لن يكون تعيين قيادي سابق في جبهة البوليساريو في منصب دبلوماسي في سفارة المغرب في مدريد الأول أو الأخير، فقد سبقته تعيينات شملت أشخاصا متحدرين من أصول صحراوية في سفارات مغربية في بلدان أمريكا اللاتينية. وبالقدر نفسه، فإن التعيينات لا تتوقف عند الواجهة الدبلوماسية فقط، وإنما تمثل دوائر هامة في الإدارة الترابية والمناصب الوزارية، وكذا الهيئات الاستشارية مثل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وغيره من المؤسسات. وتقول أوساط رسمية إن التعيينات في المناصب السامية قرار سيادي لا يتأثر بأي إكراهات أو ضغوط أو حسابات، وإنما يُعزى في الدرجة الأولى إلى البحث عن الرجل الملائم في الموقع الملائم، بصرف النظر عن أصوله، صحراوية أو بدوية أو أمازيغية، طالما أن الدستور يضمن المساواة في تكافؤ الفرص. وتضيف أوساط غير رسمية أن عدم تعيين مواطنين مغاربة أكفاء في المناصب الحساسة هو ما يطرح المشكل، وليس التعيينات في حد ذاتها. وربما لو أن الأحزاب السياسية قدمت قوائم لمرشحين محتملين لمناصب وزارية ودبلوماسية وغيرها يتحدرون من أصول صحراوية، لكانت الصورة تغيرت، ولما خلف اقتراح بتعيين مسؤول ما في منصب ما أي ردود فعل، كما أثير في قضية الصحراوي أحمد ولد سويلم. منذ بداية استقلال المغرب، تبوأت شخصيات صحراوية مناصب سامية في الأجهزة التنفيذية والديوان الملكي، وكانت في مقدمة المدافعين عن ملف الوحدة الترابية، يوم كان النزاع قائما بين المغرب وإسبانيا، وقبل أن تلجأ الجزائر إلى تأسيس جبهة بوليساريو عام 1973، وهذا يدل على أن التعيينات في المناصب السامية لم تكن تتأثر بالانتماء العرقي، لذلك حين جاء ثلاثة شبان صحراويون إلى الرباط، ومن بينهم خلي هنا ولد الرشيد في عام 1975، لم تجد السلطات المغربية أي حرج في تعيين اثنين منهم سفيرين في عواصم في أمريكا اللاتينية. والحال أن خلي هنا ولد الرشيد سيصبح بدوره أول وزير مكلف بالشؤون الصحراوية في نهاية ثمانينيات القرن الماضي. لقائل أن يرد بأن التعيينات في المناصب الدبلوماسية تخضع لتوافقات متعارف عليها تقتضي موافقة الدولة المضيفة بعد استمزاج رأي وتقديم المعلومات الكافية، خصوصا تلك التي تطال المناصب التي يكون تقلدها الاسم المرشح. وفي الأعراف الدبلوماسية، حسب بعض المصادر، فإن المسؤوليات التي يكون تقلدها الدبلوماسي المرشح، تساهم في تعزيز ملفه، كما أنها تشير إلى درجة الاهتمام الذي توليه الدولة المعنية لمستويات العلاقة مع الدولة الثانية. لا شك أن تعيين وزير سابق في منصب سفير ينظر إليه كعلامة إيجابية، تماما كما أن استقدام سفير وتعيينه في منصب وزير يعكس أهمية العلاقات بين الدولتين. وإذا كانت هذه المسألة تبقى نظرية حين تخضع التعيينات للأمزجة والصداقات والقرابات العائلية، فإن ما يعنينا اليوم هو البعد السياسي في تلك التعيينات، إذ يمكن ملاحظة أن سفراء المغرب في مدريد كانوا في أغلبيتهم وزراء سابقين، أمثال عبد اللطيف الفيلالي الذي أدار السفارة في فترة حرجة من الصراع بين الرباطومدريد حول قضية الصحراء، أو الوزير السابق حفيظ القادري أو عمر عزيمان وغيرهم. لكن أي شخصية عسكرية أو منتمية إلى عالم الاستخبارات لم تتقلد هذا المنصب، فيما أن الأمر بالنسبة إلى إسبانيا كان يخضع لدرجات الانفتاح أو الانغلاق في تقييم علاقاتها مع الرباط. هذا الواقع يعني من الطرف المغربي، على الأقل، أن الرباط أبدت دائما أقصى درجات الرغبة في إحاطة علاقاتها التقليدية مع الجار الإسباني بالمزيد من العوامل المشجعة، باستثناء الفترات التي طبعتها أزمات سياسية، كما في قضية جزيرة ليلى أو في أعقاب زيارة العاهل الإسباني خوان كارلوس للمدينتين المحتلتين سبتة ومليلية شمال البلاد، وبالتالي فإن اقتراح القيادي السابق في جهة البوليساريو أحمد ولد سويلم يأتي في سياق الحرص على الارتقاء بالعلاقات الثنائية ومتعددة الأطراف بين البلدين الجارين. والإشارة قوية وذات مغزى حين يصبح السفير المغربي السابق عمر عزيمان، رئيس اللجنة الاستشارية للجهوية الموسعة، أي أن انتقاله من مدريد إلى الرباط اقتضته مصلحة ذات أبعاد استراتيجية، ولم يكن تعبيرا عن أزمة أو جمود أو حذر، وبالتالي فإن تعيين خلف له في شخص القيادي السابق في البوليساريو ولد سويلم، يعتبر استمرارا للمستوى الذي تنطبع به علاقات البلدين. فالرجل مواطن مغربي قبل أن تتقاذفه ميول وانجذابات أصبحت الآن متجاوزة، وتجربته في دعم الخيار الوحدوي تصب في نفس الخانة التي يدافع عنها أحرار إسبانيا في رفضهم لأي نزعة انفصالية، وما من شك في أن المغرب عبر هذا الاختيار يبعث برسالة قوية إلى الجارة في شبه الجزيرة الإيبيرية، مفادها رفضه المطلق والمبدئي والشديد لأي توجه انفصالي يمكن أن يعرض الوحدة الإسبانية إلى مخاطر. رسالة كهذه لا يمكن إلا أن تقابل بالتفهم والتفاهم، باعتبارها سبيلا للمضي قدما في تطوير العلاقات المتميزة بين البلدين، فالتفهم يعني أن المغاربة، في انشغالهم بقضية الصحراء من منطلق وحدوي، يشاطرون الإسبان قلقهم حيال الأوضاع في الباسك، أما التفاهم فهو الجسر الصلب الذي يمكن أن تمر عبره كل قنوات الحوار والتعاون والحرص على مظاهر الاحترام المتبادل. قد تنظر بعض الأوساط الإسبانية المتشددة إلى هذا التعيين على أنه بمثابة فرض للأمر الواقع، وهذا شيء مناف للحقيقة وللروابط التي تجمع البلدين، غير أن ما يجب التأكيد عليه هو أن الدبلوماسي المغربي يمثل الدولة المغربية وليس تيارات سياسية، وهو سيكون محاورا للدولة الإسبانية بكافة مكوناتها، وإذا اقتضى الأمر بذل جهود مضاعفة لوضع الرأي العام الإسباني أمام حقيقة التطورات الملازمة لقضية الصحراء، فهذا العمل سيصب في خانة تعزيز الدور الإسباني، وليس التقليل من شأنه، ذلك أن العمل الدبلوماسي لا يعني، البتة، تحويل الساحة الداخلية لهذا البلد أو ذاك إلى صراعات، وإنما الإفادة من الروابط المتبادلة لتعزيز مسار العلاقات بما يخدم الأهداف والمبادئ المشتركة. أي كلام خارج هذا السياق لا معنى له، فقد تكون الساحة الإسبانية تتأثر بأي شيء يصدر عن المغرب، وهو أم طبيعي، إلا أن التأثر والتأثير يجب أن يكونا متبادلين ويسيرا في اتجاه واحد وليس بمنطق الأضداد.