الزعماء الغربيون والإسرائيليون إلى القاهرة طلبا للمساعدة من أجل إصلاح الخلل وتنفيس الاحتقان، والمثال الأبرز في هذا الصدد زيارة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، لشرم الشيخ ولقاؤه بالرئيس حسني مبارك طمعا في الضغط على السلطة الفلسطينية للعودة إلى مائدة المفاوضات المباشرة. الدول الغربية بدأت تدرك حجم خطئها الكبير عندما استثمرت في أنظمة دكتاتورية عربية على حساب رفاهية ومصالح شعوبها الأساسية، وتراجعت عن دعم الديمقراطية وقيم العدالة وحقوق الإنسان، كل ذلك من أجل ضمان استمرار إسرائيل وتفوقها، والحصول على النفط رخيصا، وتكريس هيمنتها على احتياطاته وطرق إمداداته. عجلة الحراك الشعبي في الدول الحليفة للغرب خصوصا، بدأت تدور بسرعة، ولا نعتقد أنها ستتباطأ أو تتوقف عن الدوران قريبا، فعندما يتحرك القاع ويثور على واقعه المؤلم، لن تفيد الرشاوى المالية الصغيرة والإصلاحات التجميلية الشكلية (مثلما هو حادث في السعودية) أو تصعيد عمليات الافتراس التي تمارسها الأجهزة الأمنية، فالقاع مثلما نرى من المؤشرات الحالية، بات يتخلص من «ثقافة الخوف» ويستأسد في مطالبته بالتغيير (مثلما هو الحال في مصر حاليا). لا بديل عن حكم القانون، والقضاء المستقل، والإعلام الحر، وحقوق المرأة والعمال الكاملة، والانتخابات النزيهة، واقتصاد السوق الحر المفتوح أمام الجميع على أسس المساواة، وليس السوق المفتوح للأقارب وأبناء الأسر الحاكمة ومجموعات رجال الأعمال الفاسدين. ومن المؤلم أن جميع هذه الأمور غير موجودة في الغالبية الساحقة من الدول العربية. نتحدث عن مصر ونعطيها الأولوية، لأنه يعتقد أن رئيسها مريض والشفافية معدومة حول مرضه، ولأنها القاطرة التي ستقود قطار التغيير إلى مختلف أنحاء الوطن العربي، وهو القطار الذي بدأنا نسمع صافرته تزأر استعدادا للانطلاق.