حولت التكنولوجيات الإعلامية الحديثة مونديال كرة القدم إلى فرجة شمولية تتزامن فيها كونيا مشاعر الفرحة، الأمل والخيبة. لكن، وفي غمرة الحماس، قلما يدرك المتفرج، سواء كان حاضرا في حلبة الملعب أو مجرد مشاهد، الآلية الداخلية التي تحكم هذه اللعبة والتي تقوم على أساليب سرية في التوجيه الإعلامي والتكييف السيكولوجي للجمهور، على أقلمة الأذواق، وعلى ضخ الغواية عبر رسائل مثيرة وسالبة.. هكذا، وبمعزل عن الصورة البريئة والحبية الرائجة عن هذه اللعبة، تبقى كرة القدم في المقام الأول «بيزنس»، سياسة، سيكولوجيا وأيديولوجيا. هذا ما يفصح عنه ومن دون مواربة الكتاب الجماعي، الذي وقعه ثلاثة باحثين في ميدان الحقل السوسيولوجي: رونالد دفيد، فابيان لوبران وباتريك فاسور، والذي يختزل عنوانه مشروعا بأكمله. «FootAfric» هو عنوان الكتاب الذي يلعب على كلمتي Fric، المال، «وAfric، إفريقيا. يحتمل العنوان إذن ترجمتين: «كرة القدم الإفريقية»، و«كرة القدم المدرة للمال». وقد صدر الكتاب عن منشورات ليشابي. سعت المقاربة السوسيولوجية لهؤلاء الباحثين الثلاثة إلى تبيان مفارقة تنظيم إفريقيا الجنوبية، (وهو بلد لم يخرج بعد من مخلفات الميز العنصري، والذي يعاني اليوم من أوبئة اجتماعية وسياسية خطيرة)، لمنافسة دولية، لن يستفيد منها في الأخير سوى المستعمرون الجدد والتي قد يخرج منها البلد مكسور الجناح. يقام إذن لمدة شهر، من 11 يونيو إلى 11 يوليوز، ولأول مرة في بلد إفريقي، مونديال يجمع 32 دولة. إلى اليوم، اقتضت قاعدة التناوب التي رسمتها الفيدرالية الدولية لكرة القدم، أن تقام هذه المنافسة، إما في أوروبا أو في القارات الأمريكية، وبخاصة في أمريكا اللاتينية. في عام 1994 أقيم المونديال لأول مرة في أمريكا. كانت الصناعات الرياضية آنذاك تطمح إلى كسب أسواق جديدة، وتطوير رياضة كرة القدم في مجموع القارات، بغية المساهمة في ظاهرة الشمولية الاقتصادية والسياسية. تبنت المؤسسات الأمريكية هذه الرياضة، (التي تعرف في أمريكا باسم «السوسير»)، المؤسسات الرياضية، والرعاة الممولين، كضمانة لإدخال هذا النشاط ضمن القطاعات الاقتصادية الليبرالية الرئيسية. في المونديال الذي نظمته كل من كوريا الجنوبية واليابان عام 2002 شاهدنا نفس التجربة. ويمثل هذان البلدان الرأسمالية الآسيوية. كما يعتبران الجسر المتين للعلاقات الاقتصادية. بمعزل عن كرة القدم، تبقى الرياضة نموذجا للهيمنة الحديثة وسلطة بين أيدي «الأقوياء» للسيطرة على الضعفاء. وعوض أن تكون نظاما ديمقراطيا حقيقيا، فإن الرياضة، وخاصة كرة القدم، تفرض على العكس مقاييس وأشكالا للحياة تصبح فيها المحاكاة هي القاعدة. يتعلق الأمر إذن بصراع كوني يحتل فيه التمويل، وكذا المعارف والاختبارات العلمية مقاما مركزيا. لقد أصبح «الإنسان الرياضي» منذ زمن بعيد، مادة خصبة لتجارب المجتمع الإنتاجي. مونديال 2010 هو بدون شك إحدى المباريات التي تستهدف إنتاج الهيمنة الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية. وهي على غرار باقي المنافسات السابقة مثل ألعاب بكين الأولمبية، تعبر عن هيمنة جهاز أيديولوجي قمعي، أو حسب عبارة وليام رايخ، «جهاز استراتيجي رأسمالي»، يسمح بتحويل إفريقيا الجنوبية إلى بوابة نحو الأسواق الإفريقية. توفر «الفيفا»، وعلى طابق من ذهب، هذه الإمكانية للشركات الداعمة. وستكون كبريات الشركات العالمية والمجمعات الصناعية حاضرة للمشاركة في هذه الفرجة الكونية، من شركات كوكاكولا، إلى شركة «فيزا»، سوني، الإمارات، هيونداي، أديداس، ماكدونالد، كاسترول، كونتينونتال الخ.. ستكون حاضرة عبر حملة إعلان تبدو من خلالها إفريقيا الجنوبية بلدا يعم في الرخاء، وهي صورة بعيدة كل البعد عن واقع الأغلبية الساحقة والمعدومة من مواطني هذا البلد. لا تشكل هذه الدورة استثناء بالنسبة لباقي الدورات على مستوى الخطاب القائل بأن هذه المنافسة «مناسبة للانفتاح على العالم الخارجي وفرصة ثمينة للتنمية الاقتصادية وخلق للتقارب مع الديمقراطيات الغربية...». وعلى غرار ما سمعناه خلال الألعاب الأولمبية التي أقيمت في بكين، سيقال إن المؤسسات الرياضية «تساعد على نماء الديمقراطية». لكن التاريخ يتلعثم ويكرر نفسه منذ كأس العالم في إيطاليا عام 1934، في ألمانيا عام 1936، والأرجنتين سنة 1978، ثم الاتحاد السوفياتي عام 1980. يمكن القول إن تنظيم الألعاب الأولمبية من طرف بكين ساعد بالعكس على تعزيز الديكتاتورية الصينية، التي خرجت معززة بمباركة من الأنظمة الديمقراطية ! المونديال كاستعمار جديد أفرز المونديال ظاهرة سوسيولوجية تمثلت في انبثاق شبكة للتأهيل ورصد المواهب الكروية الشابة وخاصة في إفريقيا. قد تبدو هذه المبادرة عملا إيجابيا. يبقى المشكل أن إفريقيا لا ينظر إليها إلا كبقرة حلوب. إذ «يستورد» وسطاء العديد من شباب إفريقيا إلى بلجيكا، فرنسا، إيطاليا قبل أن يلقوا بهم إلى الشارع بلا أوراق. منذ خريف 1998، تلقت أوروبا تحذيرات إزاء ظاهرة استغلال الشباب. مثلا بحي ماتونغي ببروكسيل، يعيش العديد من الشباب المهاجر الذي تم جلبه للعب كرة القدم، في أكواخ بئيسة من دون أفق مهني واضح. كما تعرف فرنسا نفس الوضع. يشكل هؤلاء الشباب طاقات للرأسمال الاستعماري الجديد، الذي يستمر في وضع إفريقيا تحت هيمنته. وليس مونديال 2010 سوى حلقة من حلقات هذا المسلسل. فيما يخص إفريقيا الجنوبية، فإن مونديال 2010 لا يعدو كونه استعمارا جديدا، فالمؤسسات والجمعيات الرياضية الغربية لا يهمها العنف المزمن الذي تعرفه إفريقيا الجنوبية، لا يعنيها داء السيدا الذي ينخر قسما كبيرا من المواطنين، لا تهمها الاغتصابات والفقر الذي يعاني منه المجتمع. يبرهن تاريخ المنافسات السابقة على أنه بانتهاء المنافسات فإنه على المواطنين أن «يتعايشوا» مع الشروخ السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية التي يفرضها تنظيم مثل هذه المباريات. لكن أهم شيء آنيا هي الحفلات الكاذبة، المعتقدات والأوهام الناتجة عن هذا الأفيون: الخمر الذي يسيل بسخاء، العاهرات اللواتي تدفع بهن المافيات إلى الأسواق، العنف المحتمل تصديره نحو بلدان إفريقية مجاورة. لقد استثمرت إفريقيا الجنوبية ميزانية ضخمة في الأمن العسكري والبوليسي، في تجهيزات وبنيات تحتية عتيقة، في الوقت الذي يفقد فيه يوميا الأمل في اختفاء الميز العنصري. لا زلنا أمام الاستعباد الدائم لإفريقيا. إلى الآن، نجحت المؤسسات، التي تشرف على تنظيم مباريات كرة القدم، في عقد لقاءات رياضية وكروية في بلدان تعرف أوضاعا اقتصادية مهزوزة أو تعاني من وطأة أنظمة سياسية مشكوك فيها. نظمت كؤوس العالم في كل من إيطاليا عام 1934، وفرنسا عام 1938، والشيلي سنة 1962، والمكسيك سنة 1970 ثم عام 1986، بالأرجنتين سنة 1978، وقس على ذلك فيما يخص الألعاب الأولمبية لبرلين عام 1936، ومكسيكو سنة 1968، وموسكو عام 1980، ثم بكين سنة 2008. انبثق اليوم نموذج آخر يقتضي انتهاز الفوضى الاقتصادية والسياسية لبعض البلدان، كيفما كانت طبيعة النظام السياسي، لزجها في مشاريع اقتصادية تنهك قدراتها الداخلية. على الرغم من ثورة 1991 وانتخاب نيلسون مانديلا رئيسا ل«الدولة الجديدة»، فإن جنوب إفريقيا لا زالت ترزح تحت مخلفات الميز العنصري. إن أسطورة «أمة قوس قزح»، أمة بقوميات وأصول متباينة، لم يتحقق بعد، بحكم الفوارق الاجتماعية والطبقية التي لا زالت على شكلها التقليدي. كان الهدف من تنظيم هذه المنافسة محو التمايزات والفروقات. وغداة اختيار الفيفا ملف إفريقيا الجنوبية، صرح أكثر من طرف بأن «المنتصر هو كرة القدم، هو إفريقيا». لكن عن أية إفريقيا تتحدث الفيفا؟ عن البلدان التي يعيش ثلث سكانها بأقل من نصف دولار في اليوم؟ عن بلدان تشهد تزايدا في التناحر والحروب الأهلية؟ عن إفريقيا التي يتآكلها الجوع؟ إفريقيا السيدا، مع العلم أن جنوب إفريقيا يتربع على قائمة الترتيب في هذا الباب؟ عن أية كأس للعالم نتحدث إذن: عن كأس العنف، الفقر، الاغتصاب، الشركات الغربية الكبرى الممثلة للرأسمالية المهيمنة؟ بين البنادق والأسلاك الشائكة مجتمع إفريقيا الجنوبية مجتمع عنيف، لأنه لم يهضم عقود الميز العنصري، وتطابق اليوم بنيته الاجتماعية موروث النظام العنصري، القديم. حل التمييز الاجتماعي محل التمييز العنصري ولا زالت الخيرات في يد البيض، الشيء الذي تسبب في انبثاق مجموعات محبطة انتظمت على شكل مافيات. أصبحت الجريمة أحد المكونات الأساسية في الحياة اليومية. وتحولت مدينة جوهانسبورغ إلى إحدى العواصم العالمية للجريمة. ويستشهد الباحثون في هذا الباب بالتحقيق الذي أجرته أسبوعية «دير شبيغل» الألمانية، والذي ورد فيه أن إفريقيا الجنوبية تعرف سنويا 18500 جريمة اغتيال، و20500 محاولة اغتيال، و55000 عملية اغتصاب، و5000 عملية اختطاف، دون الحديث عن انتهاك حقوق الإنسان. ويشير المؤلفون إلى أن النظام البوليسي اليوم يبقى نظاما يتميز بالعنف، العنصرية، ومعاداة الديمقراطية. ولتأمين وحماية كأس العالم، رصدت الحكومة ميزانية ضخمة جند بموجبها آلاف من رجال البوليس والعسكر، حيث جند 40000 شخص للعمل في جهاز البوليس، الذين بلغ مجموعهم 190000 شخص. كما بلغت الميزانية المخصصة للأمن 117 مليون أورو. وستستعمل الحكومة 40 طائرة هيليكوبتير. غير أن هذه الإجراءات تبقى من دون فائدة، على اعتبار أن رجال البوليس هم المسؤولون عن العنف المستشري في البنيات الداخلية للمجتمع، من اغتصاب، وخطف، وحوادث إجرام. إعادة اكتشاف لجنة عدن بسبب تاريخها السياسي المميز، بقيت جنوب إفريقيا، نسبيا، مغلقة في وجه شهية المؤسسات الرأسمالية الكبرى. وبسقوط نظام الأبارتايد، الميز العنصري، تغيرت الصورة وفتح البلد أبوابه أمام منافسة الشركات الكبرى. كان صندوق النقد الدولي سباقا إلى دعوة إفريقيا الجنوبية إلى خلق جو لائق للاستثمار والإنتاج حتى يستفيد من العولمة الاقتصادية. وهكذا أبدت مؤسسات صناعية عديدة اهتمامها بإفريقيا الجنوبية. وقد دخلت الصين منذ مدة السوق، حيث وصل حجم المبادلات التجارية مع إفريقيا الجنوبية 185 مليون أورو، أي بزيادة %34,5، فيما نددت النقابات الوطنية بتشطيب 100000 وظيفة في قطاع النسيج.
الفيفا.. عالم من المفترسين البيض الفيدرالية الدولية لكرة القدم أخطبوط. وتظهر العلاقات الوثيقة، التي تقيمها الفيفا اليوم مع كبريات الشركات الصناعية والتجارية على الرابطة الحية بين الكرة والرأسمال. وتضم الفيفا لوحدها اليوم ما لا تضمه هيئة الأممالمتحدة من أعضاء، إذ يبلغ عددهم 207 أعضاء. تنظم المباريات في عشرة ملاعب، تم إصلاح البعض منها، فيما شيد البعض الآخر خصيصا لهذا الغرض. ويعتبر ملعب جوهانسبورغ أهم هذه الملاعب، والذي تبلغ طاقته الاستيعابية 94000 مقعد. أما أصغر الملاعب، فيحتوي على 40000 مقعد. هذه البنيات التحتية المبالغ فيها، بالنظر إلى القدرة الاقتصادية للبلد، لن تستغل بعد نهاية المونديال، بل بالعكس، ستصبح عبئا اقتصاديا على كاهل المواطنين. وهذا ما قصده دينيس بلايتيس، رفيق درب نيلسون مانديلا في تصريحه حين قال: «لما يتم بناء مركبات ضخمة، يتم تحويل موارد يمكن استعمالها في تشييد مدارس أو مستشفيات». أن تحول دورة 2010 لكأس العالم إلى حدث لا سياسي، بل إلى حدث اقتصادي ذي انعكاسات إيجابية على الوضع الاجتماعي والمعيشي للبلد هو من قبيل البهتان الإعلامي. إن كرة القدم غير قادرة على حل مشاكل هيكلية مثل داء السيدا، واستمرارية الميز العنصري، وتفاقم حدة الفوارق الاجتماعية، واستشراء الفقر والعنف وغيرها من الأمراض الاجتماعية. إن خروج إفريقيا الجنوبية من مطبة هذه المشاكل لن يتم عن طريق كرة القدم. بل إن المونديال على العكس سيفاقم حدة الأزمة وتبعية البلد للشركات متعددة الجنسيات. بحكم خيرات البلد، كانت إفريقيا الجنوبية دائما محط عناية للرأسمال وشركاته: من شركات بيع الأسلحة إلى شركات بيع الصودا، مرورا بالتجهيزات الرياضية. ومن وراء إفريقيا الجنوبية، يستهدف الرأسمال مجموع المجتمعات الإفريقية. كما أن هذه الدورة ستكون مناسبة لظهور وتظاهر مسؤولين ومسيرين لأنظمة ديكتاتورية. من الجزائر إلى ساحل العاج مرورا بغانا التي لا زالت تبيح الإعدام، والمكسيك ونيجيريا وكوريا الشمالية، والكاميرون الخ... إن القول بأن المونديال يعزز مشاعر الإخاء بين الشعوب شيء، ومعاينة واقع هذه الشعوب وملفاتها في مجال حقوق الإنسان شيء آخر. وهنا المغالطة الكبرى. ولن يقدر كأس العالم في دورته الحالية على تغيير ملامح هذه الصورة الكالحة. في انتظار ذلك، ستخفق قلوب الملايين من المتفرجين للتمريرات، للأهداف، ولإنجازات الفرق المتبارية. لكن بعد انتهاء المونديال، لربما اكتشف البلد وجها آخر، يتناقض والصورة الإعلامية والتليفزيونية بالألوان الطبيعية التي طافت على المعمور لمدة شهر من التباري والتنافس!