قبل أقل من شهرين، اضطرت عميدة المراسلين المعتمدين في البيت الأبيض هيلين توماس إلى إعلان تقاعدها المبكر من مهنة الصحافة بسبب تصريحات طالبت فيها الإسرائيليين بالخروج من فلسطين والعودة إلى أوربا وأمريكا. وقبل يومين طردت شبكة CNN الإخبارية كبيرة المحررين المتخصصين في قسم الشرق الأوسط بقسم الأخبار «أوكتافيا نصر» بسبب نشرها تعليقا، على موقع «تويتر» الاجتماعي، أشادت فيه برجل الدين الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الله الذي توفي نهاية الأسبوع الماضي. وقبل هيلين توماس وأوكتافيا نصر، تعرض كثير من الصحفيين والأكاديميين وحتى السياسيين للحصار والنقد وحتى النبذ في مجتمعاتهم ووظائفهم وجامعاتهم بسبب انتقادهم العلني لإسرائيل أو ممارساتها في الأراضي الفلسطينية. أوكتافيا نصر، التي عملت لصالح شبكة CNN لأكثر من عشرين سنة وغطت حروب منطقة الشرق الأوسط وحرب البلقان وسافرت إلى أكثر المناطق اشتعالا بالصراعات في العالم وشرحت للأمريكيين ما كان يجري هناك، فقدت وظيفتها بسبب رسالة مكتوبة، لا يتعدى عدد كلماتها 140 كلمة، نشرتها على موقع «تويتر» الاجتماعي، أعربت فيها عن أسفها على رحيل الزعيم الشيعي الذي تزْعُم أمريكا أنه الأب الروحي لحزب الله اللبناني الذي تصنفه واشنطن والدول الغربية على أنه منظمة إرهابية. مباشرة بعد نشر الصحافية لبنانية الأصل لتعليقها على «تويتر»، تلقت سيلا من التعليقات الغاضبة من «تابعين» لها على الموقع الاجتماعي الذي بات ينافس موقع «فيسبوك» في عدد المستخدمين. ومعظم تلك التعليقات التي تلقتها أوكتافيا نصر كانت من قبل أمريكيين يهود، عابوا عليها إعجابها ب«قاتل» أطفالهم وب«شخص يحرض على العنف»، فيما استنكر آخرون كيف تكون معجبة ب«الشخص الذي كان وراء تدمير السفارة الأمريكية في لبنان وقتل العشرات من الجنود الأمريكيين هناك». هذه التعليقات الغاضبة لم تكن رد الفعل الوحيد على ما كتبته أوكتافيا نصر، بل عمد عدد كبير من نشطاء اللوبي الإسرائيلي في واشنطن إلى مراسلة شبكة CNN للإعراب عن غضبهم على الصحفية نصر جراء ما كتبته، كما ركبوا أرقام هواتف غرفة التحرير ومختلف برامج الشبكة، مما اضطر مدير الأخبار في CNN إلى إصدار بيان شجب فيه تعليقات أوكتافيا نصر وقال إن تعليقها العلني «مس بمصداقيتها لدى المشاهدين»، ولهذا قررت الشبكة الاستغناء عن خدماتها!! هناك انفصام فاضح في الشخصية الأمريكية السياسية التي تسمح بالتشكيك في وجود الله والسخرية من المسيح وانتقاد الجميع تحت مبدأ مقدس هو «لا أحد أعلى من النقد والكل هدف مشروع للسخرية» بينما تكسر، في الوقت نفسه، أقلام المنتقدين لإسرائيل وتكمم أفواههم وتسرق الكلمات من شفاههم حتى لا يسمعها الرأي العام الأمريكي. في أمريكا، أنت حر في أن تقول ما تشاء وتنتقد من تشاء حسب الفصل الأول من الدستور الأمريكي الذي يقدس حرية التعبير ويجعلها من أكثر الأشياء، التي تميز هذا المجتمع مختلط الأعراق والأديان، إيجابية. لكن، بمجرد ما تبدأ في انتقاد إسرائيل أو التصريح بما يتعارض ومصالحها، فإن حريتك تنتهي وتبدأ ضدك حرب سرية تستهدف مصداقيتك وتشكك في وطنيتك وولائك، وتحولك إلى مخلوق منبوذ من الجميع، وتدرك متأخرا أن مصلحة إسرائيل تأتي، في سلم الأولوية، قبل المصلحة العليا لأمريكا نفسها!