عندما يكون هناك موضوع حساس وخطير يتعلق بالمال العام واستغلال النفوذ، فإن الصحافة تتعامل معه بطرق مختلفة. هناك من يراعي المصلحة العليا للوطن وحق القارئ في الاطلاع ومعرفة كل من يتجرأ على أموال دافعي الضرائب، ويعرض الملف وأطرافه أمام قرائه بمهنية مستمعا إلى روايات الأطراف كلها في محاولة لفهم كل ملابسات الموضوع. وهناك منابر أخرى تفضل اللجوء إلى سياسة النعامة، بحيث تخفي رؤوسها في الرمال إلى أن تمر العاصفة. بدعوى أن مثل هذه القضايا ليست سوى تصفية حسابات بين لاعبين كبار، ولذلك فلا حاجة بهم إلى الدخول وسط هذه المعمعة، حفاظا على «نقائهم» المهني و«استقلاليتهم» الصحافية. وهناك منابر ثالثة تلعب على الحبال والأوتار جميعها، رغبة منها في عدم إغضاب أي واحد من الأطراف، بحيث تدفع عنها الحرج بالمرور مرور الكرام على الموضوع، من باب «اللهم نص خسارة ولا خسارة كاملة». لذلك كله يحلو للصحافيين أن يسموا مهنتهم بمهنة المتاعب، أنا أفضل أن أسميها مهنة المصائب. خصوصا في بلاد كالمغرب كل شيء فيها مقلوب رأسا على عقب. خلال خمس عشرة سنة من ممارسة هذه المهنة كمتعاون في البدء ثم كمراسل ثم كصحافي متدرب فصحافي مهني فمدير نشر، شاهدت ما لا حصر له من الصحافيين وأنصاف الصحافيين وأشباه الصحافيين. وكم مرة فكرت في التخلي عن هذه المهنة وتغييرها بمهنة أخرى لا تستعمل فيها الأقلام كخناجر تطعن من الظهر ولا تباع فيها المقالات مثلما تباع صفحات الإعلانات، ولا يغير فيها الإنسان جلده بمجرد ما يغير منبرا بآخر. وانتهيت إلى احتراف مهن حرة لا علاقة لها بالصحافة، من البناء إلى عجن البيتزا، ومن غسل الصحون إلى جمع الكؤوس في البارات والملاهي الليلية الصاخبة. لكن ميكروب الصحافة ظل يعيش في شراييني، ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى نجح في إعادتي إلى مهنة المصائب. وطيلة كل هذه السنوات، فهمت أن قبيلة الصحافيين واحدة من أخطر القبائل، فهي مقسمة إلى أرخبيلات وجزر معزولة، وبين فينة وأخرى تنشب حروب طاحنة بين أفراد هذه القبيلة، وتتفرق دماؤهم بين الجرائد. أحيانا يحب القراء التفرج على هذه المعارك الدامية، وأحيانا أخرى يشيحون بجيوبهم عنها. شخصيا خضت معارك صحافية على أكثر من جبهة، وتعرضت لهجومات، بعضها دنيء وبعضها الآخر جبان. بعضها أفتخر به وبعضها الآخر أخجل من مجرد ذكره، ليس فقط بسبب سخافة الموقف ولكن أيضا بسبب صغر الخصوم وضآلتهم. والحروب الكلامية بين الصحافيين جنس صحافي قائم بذاته، عرفته كل جرائد العالم. وهو ضروري أحيانا للقراء لكي يكتشفوا الوجه الآخر الأكثر قسوة لصحافييهم المفضلين. في المغرب ليس سهلا أن تكون صحافيا مستقلا وحرا وغير تابع لمؤسسة حزبية أو مالية. لكي تفرض اسمك وتحفر مكانك تحت الشمس يجب أحيانا أن تلجأ إلى الضربات تحت الحزام لتدافع عن نفسك، خصوصا في بلاد كالمغرب يعتبر فيها النجاح خطأ موجبا للقتل. تعرفت على صحافيين نظيفين وشجعان لا يغيرون مبادئهم بأي ثمن. أستحضر هنا المراكشي الرائع عبد الفتاح الفاكيهاني الذي قدم استقالته من جريدة العلم بسببي. وقد كنت حينها مجرد متعاون مع الجريدة أتقاضى أجرتي بعد أن يقيسوا طول مقالاتي بالسنتمتر. ولكي أصل إلى ألف درهم في الشهر كنت مجبرا على الكتابة بكثرة حتى يجد صاحب المتر سنتمترات محترمة يقيسها، ولسوء حظ عبد الفتاح أنه نشر لي مقالتين متتابعتين في الصفحة الأخيرة التي كان يشرف عليها، فلم يرق ذلك لعبد الكريم غلاب، الذي كان في الواقع «مع النظام» ويكتب عمودا في الصفحة الأولى يسميه «مع الشعب». فوصل الأمر إلى عبد الفتاح فما كان منه سوى أن كتب استقالته ووضعها فوق مكتب رئيس التحرير وذهب إلى بيته. بعد فترة قصيرة، اشتغل مع وكالة الأنباء الفرنسية وأصبح وضعه أحسن من السابق. في الأول، شعرت بالذنب لأنني تسببت في استقالته، لكنني عندما علمت بأنه اشتغل في وكالة دولية للأنباء ابتهجت من أجله وقلت في نفسي رب ضارة نافعة. ومثلما عرفت صحافيين مهنيين ونظيفين، عرفت صحافيين انتهازيين ووصوليين بلا مبادئ وبلا كرامة. أتذكر واحدا يحوم دائما حول محطة القطار بوسط الرباط، وبمجرد ما يلتقي بك يقول لك أن ابنه يرقد في المستعجلات بعدما وقعت له حادثة سير بالدراجة، وأنه يحتاج عاجلا إلى ألف درهم لكي يشتري له الدواء. شخصيا لم تنطل علي حيلة هذا الصحافي المحتال أبدا، لأن أحد الزملاء حذرني منه ومن قصة ابنه الذي يرسله في كل مرة إلى المستعجلات. أعرف صحافيا آخر لا يوقد النار في بيته ولا يشتري الأكل لأنه كان يبرمج يومه على الأنشطة التي تعرفها العاصمة. في الصباح تجده في فندق يشارك في إفطار مناقشة، وعند الظهيرة تجده في فندق آخر مشاركا في ندوة يعقبها غذاء، وفي المساء يذهب لكي يحضر افتتاح معرض تشكيلي لكي يشرب العصير ويأكل الحلويات. أما السهرة فغالبا ما يقضيها باحثا عن «نشاط» في مركز ثقافي من تلك المراكز الأجنبية أو سفارة تحتفل بعيد بلادها الوطني، حيث المشروبات الروحية تضمن له العودة إلى منزله محمولا على الأكتاف. حتى أنه بسببه وبسبب أمثاله ألغت بعض السفارات الأجنبية الكحول من لائحة الطعام التي تقدمها للصحافيين المغاربة الذين تستدعيهم إلى أنشطتها. أعرف أيضا واحدا أصبح صحافيا بالقوة، رغم أنه لا يكتب مقالا واحدا في السنة. مزيته الوحيدة أن الفضل في اكتشاف «جنس» صحافي جديد يعود إليه. فقد أرسل ذات يوم صحافية مبتدئة لكي تقوم بحوار مع أحد الفنانين وأعطاها عنوانه لكي تجري الحوار في بيته. وعندما ذهبت الصحافية المبتدئة وطرقت باب الفنان صدمت عندما رأت مديرها يفتح لها الباب لابسا البينوار كاشفا في ضحكة سخيفة عن أسنانه المسوسة بسبب البيرة، وقال لها أنه أعجب بها منذ اليوم الأول الذي اشتغلت فيه معه لكنه لم يستطع أن يصارحها بمشاعره في الجريدة. فما كان من الصحافية المتدربة سوى أن صفقت الباب في وجهه وقررت أن تغلق وراءها باب الصحافة إلى الأبد. أعرف صحافيا يكتبون له، وآخر يكتب افتتاحية مديره. أعرف صحافيا يبيع مقالاته بألف درهم للمقال لفناني البارات من الدرجة الرابعة، ويقدمهم في الصفحة الأولى لجريدته كفنانين محترمين. أعرف صحافيا ممنوعا من الكتابة في المغرب بسبب رسم تافه يدعى علي المرابط. أعرف صحافيين يشتغلون صحافيين في النهار وفي الليل يتحولون إلى مخبرين. أعرف صحافيين يبيعون أثاث بيتهم لإكمال الشهر ولا يبيعون أقلامهم لمن يدفع أكثر. أعرف أشكالا لا تعد ولا تحصى من الصحافيين. فيهم الجيد والرديء، ابن الناس وابن الحرام، المهني والمتطفل، النزيه والمرتشي، الذي قضى عشرين سنة في المهنة دون أن ينجح في اقتناء بيت يجمع فيه أسرته والذي اشترى البيت والسيارة منذ العام الأول. أعرفهم جميعا، فنحن، كما ترون، نشتغل في مهنة كل واحد فيها يعرف عن جاره كل شيء. لذلك لا أحب الاحتفال باليوم الوطني للإعلام، ولا المشاركة في مسابقات وزارة الاتصال. أنتظر أن يكون لدينا إعلام حقيقي حتى نفرح ونحتفل.