حكايات واقعية عاشتها، أو عايشتها، قارئات «المساء» ممن اخترن إخراجها من الذاكرة إلى الحاضر، ومن الكتمان إلى العلن علها تفيد أخريات. حلقات ستنشر هذا الصيف، لنساء يرغبن في اقتسام فرحهن كما حزنهن، نجاحهن كما فشلهن مع القراء. وصلني «إيميلها» بعنوان «وتستمر الحياة»، قرأته فوجدت أنه من المهم، أولا وقبل كل شيء، أن أحييها بشدة وأقول لها إنها كاتبة ممتازة، فقد استطاعت أن تكشف عما يؤلمها بشجاعة أدبية قل مثيلها، فرسالتها كانت جد معبِّرة، خطتها على شكل قصيدة نثرية وكتبت كلّ سطر من سطورها بوجع وحرقة، وسأنقلها بداية كما وصلتني قبل أن أسرد تفاصيل حكاية (س م) التي حكتها لي فيما بعد. تقول: بعد الطلاق، تتغير أشكال الأماكن تبهت ضحكات الأصدقاء تتلوّن نظرات ذوي القربى تخفت من القلب درجة الترقب تموت اللهفة وينطفئ شيئا فشيئا وميضُ البسمة. بعد الطلاق، يصبح للفصول لونٌ واحدٌ وللعطر عبيرٌ واحد وللفراشات رقص واحد وللملامح والدواخل وجه واحد. بعد الطلاق، نلوح براية الهزيمة، تترمل الأحلام، تلبس الأبيض لتعلن الحداد. بعد الطلاق، تحاصرك الأمكنة تصادرك الألسنة، تعبث بك التقاليد تفرش لك الطرق زهورها السوداء. بعد الطلاق، تجلِدُ جسدك نظرات الرجال يعرُّونه بتفنُّن يمارسون عليه كلّ نبوءات التخيل. بعد الطلاق، ينكسر الإحساس ينكب موج الأمل تتوجع الأنثى في داخلك من الألم تتحول كل الابتسامات في وجهك إلى ندم. وختمت (س م) قصيدتها قائلة: آخر البوح: المطلقة قد تكون ابنتك، أو أختك، أو ربّما خالتك؛ وفي أكثر الأحوال قسوة: أمك، فلا تخدشوا الأعراض. ثم شرعت في قص حكايتها قائلة: حين كنتُ في المرحلة الجامعية، تعرفت على زميل لي، وقعت في حبه بالرغم من تحذيرات كل من كانوا حولي منه نظرا إلى استهتاره وطيشه وعدم مسؤوليته وجديته، لكنني أحببته وأصّممت أذني إصماما لا يسمح بدخول نصيحة الناصحين بل يطردها من الأذن الأخرى فور دخولها، استمرت علاقتي به إلى حين تخرجنا من الجامعة، طلبت منه أن يتقدم لخطبتي كي يعلم أهلي بعلاقتنا بعد أن اتفقنا أن نؤخر الزواج إلى حين يجد كل منا عملا. جاء لخطبتي وكان رأي والدي منذ اللحظة الأولى أنه لا يصلح لي وأن حياتي معه لن تعرف الاستقرار لأنه لا زال في بداية الطريق، لكني تمسكت به وأقنعتهم بأنه الرجل الذي أريد أن أعيش معه وبأنني قادرة على أن أصنع منه مستقبلا زوجا جادا، مسؤولا، جديرا بي. وافق أهلي أمام إصراري وقبلوا عن غير اقتناع لما بدا لهم من تصرفات خطيبي الصبيانية. تمت الخطوبة وكنت خلال ذلك ألتقي بخطيبي كل مساء عند انتهائي من العمل، أرافقه وأجلس معه رفقة أصدقائه، فقد تعرف فور اشتغاله على مجموعة أشخاص أصبحوا رفاقه فيما بعد، وكان كل همهم ومحور جلساتهم الحديث عن أين سيسهرون ويمرحون، كان كل واحد منهم يعطي نصيبا من المال لتوفير ما يكفي من الخمر ليحلوَ السهر، كنت أتركهم حالما تدق الساعة التاسعة لأعود إلى البيت، فوالدي لم يكن يسمح لي بالتأخر أكثر من ذلك. طالت فترة خطوبتنا وبدأت معاناتي التي حذرني منها الكل، فقد انصرف إلى حياة اللهو والخمر ونقض كل اتفاقاتنا في تحمل المسؤولية سويا وبناء عش دافئ يضمنا، كنت أعمل وأمدّه بالمال لأن راتبه كان يذهب بسرعة الريح بمجرد الوصول إلى جيبه، كان المنطق يقضي بأن أفسخ خطوبتي معه وأفك ارتباطي به مادام مصرا على الاستمرار في طيشه. لكني ولأثبت لأهلي وللآخرين حسن اختياري تحملته وتحملت استهتاره ومراوغاته، وكنت حريصة على أن أعطيهم صورة خاطئة عنه حين كنت أحدثهم عنه. كان مستقبلي معه يبدو غامضا لكنني لم أتراجع، في السنة الثالثة لخطوبتنا أخذت قرضا سرا وسلمته إياه لكي يأتي ويتزوجني، أصبح كل المطلوب منه أن يأتي رفقة أهله لإتمام الزواج. وكي لا يتراخى كالعادة، ضغطت عليه ليُعجل بذلك قبل أن ينفق المال مجددا في سهراته ونزهاته ويبقى وضعنا على ما هو عليه. تم الزواج، لم يكن في استطاعته أن يشتري لي بيتا أو حتى أن يكتريه، فلم تكن لديه أية مذّخرات وأنا بدوري كل مذخراتي صرفتها من أجل أن يتزوجني، فأقمت معه في بيت أهله، كانت لدينا غرفة صغيرة جهزتها بأثاث متواضع عكس الأثاث الذي كنت أحلم بأن أزف به. منذ أول أيام زواجنا، كان يتركني لوحدي وينصرف لمعاقرة الخمر رفقة أصدقائه، تحملت وصبرت واعتبرت ذلك نوعا من المعاناة الأولية التي تحصل بداية كل زواج. أعترف بأنني أسأت الاختيار، لكنني كنت أحبه وكنت أظن أن الحب وحده يكفي ليغيّره ويجعل منه إنسانا ناضجا. استمر الوضع هكذا ثلاث سنوات دون أن يلوح أي أمل في تغير الأحوال، فاضطررت إلى طلب الطلاق بعدما تأكد لي أنني أفني عمري وحياتي رفقته، تنازلت عن كل شيء من أجل أن أفوز بحريتي وأهرب من جحيم العيش معه، عدت لأعيش في بيت أهلي وأنا أحمل لقب مطلقة، لقب صعب تحمله في مجتمع يحاسب المطلقة بقسوة بينما سيمنح زوجي المطلق الفرصة ليبدأ من جديد بدون أية تحفظات أو هجوم أو لوم. لم أستسلم، قررت أن أتعافى من فشلي ومن محنة الانفصال وألا أترك نفسي نهبا لاجترار المرارة والأحزان. استجمعت طاقتي النفسية والذهنية وقويت نفسي واتبعت خطوات عملية وواقعية من أجل أن أبدأ من جديد ومن أجل أن تستمر حياتي. لكني، وللأسف، اصطدمت بالنظرة القاسية التي يرمقني بها الكل والخانة الضيقة التي يضعني فيها المجتمع. فقد كان الجميع يلومونني على ما أقدمت عليه ويقولون لي إن الزواج مهما كان تعيسا لا يجب فضه لما ينعم به على المرأة من فوائد اجتماعية لن تحظى بها خارجه، كنت دائما في مواجهة مع هؤلاء الذين كانوا يحسِّسونني بأنني أصبحت معاقة اجتماعيا، كانت أقرب النساء إلي يسئن الظن بي على اعتبار أنني امرأة خطرة وسأخطف من إحداهن زوجها. كذلك كنت كلما تعرفت على رجل وارتبطت به في إطار علاقة عاطفية جميلة أخفيت عليه بداية أنني مطلقة ظنا مني أنه حين سيعلم بذلك وبعد أن يكون حبي قد سرى في عروقه وقلبه وعقله سيحبني أكثر ولن يؤثر ذلك على علاقتنا، وقد صدمني أحد هؤلاء العشاق المزعومين يوما حين قال لي صراحة: «الأفضل لو كنت غنية وكان لديك بيت نعيش فيه وتصرفين علي وتدفعين بذلك ضريبة موافقتي على الزواج منك كمطلقة، أما وأن الأمر ليس كذلك، فلنبق صديقين...». هذا ما يحدث معي كل يوم وهذا ما أعيشه من مرارة وصدمات جراء طلاقي. وختاما أقولها صراحة، لازلت أشعر برغبة في الزواج، وأؤمن بفرصتي المشروعة في السعادة، فقط لا تحرموني منها ورفقا بالمطلقات.