على بعد أقل من شهرين، وبينما المراسلون المعتمدون لدى البيت الأبيض يخططون بإحكام للاحتفال بالعيد التسعين لولادة عميدتهم المقتدرة هيلين توماس في الرابع من شهر غشت القادم، اضطرت توماس -عوض أن تطفئ الشموع التسعين وتلتقط الصور مع الرئيس الأمريكي كما يحصل كل سنة- إلى الإعلان عن تقاعدها من العمل الصحفي وطي صفحة مشوار حافل دام أكثر من سبعين سنة بسبب مطالبتها بخروج الإسرائيليين من فلسطين والعودة إلى العيش في ألمانيا أو بولندا أو حتى أمريكا، وبالتالي بإنهاء إسرائيل احتلالها لأرض فلسطين... وُلدت هيلين توماس في ولاية ميشيغن سنة 1920 لمهاجر لبناني مسيحي قدم إلى أمريكا مطلع القرن الماضي مع زوجته ماري روادي التي أنجبت له ثمانية أطفال، كانت هيلين سابعتهم وأكثرهم فضولا ونشاطا. تخرجت هيلين من جامعة «وين» سنة 1942 بشهادة في اللغة الإنجليزية وبدأت مشوارها الصحفي سنة واحدة فقط بعد ذلك في وكالة UPI قبل حتى أن يولد الرؤساء: بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما، وكان حينها دوايت إيزنهاور هو الرئيس ال34 لأمريكا! طلبت الوكالة من هيلين التخصص في جمع أخبار الموضة والطبخ والمواضيع التي كانت الوكالة تراها مناسبة للنساء حينها، وقبلت هيلين القيام بذلك في البداية وكانت تستيقظ في الخامسة والنصف صباحا وتخرج ل«مطاردة» الأخبار في العاصمة واشنطن يوميا، لكنها أجبرت الوكالة على منحها الفرصة لتغطية أخبار «أكثر جدية» بعد ذلك، وهكذا تم تعيينها مراسلة في البيت الأبيض، لتكون بذلك أول صحفية تزاحم الرجال في القاعة الصغيرة المخصصة لهم في قصر الرئاسة الأمريكي. هيلين توماس لم تكن فقط أول سيدة يُسمح لها بتغطية أخبار البيت الأبيض، بل تم انتخابها في مطلع السبعينيات من القرن الماضي أول رئيسة لجمعية مراسلي البيت الأبيض، ثم تم قبول عضويتها كأول امرأة في نادي الصحافة الوطني الذي كان يزدري النساء حينها ويطلب منهن الجلوس في الشرفات الخلفية خلال المناسبات الرسمية ولا يسمح لهن بالدخول إلى قاعته الرسمية. وفي 1975، تم قبول عضويتها في نادٍ صغير مخصص للنخبة الصحفية في أمريكا واسمه «غريديرن كلوب»، لتكون بذلك أول سيدة تحظى بهذا الشرف، كما انتخبها أعضاؤه سنة 1993 رئيسة له. الصحفيات الأمريكيات يعترفن بالعمل الشاق والمضني الذي قامت به هيلين توماس لتعبيد الطريق أمامهن في بلاط صاحبة الجلالة، ولهذا كتبت العديد منهن مقالات تبجيلية وحزينة لما وقع لتوماس التي كانت تمثل الصوت العربي الوحيد في البيت الأبيض وكان يهابها الرؤساء الأمريكيون ولا يخجلون من التصريح بذلك. ونشرت المراقبة الصحفية في الإذاعة العامة الأمريكية NPR ليزا شيبرد عمودا مؤثرا عن توماس، طالبت فيه بعدم نزع القطعة النحاسية المنقوش عليها اسمها والموضوعة على كرسي عتيق يقع بالصف الأول في قاعة المؤتمرات الصحفية بالبيت الأبيض كان مخصصا لهيلين توماس تقديرا لريادتها الصحفية ومهنيتها ومشوارها الحافل بالإنجازات الصحفية. وكتبت شيبرد في عمودها: «نحن الصحفيات الأمريكيات مدينات كثيرا لهيلين توماس، وأرجو ألا يتذكرها التاريخ بالهفوة المشينة التي ارتكبتها هذا الأسبوع، بل بعطائها الطويل وريادتها الصحفية ومهنيتها ومشوارها اللامع...». غاب وجه هيلين توماس، الذي لم تنجح التجاعيد في إخفاء ملامحه الجميلة ومسحة الصرامة التي ميزتها منذ عقود، عن شاشات التلفزيون الأمريكية واكتفت عميدة مراسلي البيت الأبيض بإصدار بيان صحفي مقتضب، اعتذرت فيه عن تصريحها السابق ودعت فيه إلى «ضرورة تحقيق السلام في الشرق الأوسط وأن يتعايش الفلسطينيون والإسرائيليون معا». هكذا، واجهت توماس كرة اللهب التي اندلعت منذ تصريحاتها التي جرّت عليها غضب الجميع في أمريكا ابتداء بصقور البيت الأبيض ومرورا بالصحفيين وانتهاء بلوبيات إسرائيل المتغلغلة في وسائل الإعلام الذين تناسوا جميعا شيئا اسمه حرية التعبير المقدسة الواردة في الفصل الأول من الدستور الأمريكي، وتسابقوا لتكميم فم عميدة الصحفيين الأمريكيين التي كانت تحظى بشرف طرح أول سؤال في المؤتمرات الصحفية الرئاسية وشرف اختتامها بكلمة «شكرا سيدي الرئيس». هيلين توماس تركت مقعدها المميز في الصف الأول بقاعة المؤتمرات الصحفية في البيت الأبيض وأعلنت تقاعدها من هذه المهنة التي تحدّت ذكوريتها قبل أكثر من ستة عقود وأحرجت خلالها 11 رئيسا أمريكيا، معظمهم صرح بأن أكثر شيء وتّره في اليوم الأول من رئاسته هو مواجهة أسئلة هيلين توماس! وكان آخر هؤلاء الرؤساء باراك أوباما الذي لم يتردد في التودد لتوماس في أول مؤتمر صحفي يعقده في البيت الأبيض بعيد انتخابه، حيث خاطبها قائلا: «هلين... أنا متحمس للغاية لأن هذا أول مؤتمر صحفي لي وأرجو أن تكوني لطيفة معي وأن تراعي هذا الأمر»! لكن توماس لم تراع ذلك وأحرجت أوباما بأسئلة من قبيل: «ماذا تفعل قواتنا في أفغانستان؟ وماذا تعمل تلك القوات في العراق حتى الآن؟ لماذا لا تغادر هذين البلدين وتواجه مشاكلك الداخلية سيدي الرئيس؟ لماذا لا تكن صريحا مع الأمريكيين؟». اختارت هيلين توماس التقاعد والتزام الصمت في وجه العاصفة التي أثارتها تصريحاتها. وبهذا القرار، صمتَ الصوت العربي الوحيد في البيت الأبيض وخلت الساحة تماما للصوت الإسرائيلي الذي كان مسيطرا من قبل على الرسالة التي تمررها وسائل الإعلام الأمريكية إلى الرأي العام حول قضايا الشرق الأوسط، لكنه سيتحول من الآن فصاعدا إلى لاعب وحيد في ساحة الإعلام الشاسعة التي يقول حُماتها إنها تقدس الحق في التعبير، لكن يبدو أنهم يقدسون ذلك الحق فقط عندما لا يتعارض مع مصالح إسرائيل ولا يمس بصورتها التي تعرت أمام الرأي العام العالمي بفضل أصوات متمردة تشبه صوت هيلين توماس.