«الفقر يبدو غريبا عند الأغنياء.. فقط لأن لديهم صعوبة في فهم كيف أن الذين يجوعون لا يضغطون على الجرس لإطعامهم». الصحافي البريطاني والتر باغهوت، القرن 19. أتذكر جيدا مرة وأنا في قاعة الدرس لهرم صحافة التحقيقات الأمريكية، مارك هانتر، بالمعهد الفرنسي للصحافة بجامعة باريس الثانية، أنه قال إن المقالات والتحقيقات الموجعة ليست تلك التي تفضح وتتعارض مع مصالح سياسية، بل إن أشرس الحملات المضادة التي تلي النشر وتوجع أكثر وبدرجة قصوى هي تلك التي تشتم فيها رائحة المال، والمصالح المالية هي التي قد تجدونها في أكثر القضايا تسترا وهي التي تخلف دمارا كبيرا بعد نشرها، لأن الأغنياء لا يريدون اقتسام ليس المال فقط بل المعلومة والخبر المتعلقين به. وفي المجتمعين الأوربي والأمريكي على الخصوص، هناك شهية صحفية مفتوحة على الدوام لتتبع طرق صرف المال العام، ومن ذلك ما كشفته قبل أسبوع صحيفة «لوكانار أونشيني» الفرنسية بخصوص إنفاق وزير في حكومة ساركوزي قرابة 13 مليون سنتيم فقط على السيغار الكوبي على حساب ميزانية وزارته، وهو الخبر الذي جعل رئيس وزراء فرنسا يلزم وزيره بموجبه بأداء هذا المبلغ الذي كشفته الصحافة من ماله الخاص بالرغم من أن الوزير المعني صرح بكونه لم يستهلك سوى 5 ملايين سنتيم من السيغار. في فرنسا، تقوم القيامة على المال العام ويعطى الصوت الأخير للصحافة التي بنت معلوماتها على تحقيقات مهنية دقيقة. وفي المغرب، لا أحد استمع إلى صوت جمعية «ما تقيش كرامتي» التي قالت، على لسان رئيسها المحامي جمال بلغالمية، إن صرف 56 مليون سنتيم على الفنانة اللبنانية كارول سماحة في مهرجان لخماري بآسفي يعد «تبذيرا للمال العام».. هي التي ستغني في مدينة منكوبة اجتماعيا خلال 60 دقيقة فقط مقابل ذلك المبلغ المقتطع من أموال دافعي الضرائب التي جرى تفويتها من المجالس المنتخبة بدون احترام المساطر القانونية لصالح جمعية يترأسها نور الدين لخماري وتتخذ من هاتف ومكتب والي آسفي مقرا لها. أسوق هذا الكلام وأنا أتذكر ما قاله أحد رجال السلطة الجدد بآسفي لأحدهم بعد أن أزعجتهم تغطية «المساء» لحدث المهرجان، فصاح في وجه مرافقه: «عرضوا على هاذ الصحافي وديرو ليه شي عشا مزيان وشي قرعة معتبرة وسدينا الموضوع»، فسعادته تعود على شراء صمت الصحافة بطاولة للمأكولات، لأن البطن في الثقافة المغربية هي أكثر ما يُسكت ولأن البطن إذا شبعت أمرت الرأس بالغناء، على حد قول حكمتنا المأثورة. بآسفي وهي مدينة حكموا عليها بالعزلة والهامش، جرى صرف 27 مليار سنتيم على برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ومع ذلك فإن صبيان المدينة القديمة وفتياتها لازالوا يجرون بأيديهم البريئة «كروسات» لملء الماء في قنينات الزيت الفارغة، وبجنبهم منصة مهرجان «أمواج» التي غنت فوقها كارول سماحة ب56 مليون سنتيم «لا غير»، لم يدفعها لخماري من جيبه، بل إن بؤساء المدينة القديمة لآسفي هم من دفعوا فاتورة الفنانة اللبنانية وبالعملة الصعبة. يقولون إن المال لا رائحة له.. لكن الفقر له رائحة بالتأكيد، وكم كان مفكر وفيلسوف عصر الأنوار، الفرنسي مونتيسكيو، عميقا في إيحائه الماكر لما قال: «إنه لمن الغريب كيف أن غنى رجال الكنيسة تأسس على مبدأ الفقر».. وفي حالتنا نحن، فقد وجد أناس بيننا أن خدمة الفقراء والبؤساء والمستضعفين بالمهرجانات أكثر مردودية من خدمتهم بملء البطون وإيجاد الشغل لهم ولأبنائهم.