خلال عقد التسعينيات، دعا المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية IFRI رئيس الجمهورية التركية آنذاك، سليمان ديميريل، الذي كان يقوم بزيارة رسمية لفرنسا، إلى عقد حوار مع نخبة من السياسيين والاقتصاديين، وذلك لمناقشة مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي. وتزامنت هذه الدعوة مع هجمة ملفتة من بعض الطبقات السياسية الفرنسية، يمينية ويسارية على السواء، إضافة، بالطبع، إلى المواقف العنصرية بامتياز، الصادرة عن حزب لوبين وتركيبة دوفيليه، ناهيك عن الأقلام المتشنجة التي فلسفت رفضها لدخول أنقرة «الجنة» الأوربية، لكونها لم تعترف بالمجازر التي ارتكبتها في حق الأرمن، وبأنها لا تزال على موقفها المتشدد حيال توحيد جزيرة قبرص، وعدم تطبيقها لمعايير الديمقراطية الغربية. فبعد أن شرح السياسي التركي المخضرم، العلماني، خيري نتاج مصطفى أتاتورك، الذي ربط الإمبراطورية العثمانية بقاطرة أوربا وحلف شمالي الأطلسي، وأبعدها بالتالي عن الإسلام وقربها من إسرائيل، أهمية وأبعاد انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوربي وما يمكن أن تقدمه من قوة إضافية بشرية واقتصادية ودفاعية وسياسية، مذكرا بالدور الذي لعبته تركيا لأكثر من ثلاثة عقود في حماية الجبهة الغربية لأوربا في وجه تمدد الاتحاد السوفياتي، انهال عليه سيل من الأسئلة وصل بعضها حتى إلى الخروج عن أدب المخاطبة واللياقات. وتبارت هذه النخبة الفرنسية في وصف الأتراك وجالياتهم في أوربا بالعبء الثقيل على اقتصادات بلدانهم ودور هؤلاء المهاجرين في زيادة معدلات البطالة وفي انتزاع لقمة العيش من السكان الأصليين، ناهيك عن استحالة اندماجهم في المجتمعات الموجودين فيها لأسباب متعددة. فما كان من سليمان ديميريل، الذي بدا الانزعاج واضحا على محياه، إلا أن رد، كسياسي محنك، على هذه الأسئلة الاستفزازية بكثير من البراغماتية، مشيرا إلى أن لأوربا مصلحة في سوق استهلاكية يبلغ عددها أكثر من 65 مليون نسمة في حينه واقتصاد فتنام، إضافة إلى تاريخ وحضارة يفتقدهما العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي، مضيفا قوله: «إنكم تخشون من قول حقيقة تخوفكم من دخول بلدي إلى المجموعة. لذا، قبل أن أتفوه بها، عليكم سؤال رئيس جمهوريتكم، جاك شيراك، عن السبب الرئيسي لإعاقة انضمامنا إليها، ذلك إذا كانت لديه الشجاعة والجرأة الكافيتان لإعلان موقفه وموقف حلفائه على الملأ. الحقيقة أيها السيدات والسادة، ممثلو النخبة الفرنسية الموجودة في هذا المعهد الراقي، أقول إن سبب رفضنا دخول ناديكم هو بعيد كل البعد عن الذرائع التي أوردتموها. ذلك، لأن السبب الفعلي هو أننا مسلمون، بالرغم من علمانية نظامنا، وهو ما تعتبرونه، عن خطأ وقلة إدراك، خطرا عليكم». لذا، أجيبكم بأننا لسنا متمسكين بمطلب الانضمام إليكم، ولا نريد أن نكون شركاء مع الذين يخافون منا ومن ديننا وربما يكرهوننا. ذلك لأننا، ببساطة، إمبراطورية، بينما غالبية دولكم لا تملك صفة الدولة الأمة»، قالها بالفرنسية: «Etat-nation». اليوم، وبعد مرور نحو خمسة عشر عاما على مداخلة ديميريل، بقي الأوربيون على موقفهم، المتردد حينا والمتشنج حينا آخر، من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي. لكن هذه الأخيرة باتت، أكثر من أي وقت مضى، غير مكترثة لدخول «الجنّة» الأوربية، خصوصا بعد تفاقم أزمات دولها المالية والاجتماعية، والزيادة الهائلة في عجوزات موازنات وديون أعضائها دون استثناء. ففي آخر لقاء جمع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الشهر الماضي في أنقرة، حاولت الأخيرة إيجاد مخرج-وسط، تمثل في إعطاء تركيا «دورا متميزا» في الشراكة مع البقاء خارج الاتحاد الأوربي. فما كان من أردوغان إلا أن أجابها بلباقة عثمانية: إن تركيا ليست بحاجة إلى مكرمات من هذا النوع، فنحن دولة إقليمية عظمى لديها تحالفات وصداقات، غربا وشرقا، وجميع أسواق هذه البلدان مفتوحة أمام منتجاتنا وشركاتنا. ناهيكم عن كون اقتصادنا يحقق حصول نمو منتظم في حدود 7.8 في المائة سنويا، في حين أن أقواكم يتجاوز بالكاد نسبة واحد في المائة. في هذا السياق، تثبت تركيا يوما بعد يوم أنها لاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط، قادر على تحجيم الدور الأوربي المفقود أساسا، سياسيا واقتصاديا، وهذا ما تدركه جيدا الولاياتالمتحدةالأمريكية وتعمل على أساسه. فالشركات التركية تنتزع العقود الكبرى من نظيراتها الأوربيات، في جميع المجالات، بما فيها الاستثمارات، سواء في منطقة المشرق أو المغرب العربي. لقد أردت من وراء كل هذه الأمثلة أن ألفت نظر أهلنا في المغرب العربي، ولاسيما أصحاب الشركات من صناعيين ومصدرين وزراعيين، إلى أن التركيز الدائم على أوربا وأسواقها واستثماراتها ليس كافيا، ولم يعد مثمرا. بناء عليه، يتوجب التوجه نحو قوى صاعدة عالميا، كالصين والهند وباكستان، والدول الآسيوية الأخرى، وفي طليعتها كوريا الجنوبية، هذه الأخيرة التي وقعت معها إمارة أبو ظبي الغنية مؤخرا -بعد انتزاع إحدى مجموعاتها عقدا بشأن مفاعلات نووية بقيمة 40 مليار دولار- اتفاقات استراتيجية تشمل جميع المجالات، الاقتصادية والمالية والتكنولوجية وحتى الأمنية، ومشرقيا باتجاه دول منطقة الشرق الأوسط الموقعة معها على سلسلة من الاتفاقات والمعاهدات الاقتصادية على غرار «مسار أكادير». إن بداية بروز أزمات مالية جديدة داخل الاتحاد الأوربي، مع الانكشاف الأخير للصعوبات التي تعانيها هنغاريا، دليل على الخطأ الكبير الذي ارتكب في اختيار الشراكات الاقتصادية والسياسية وفق مقاييس عرقية ودينية. كذلك التعامل التعامل بمكيالين، كما هو الحال داخل مسار برشلونة. فالموقف الذي أعلنه الأسبوع الماضي، الوزير الأول التونسي، محمد الغنوشي، لدى افتتاحه الدورة الثانية ل»اللقاءات المتوسطية» مؤشر على وعي جديد إزاء الشراكة الاقتصادية مع أوربا. في هذا الإطار، فاجأ المسؤول التونسي المشاركين، وغالبيتهم من الأوربيين، بقوله: «إن مسار برشلونة لم يف بتعهداته لناحية ردم الهوة على صعيد التنمية، كما أن الفارق لا يزال شاسعا بين الدعم الذي يقدمه الاتحاد الأوربي، الشريك المفترض، إلى دول شرق وسط أوربا وبين بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، وفي طليعتها المغاربية». هل يمكن اعتبار هذا الإعلان مؤشرا إيجابيا يؤدي إلى تنويع الشراكات وعدم وضع كل البيض في سلة واحدة؟ ربما...