يكاد لا يمر يوم دون أن نرى صورته أو نسمع اسمه أو اسم التنظيم المنسوب إليه، «القاعدة». قليل الظهور، كثير الحضور، يهدد ويتوعد، يفجر ثم يختفي. من هو هذا الرجل الأسطوري؟ من أين أتى؟ أين نشأ وعلى من تتلمذ؟ لماذا تحالف مع الشر وعاد ليحاربه؟ ما هي تفاصيل حياته السابقة لاحتراف «الجهاد»؟ من هو أسامة الإنسان؟ إعداد بنعيسى التازي «محمد والمملكة كبرا معا»، ينقل جوناثن راندل عن أحد الموظفين الذين اشتغلوا طويلا قرب بن لادن الأب. فبقدر ما كانت ثروات المملكة ومشاريعها تتسع، كانت مكانة محمد بن لادن الحضرمي تسمو وترتقي. وكانت أولى معالم هذا النمو المتزامن، حصول «الوافد الجديد» على صفقات مربحة أولا، وهامة ثانيا في بناء مقومات الدولة الغنية. حيث تكفل في بداياته بشق طريق تربط بين مدينتي جدة والعاصمة الجبلية الصيفية، الطائف، مشروع اعتبر في حينه إنجازا فنيا وهندسيا، عندما اختصر المسافة بين المدينتين، من ثلاثة أيام على ظهور الجمال، إلى ثلاث ساعات على متن العربات الأمريكية الصنع. الثلاثي بن لادن، آل سعود، واشنطن لم يكن صنيعة الظروف السياسية الحديثة، بل إنه كان أساس بزوغ هذا اللاعب الجديد (بن لادن) في ملعب النفط والدين والسياسة. ومحمد بن لادن كان من أوائل العمال في شركة «أرامكو» السعودية-الأمريكية، وهناك أبان عن علو كعبه وقدرته على خدمة جميع الأطراف، مع حس فطري ميال إلى النظام الصارم والفعالية والموهبة الهندسية؛ ليتمكن عام 1835 من تأسيس شركته الخاصة بدعم من بعض مشغليه الذين توسموا فيه النجاح، والقدرة على الاستفادة والإفادة دون شروط. لم تكن مشاريع الشركة الجديدة لبن لادن مقتصرة على معاملات تجارية جافة، تنجز بمقتضاها المقاولة ما كلفت به من طرف «مؤسسات الدولة»، وانتهى الأمر. بل إن الحضرمي بحسه التجاري والسياسي النافذ، كان يرتب لبناته في بنايات يعلم أنها لن تؤوي عابري سبيل، وأن طرقه الجديدة لا تخدم «الصالح العام» فقط، بل إنه بات شبه متخصص في تشييد قصور الأمراء، ومرافقتهم في فتوحاتهم التعميرية و»معجزاتهم» الهندسية فوق صحراء جرداء لم تعرف مثل ذلك من قبل. ومن ثمة، أصبحت شركة بن لادن إحدى أهم مقاولات المنطقة سمعة وجاها ونفوذا، ولم يتراجع صاحبها رفقة مسيريها الخارجين من صلبه، عن اقتحام عوالم المسيّس والمقدس، فمن القصور الأميرية توالت صفقات الشركة لترميم وبناء أهم مستجد المسلمين، والمؤسسات الدينية المؤسسة لشرعية التحالف العائلي المذهبي الحاكم، فكان أن قام محمد بن لادن بترميم كل من الحرمين الشريفين ومسجد القدس الذي تولى ترميمه بعد إحراقه من طرف الإسرائيليين عام 1969؛ وفي ما يشبه اقتفاء آثار النبي (ص) دون براق خارق، تمكن هذا السعودي اليمني من أداء الصلاة في المساجد الثلاثة الأكثر تعظيما لدى المسلمين، في يوم واحد. وعلى ذكر صلوات الرجل، فقد نقلت بعض المصادر عمن رافقوه، حرصه الدائم على إجابة نداء المؤذن خمس مرات كل يوم في أوقاتها، وعرفت يده بسخائها وامتدادها الدائم إلى ذوي الحاجة بأموال الزكاة والصدقات، دون أن يثبت عنه ميول إلى اعتناق مذهب الدولة الجديدة، المذهب الوهابي، أو التعصب له. بل إن هذا التاجر الأمي الموهوب، ظل على عادات بني جلدته اليمنيين، فلم تنج أضرحة أولياء منطقته الأصلية، حضر موت، من هجمات جماعات وهابية لتدميرها وتخريب بناياتها. فتحالف بن لادن الأب مع آل سعود لم يكن من فصيلة تحالفهم بالوهابيين، بل كان تحلفا للمصالح وتبادل الخدمات، سرعان ما جعلت الرجل وزيرا للأشغال العامة في المملكة، يرسم ويخطط ويقترح فينادي على عماله لينفذوا، أما خزائنه فتمول وتقرض الدولة نفسها، حتى إن المملكة باتت مدينة لبن لادن في مستهل الخمسينيات بما يفوق المائة مليون دولار، اضطر معها الملك عبد العزيز إلى التنازل عن أحد أفخم فنادق المملكة لصالح بن لادن. دون أن يعني هذا «الرقي» الاجتماعي وسمو المكانة لدى الساسة و«أولي الأمر» استكانة الرجل وميله إلى الحرص والاكتفاء بما بين يديه، بل إن مؤسساته الخاصة لم تكف يوما عن العمل، وكان محمد بن لادن في هذا الجانب أحد أمهر المسيرين وأكثرهم حنكة في التدبير المالي وتحفيز العنصر البشري، فعرف بسمعته الطيبة في صفوف عماله ومحبته البالغة تجاهه. رغم صرامته التي حملته مرارا ليفاجئهم وسط الأوراش، مدققا في تفاصل العمل، ومازحا مع بعضهم عندما يذكرهم أن رئيسهم ومشغلهم ليس سوى بن لادن ذو العين الواحدة. القفة التي كان يستعملها هذا الحضرمي في تفريغ شحنات السفن في أيامه الأولى بجزيرة آل سعود، ظلت محتفظة بمكانها في مجلس الضيوف، وحضوره المتواصل في أوراش العمل، جعل الكثيرين يصفون محمد بن لادن الفاحش الثراء، بالعامل وسط عماله، يذكرهم بماضيه ويحفزهم على اقتفاء أثره، فرآهم يتنافسون في العمل ويتوددون إليه ليمنحهم ساعات عمل إضافية. وطبيعة منشآته لم تكن لتسمح له بالاكتفاء ب«السواعد العربية»، بل إنه قطف بدوره ثمار النصر الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، ليستقدم المهندسين الألمان للإشراف على مشاريعه، ووارثي الخبرة الإيطالية بالقرن الإفريقي لتقوية فريقه الرابح. أنجزت مؤسسة بن لادن في ظرف وجيز، أكثر من ثلاثة عشر ألف ميل من الطرق المعبدة، رافقها إنشاء عشرات المنشآت والمؤسسات والقصور والإقامات، فكانت كل تلك الطرق توصل إلى قلوب ساكني القصور السعودية، فاختار محمد بن لادن التوجه رأسا إلى «البيت الأكبر» حاملا خدماته السياسية قبل التجارية، فكانت جرأته تحمله على مفاجأة الملك سعود مثلا، من خلال اقتراحه إقامة مشاريع بدت إلى وقت قريب ضربا من الخيال، دون أن يغفل نسج علاقة مع الطرف الآخر من العائلة، متمثلا في الأمير فيصل، ليتدخل بلطف في الخلاف الشهير بين الرجلين (سعود وفيصل) ويقنع الأول بالتنحي لصالح الثاني تجنبا للانقسامات، بل إنه ذهب إلى حد ضمان توازن المملكة في هذا الانتقال الدقيق، بفتحه أبواب خزائنه لأداء أجور الموظفين لما يقارب الستة أشهر، إلى أن استعادت مملكة فيصل منابع تعبئة الخزائن الفارغة. بموازاة هذا المسار «المهني»، كان محمد بن لادن يقلد عادات الملوك في حياتهم الخاصة، فراح يتزوج من كل قبيلة يحتاج إلى شق طريق في ترابها، ويوفر مناصب عمل لأبنائها، فوفر عن مشاريعه قلاقل المناوئين والمخربين. وأنجب نتيجة لذلك أربعة وخمسين من الأبناء من أكثر من عشرين زوجة، كان ترتيب أسامة بينهم «الصف» السابع عشر بين الصبية الأربعة والعشرين.