منذ اندلاع الصراع في الشرق الأوسط بين المشروع الصهيوني، الساعي إلى طرد الفلسطينيين وتقويض إمكانية خلق كيانية سياسية عربية على أرض فلسطين، والمشروع العربي الوحدوي القومي، ومع بداية ظهور الأطماع السياسية في فلسطين، كان هناك حادثان هامان: (1905 نجيب غازوري) هما يقظة الأمة العربية مقابل الجهد اليهودي لإنشاء مملكة اليهود القديمة من جديد وعلى مقياس أوسع. إن مصير هاتين الحركتين هو الصراع المستمر إلى أن تغلب إحداهما الأخرى. هكذا، أصبح الخطر الصهيوني وما يشكله من تهديد للأمة العربية ووحدتها جزءا لا يتجزأ من فكر الحركة القومية وأهدافها النضالية، حيث أصبحت القضية الفلسطينية هماً وقاسماً مشتركاً بين كل الحركات والتنظيمات القومية العربية، وسمي الصراع منذئذٍ بالصراع الصهيوني- العربي. ما من شك في أن فكرة الوحدة القومية العربية قد اندثرت بفعل أسباب متعددة، أوجدها واقع الهزائم. وأصبح واضحا، في ظل الشروط الموضوعية المحيطة بالصراع وأطرافه، أن الشعارات والآمال التي علقت على مشروع الوحدة القومية قد تبعثرت وأصبح أمر تحرير فلسطين بالقوة ضربا من العبث. شهدت القضية تراجعاً ملحوظاً بسبب الهزائم العسكرية والسياسية، واستدراج القوى العربية إلى قفص «تصفية القضية»، تحت مسمى «تسوية الصراع». ومع انهيار النظام الإقليمي العربي بعد حرب الخليج الثانية والظروف الدولية القلقة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي والدخول في اتفاقيات التسوية بين العرب وإسرائيل، تحول الصراع في أدواته من صراع وجود إلى صراع حدود، وفي أطرافه من صراع صهيوني-قومي عربي إلى صراع عربي-إسرائيلي، ومن ثم إلى صراع فلسطيني-إسرائيلي، حيث ترك المفاوض الفلسطيني منكشفاً أمام نهب الابتزاز الإسرائيلي والأمريكي. ودخل الفلسطينيون في تسوية لم تحقق لهم الحد الأدنى من تطلعاتهم السياسية بعد مرور أكثر من 16 عاما على اتفاق أوسلو. مع هذا المناخ الجديد، سعت الولاياتالمتحدةالأمريكية، في بداية زمن قيادتها للعالم، إلى تفريغ القضية والحقوق من مضمونهما. وعملت إسرائيل على خلق تناقضات عربية وفلسطينية في الأردن 1971-1972، في لبنان 1981 - 1982، من خلال التأثير على مصالح الأنظمة العربية خصوصا مصلحة استمرار النخب الحاكمة في البلدان العربية. ولكن مع ترهل الحالة العربية وعجزها ومع تراكم المشكلات الداخلية، دخل العرب في تناقضات ثانوية متعددة: صراعات إثنية وعرقية، وصراع من أجل لقمة العيش، وصراع من أجل الديمقراطية وحرية التعبير، وصراع على المشروعية وعلى شرعية الأنظمة، والخوف على السلطة، واحتلال العراق، وتفتيت المنطقة وإرشاء القيادة الفلسطينية«الأوسلوية»، وظهور تيار الإسلام السياسي بقوة، والتناقضات التي مثلها الصراع بين الليبراليين والاشتراكيين العرب، والصراع بين العلمانيين والمسلمين، فأصبحت أدوات الصراع توظف لخصوم داخلية، وأطراف الصراع عربا وفلسطينيين، صراع عربي-عربي، وصراع فلسطيني-فلسطيني، وغرقت المنطقة في يم المشكلات الاقتصادية والتنموية والسياسية وصعود أولويات الإجابة عن أسئلة داخلية ملحة لتعالج إشكاليات التراجع والتخلف العربي على كل المستويات. الحالة الفلسطينية مثلت انعكاساً حياً لواقع الإقليم العربي، وما أفرزته اتفاقيات التسوية من شرخ عمودي وأفقي في المجتمع الفلسطيني والعربي بين مع وضد التسوية ونتائجها المحققة. كما عملت إسرائيل على تغذية عوامل الفرقة بين الفلسطينيين وصولا إلى الصدامات المسلحة التي لم تنته إلا بالانقسام الحاد الذي تشهده الأراضي الفلسطينية منذ يونيو 2007، والتي كانت تتويجا لأسوأ مرحلة يمر بها الشعب الفلسطيني من حالة اقتتال داخلي وغابة من البنادق الفلسطينية التي تصوب في اتجاه صدور فلسطينية، وانتقل الصراع بأدواته إلى التحريض الداخلي وصراع على الصلاحيات والنفوذ وعلى سلطة لا تملك السلطة، وتحول أطرافه إلى صراع فلسطيني- فلسطيني، عاكسة وملبية للشروط الإقليمية التي فرض عليها الانقسام بدورها بين ما يسمى « تيار الاعتدال» و«تيار الممانعة». تحولت معها القضية الفلسطينية من قضية حقوقية لشعب له الحق في تقرير مصيره وبناء كيانه السياسي، إلى قضية إنسانية أخلاقية، وتحول الشعب الفلسطيني، كمفهوم سياسي، إلى جموع لاجئين جياع تقتصر المسؤولية تجاههم على توفير الحد الأدنى من مقومات القدرة على البقاء. وأصبح الصراع المبطن مع مصر على قضية فتح معبر رفح، ومع إسرائيل بالسماح بإدخال مواد الإغاثة ورفع الحصار عن قطاع غزة، والضفة الغربية التي تنزف من الجدار وحواجز الذل والتقسيم ويخنق أهلها بالإغلاقات المتكررة، والقدس أمامها سنوات قليلة لتصبح يهودية الطابع والشكل، وتحولت المدن الفلسطينية إلى أجسام غريبة على أطراف البناء اليهودي المتواصل والمصادرة التي زادت بأرقام خيالية في السنوات العشر الأخيرة، فما شهدته القدس من ترحيل السكان وهدم البيوت ومصادرة الأراضي في عام 2009-2010 بمقدار ما قامت به إسرائيل خلال أربعين عاما، أي منذ احتلالها عام 1967. لم تعد هنا أية إمكانية لتحقيق ولو القليل من حقوق وتطلعات الفلسطينيين، لتعوم القضية في تفاصيل حياتية يومية وإنسانية غير متناهية، في ظل تراجع حاد منقطع النظير في مواقف عربية وفلسطينية. وأمام جريمة الحصار الظالم التي هزت ضمير العالمي قبل العربي والفلسطيني، يقف الصراع أمام منعطف جديد، مع نضوب الرؤى السياسية وانسداد الأفق أمام الساسة وعدم الرغبة أو العجز لدى اللاعبين الرئيسيين في التدخل لصالح المحاصرين والمشردين في الضفة والقطاع، حيث شهدت الأراضي الفلسطينية في بلعين ونلعين ومناطق الجدار وسفن فك الحصار على غزة، والتي كان قوامها مجموعات من بقايا الضمير العالمي اليقظ مثلتها الجمعيات المدنية في أوربا والولاياتالمتحدة ودول المنطقة والأحرار في العالم، مجموعة من الضمائر الحية أصبحت تصارع الصلف الإسرائيلي وتقدم التضحيات تلو الأخرى في نضال متواصل في كل مناطق التماس والصراع الدائر على الأرض والتي تشهد كل فترة تصاعداً في الكم والنوع، قلوب ما زالت ترى الفلسطيني إنسانا كباقي البشر هي وحدها الآن تقف مع أهلنا أمام هذا الظلم العالمي. ما جرى من عدوان ضد قافلة الحرية 31 /5/2010 هو سلسلة من تضحيات قدمها هؤلاء ليعيدوا إلى روح العالم الحر الحياة، نشهد مع تضحياتهم بداية تبدل ملحوظ في أدوات الصراع، من المعونات والمنظمات المدنية والسعي إلى فك الحصار والعمل على البعد الإنساني، مع حاجة الشعب الفلسطيني في هذه الفترة إلى هذه الروح وهذه المبادرات. وأطراف الصراع في الحادث الأخير كانت بين الضمير العالمي اليقظ والتعنت الإسرائيلي الذي وصل إلى حد الإجرام ليس في حق الفلسطينيين فقط، بل إن إسرائيل الآن تستهدف بقايا هذا الضمير العالمي وأحرار العالم أعداء لها.لكن لا نريد الوصول إلى هذه النتيجة رغم دخول هؤلاء كطرف في الصراع، فالمطلوب من الفلسطينيين أولاً أن يتجاوزا هذه التناقضات الثانوية وتحل السلطة أو تدار بطريقة تناسب المرحلة التي يمر بها الشعب وتحاكي إمكانياته ويتم العمل على دعم النضال الفلسطيني وتعزيز صموده. والدور العربي الخجول الذي أثبت الحقوقيون والمناضلون من أحرار العالم أنهم مع فلسطين أكثر من بعض العرب والفلسطينيين، هذا الدور لا بد أن يتحول إلى عمل عربي فاعل وواقعي يعمل على مخاطبة الولاياتالمتحدة وإسرائيل بخطاب المصالح التي يملك العرب منها الكثير. أما الأدوار الإقليمية، وبعيدا عن المزايدات، فإن الفلسطينيين يحتاجون اليوم إلى الجهود كافة، فالدور التركي ما زال، رغم أهميته، يراوح مكانه الشكلي والدبلوماسي، ويسعى إلى التقاف الفرصة ليظهر على مسرح الأحداث في المنطقة أنه لاعب لا يستهان به، فليس من مصلحة القضية أن تكون مطية للعب أدوار ترتبط بالمصالح السياسية لأطراف متعددة ولا تسعى إلى تطبيق فعلي لشكل ولهجة الخطاب الحاد الذي تريد تركيا أن تظهر به، فالأتراك أكثر الناس معرفة بالطرق التي تضغط بها على إسرائيل، وهذا ما ينسحب على الفاعلين الدوليين. باحث فلسطيني