بمجرد ما أعلن حكم المباراة عن انتهاء المقابلة بانتصار المنتخب الإسباني وفوزه بكأس العالم، خرجت أمواج بشرية في مدن مغربية تلوح بأعلام إسبانيا منتشية وكأن النصر الإسباني يعنيها في شيء. والشيء نفسه حدث عندما تأهل المنتخب الجزائري للمونديال، فقد خرج المغاربة حاملين رايات الجزائر فرحين بهذا التأهل. وبسبب عطش المغاربة إلى الفرح والاحتفال بانتصار ما مهما كان صغيرا، أصبحوا يستضيفون أنفسهم إلى أفراح الجيران. فأزمتنا اليوم في المغرب ليست فقط سياسية واقتصادية وتربوية وإنما هي أيضا أزمة فرح. أصبحنا نبحث عن نماذج في الخارج لكي نقتدي بها ونخلد انتصاراتها ونتطفل على فرحها، لأننا لا نعرف كيف نقدر نماذجنا وأبطالنا حق قدرهم عندما يكونون إلى جانبا، ولا نعرف قيمتهم الحقيقية إلا عندما يلمع نجمهم في بلدان الآخرين. من كان يتصور أن المنتخب الهولندي سيلعب مباراة نهاية كأس العالم بلاعبين مغربيين، أحدهما مدافع اسمه بولحروز طرده الزاكي عندما كان مدربا للمنتخب المغربي، والثاني مهاجم اسمه أفلاي غادر المنتخب المغربي بسبب حرمانه من الاحتفاظ بجورب مثقوب. لقد أصبح المغاربة يصنعون فرح الآخرين، وعندما يريدون أن يحتفلوا يطلبون اللجوء العاطفي إلى أفراح الآخرين، ويلوحون بأعلام الآخرين ويهتفون بأسماء أبطال ونجوم الآخرين. لدينا أزمة بطل ونموذج لأننا نقسو كثيرا على نماذجنا وأبطالنا عندما يكونون معنا، ولا نعرف قيمتهم الحقيقية إلا عندما يصعدون منصات التتويج في الدول التي احتضنتهم وقدمت إليهم الاحترام والاعتراف اللذين يستحقونهما. حتى شواهدنا الدراسية والجامعية والعلمية لم تعد لها القيمة التي كانت لديها في السابق، لكثرة ما أهين حاملوها بالضرب والركل والرفس أمام البرلمان. لقد فقدت الشهادة الدراسية بريقها وتحولت إلى مجرد ورقة لا تصلح لشيء آخر غير التلويح بها في وجه الحكومات المتعاقبة. قبل عشرين سنة، كانت شهادة الباكلوريا مفتاح المستقبل بالنسبة إلى جميع الأسر. بتلك الشهادة السحرية كان يمكنك أن تلج الجامعات والمعاهد العلمية داخل المغرب وخارجه، وأن تحجز لك مكانا تحت الشمس بين الآخرين. اليوم، أصبحت هذه الشهادة مدعاة إلى السخرية. كثير من التلاميذ يحصلون عليها بالغش في الامتحانات. وقد تابعنا قصصا مخجلة تتحدث عن طرق تقنية مبتكرة للغش في الامتحانات. المعدلات تنزل سنة بعد أخرى، والمستوى ينحدر نحو الأسفل بشكل مخيف. لدينا اليوم تلاميذ حاصلون على الباكلوريا لا يستطيعون تركيب جملة مفيدة دون أخطاء. تلاميذ لا يعرفون المبادئ الأولية للعربية والفرنسية والإنجليزية، فبالأحرى أن يكونوا قادرين على إجادة هذه اللغات. ووسط هذا الانحطاط المخيف الذي وصلت إليه شهادة الباكلوريا، تعطينا تلميذة مريضة بالسرطان، أصرت على اجتياز امتحانات الباكلوريا فوق فراش الموت، درسا عظيما في احترام العلم وتقديس المعرفة والسعي نحو النجاح رغم براثن المرض الخبيث المغروزة في جسدها. عائشة، هذه الفتاة نادرة الشجاعة التي قررت أن تجتاز امتحان الباكلوريا من غرفتها بالمستشفى وأنبوب الأوكسجين داخل أنفها، وذراعها موصول بأكياس «الصيروم»، أعطتنا جميعا نموذجا شامخا في التشبث بالحياة والأمل، ودرسا بليغا في الشجاعة والمقاومة وتحدي الفشل. عائشة، هذه الفتاة التي خطفتها يد المنون قبل أن تقرأ اسمها في لائحة الناجحين، سيبقى اسمها راسخا في أرشيفات وزارة التربية والتعليم كنموذج للتلميذة التي رفضت الرضوخ للفشل، وأصرت على مبارزة الموت بشراسة وشجاعة، وتمكنت في الأخير من تحقيق حلمها بوضع اسمها ضمن لائحة الناجحين. عائشة لم تنجح فقط في الإحراز على شهادة الباكلوريا بميزة حسن جدا، بل نجحت أيضا في امتحان الصبر مع لوحة الشرف. إن شاهدة قبر هذه الفتاة الشجاعة يجب أن تحمل لوحة الشرف هذه، وأن تكتب حروفها بماء الذهب، حتى تكون قدوة ونموذجا يقتدي به مئات الآلاف من أبناء المغاربة الأصحاء الذين أعطتهم الحياة كل الإمكانيات لكي يدرسوا فوق أسرة غرفهم وليس فوق أسرة المستشفيات، ومع ذلك تجد أسرهم كل مصاعب الدنيا في إقناعهم بجدوى الدراسة في الحياة. هؤلاء الشباب الطائشون الذين أعطتهم الحياة العافية والأسرة والأصدقاء، وعوض أن يتفانوا في دراستهم فضلوا أن يرتموا في أحضان المخدرات، وانتهوا في آخر السنة يضربون أساتذتهم الذين يحرسونهم عندما يمنعونهم من الغش في الامتحان. إن النموذج الحي لمقاومة المرض والتفاني في الدراسة والتحصيل، الذي قدمته التلميذة عائشة، يستحق أن يبرمج في المقررات التعليمية ويدرس على شكل قصة واقعية في جميع ثانويات المغرب، حتى تكون قصة عائشة درسا لأبناء المغاربة ونموذجا لحب العلم والمعرفة والحياة. إن أقل شيء يمكن أن تقوم به وزارة التربية والتعليم هو استدعاء والدي التلميذة الراحلة عائشة وتسليمهما شهادة الباكلوريا التي نالتها ابنتهما عن جدارة واستحقاق على فراش الموت، في حفل كبير يحظى بتغطية وسائل الإعلام جميعها. هكذا ستعطي الوزارة قيمة للجهد والتعب والصبر الخارق للعادة الذي أظهرته هذه التلميذة التي لم يمهلها الموت قليلا من الوقت لكي تعانق شهادتها قبل أن تغمض عينيها الذكيتين إلى الأبد. فما أحوج أبناء المغاربة اليوم، خصوصا المدللين منهم، إلى رجة قوية توقظهم من السبات العميق الذي يخدرهم، وتجعلهم يرون المستقبل بمنظار آخر غير منظارهم الغائم والملطخ بالقلق والتوتر ومعاداة الأمل. موت عائشة على سرير المستشفى وهي ممسكة بأوراق امتحانها يجب أن يكون درسا لكل التلاميذ الأصحاء والممتلئين بالحياة الذين يخاصمون دفاترهم وكراريسهم وكتبهم المدرسية. ومع ذلك، يريدون في آخر العام الحصول على شهادة الباكلوريا بالغش والذهاب إلى الجامعة برؤوس فارغة مرفوعة إلى عنان السماء مثل رؤوس السنابل الخاوية. إن هذه التلميذة ليست فقط نموذجا لحب المعرفة، بل أيضا نموذجا لحب النجاح في بلاد تمجد فيها قيم الفشل ويعتبر فيها النجاح جريمة لا تغتفر. لقد نجحت عائشة في امتحان الباكلوريا، لكن الأهم أنها نجحت في إيصال رسالتها إلى الجميع، مواطنين ومسؤولين. وهي رسالة على قدر من الأهمية بحيث تسائلنا جميعا حول جدوى ما نقوم به. هل نحن مؤمنون في هذه البلاد بمعركتنا نحو التقدم والعدل والمساواة أم إننا غير مؤمنين بهذه المعركة؟ عائشة كانت تعرف، وهي تصارع المرض الخبيث منذ ثلاث سنوات، أنها قد لا تستطيع إزالة مخالب الموت المغروسة في جسدها. لكنها، مع ذلك، ظلت تقاوم كل يوم بشراسة. وحتى عندما ألزمها المرض السرير لم ترفع راية الاستسلام، بل واصلت معركتها إلى أن اجتازت امتحانها الأخير وخرجت منه منتصرة. نعم، لقد ماتت عائشة وهي في ربيعها الثامن عشر، لكنها نجحت في إحياء بذرة الأمل في قلوب الملايين من المغاربة الذين سيقرؤون قصتها ويطلعون أبناءهم عليها ويقولون لهم.. أنظروا إلى رقدة هذه الفتاة على سرير الموت وهي ممسكة بكراساتها كم هي أكثر صلابة من وقفة الأصحاء.. أنظروا إلى عينيها وهي تراجع دروسها وأنبوب الأوكسجين يخترق أنفها كم هما متقدتان ذكاء أكثر من عيون كثيرين لا يشكون من أي ألم.. أنظروا إلى كبريائها الرائع وهي تتحمل آلام الورم الخبيث وتعارك الموت وتنتزع منه شهادتها قبل أن تستسلم إليه. إن الدورة الاستدراكية الحقيقية ليست هي تلك الدورة التي اجتازتها عائشة للحصول على شهادة الباكلوريا، بل إن الدورة الاستدراكية الحقيقة هي تلك الدورة التي منحتها عائشة بصبرها البطولي لوزارة التربية والتعليم لكي تعيد إلى شهادة الباكلوريا مجدها وقيمتها التي فقدتها في السنوات الأخيرة، وليس لشهادة الباكلوريا فقط، بل للتعليم العمومي بكامله. فالأزمة الحقيقية التي يعاني منها التعليم العمومي هي أزمة قيم بالأساس. فعوض أن يغرس التعليم العمومي وبعض رجاله في نفوس التلاميذ قيم الأمانة والتعايش والصدق ومحبة العلم، أصبحوا يغرسون في قلوبهم قيم الجشع والغش والعنف وكراهية العلم والمعرفة. لقد قدمت عائشة بنجاحها في الحصول على شهادة الباكلوريا-شعبة العلوم الاقتصادية فوق فراش الموت نموذجا فريدا في حب العلم والتحصيل والمعرفة، في زمن تعرف فيه هذه الميادين تحقيرا واستصغارا كبيرا من طرف الجميع. ستكون عائشة قد ماتت بالفعل إذا لم تصل رسالتها إلى من يعنيهم أمر إصلاح حال هذا التعليم، أما إذا وصلت الرسالة وأعطت مفعولها، فإن عائشة ستظل حية بيننا إلى الأبد.