«كنت قد غادرت المقهى، الذي اعتدت الجلوس فيه، حين اعترضني أحد المتشردين. كان يريد نقودا فاعتذرت إليه و أكملت طريقي. غير أنه تبعني وبدأ يلح حين لاحظ أني ضعيف البصر. حاولت ثنيه أكثر من مرة دون جدوى. في لحظة خاطفة مد يده إلى جيبي محاولا سرقة هاتفي النقال، فوجدتني، لاشعوريا، أنقض على يده و ألويها، مستخدما إحدى الحركات المعروفة في الأيكيدو، تدعى صان كيو. انشلت حركة المتشرد بعد أن وجد يده مقيدة خلف ظهره ووجهه ملتصقا بالحائط « يحكي إبراهيم تفاصيل حادث وقع له مؤخرا. قبل أن يضيف: « لم أكن أريد أذيّته. كنت فقط أدافع عن نفسي». اسمه التحدي ما وقع لإبراهيم يمكن أن يقع لأي مكفوف آخر دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه. وهذا ما يثير بالتحديد قلق هذا الشاب، الذي يعاني إعاقة بصرية خفيفة منذ صغره. «أنا على الأقل استطعت أن أَرُدّ عني اعتداء ذلك الشخص. لكن ماذا لو وقع ذلك لمكفوف آخر؟. أنا نفسي لا أعرف ماذا كان سيحدث لي لو لم تكن لي دراية بالأيكيدو. أكيد كان ذلك الشخص سيسلبني هاتفي النقال، و ربما يعتدي علي لو قاومته» يقول إبراهيم بأسف. لحسن حظه أن ذلك لم يحدث، و الفضل يعود ، كما يقول، إلى الأيكيدو و إلى مدربه عبد المجيد ميحيل. أصدقاؤه المكفوفون أيضا يعترفون بفضل مدربهم عليهم.»لولاه ما وصلنا إلى مثل هذا المستوى» يقول يونس جاد، الذي أثار دهشة الخبير الدولي في الأيكيدو المغربي امبارك العلوي في دورة تدريبية نظمت بأكادير هذه السنة حين قام بحركة عجز عن إنجازها ممارسون أسوياء. و يحكي يونس أن امبارك العلوي قال لهم:» كيف يعقل أن يقوم مكفوف بمثل هذه الحركة في حين يعجز المبصرون عن القيام بها». قبل سنتين من ذلك بصم يونس ونبيل و سهام مسارهم الرياضي بميسم خاص بعد أن حازوا على الحزام الأسود- درجة أولى في الأيكيدو1er dan. إنجاز أثار دهشة الجميع. بالنسبة إلى إبراهيم و عبد الرحيم، ما يزالان ينتظران بصبر نافد مجيء اللحظة التي «سيتوجان» فيها بهذا الحزام.الاثنان معا بدآ ممارسة الأيكيدو قبل سنتين فقط ، وهما الآن حاصلان على الحزام الأصفر و يستعدان لنيل الحزام البرتقالي نهاية الشهر المقبل. يبدي عبد الرحيم إصرارا جليا على الذهاب بعيدا في مشواره الرياضي، إذ هو الآخر يأمل أن يعيد نفس الإنجاز الذي حققه نبيل و يونس وسهام. «أريد أن أصبح مثلهم. حين التحقت بهم أحسست أن أي مكفوف يمكن أن يصير مثلهم. لقد أصبحت الأيكيدو بالنسبة لي تحديا كبيرا» يعلن عبد الرحيم. لم تكن هذه المرة الأولى التي يعلن فيها هذا الشاب الضرير مثل هذا التحدي. إذ سبق أن فعل ذلك مع الجيدو، ونال الحزام الأخضر، بعدما قضى أربع سنوات في ممارسته. سهام هي الأخرى مارست الجيدو. و كذلك نبيل. فيما قضى يونس جاد خمس سنوات في المصارعة الحرة. كلهم كانوا يبحثون عن تحقيق ذواتهم في رياضات لم يمارسها المكفوفون من قبل، و تعد حكرا على الأشخاص الأسوياء فقط. هذا التحدي كان يثير حولهم موجة من الدهشة و الحيرة. « كل من كان يطلع على قصتنا يندهش و يتساءل كيف لمكفوف أن يمارس رياضة مثل الأيكيدو تعتمد بالأساس على الرؤية و دقة الملاحظة» يقول يونس ضاحكا. فيما يعلق نبيل على هذه الوضعية بأنها» كانت تخلق حساسية تجاهنا من قبل المتدربين الأسوياء. لكننا استطعنا التغلب عليها». جمعية من طراز خاص في مقهى الجوزاء بشارع الحرية بالدار البيضاء، يلتقي يونس و أصدقاؤه باستمرار. يقتسمون سوية معاناتهم اليومية مع إعاقتهم البصرية. يقتسمون أيضا نفس الهوس بالأيكيدو، نفس التحدي، و نفس الحلم بأن يصيروا يوما وجوها بارزة في ميدان يحتكره الأسوياء فقط. وحدها سهام تغيب عن لقاءات «الجوزاء». لكنها تلتقي بأصدقائها، أيام الاثنين و الأربعاء و الجمعة، في جمعية مولاي رشيد للأيكيدو و فنون الحرب حيث يتدربون سوية. تقع الجمعية قرب كلية العلوم ابن مسيك بالدار البيضاء. المسافة بعيدة و متعبة، سيما بالنسبة لنبيل و إبراهيم و عبد الرحيم. مع ذلك يواظبون باستمرار على حضور التداريب. منذ سنوات وهم يفعلون ذلك. مقر الجمعية بسيط جدا و لا يشبه بقية النوادي المبثوثة وسط المدينة و الأحياء الراقية. «رغم ذلك تخرّج من هنا مدربون عديدون، منهم من يمارس في مدن مغربية و آخرون خارج المغرب» يوضح أحد تلاميذ عبد المجيد ميحيل، الذي صار هو الآخر مدربا. تفتح الجمعية أبوابها أيام الاثنين و الأربعاء و الجمعة بدءا من الساعة السادسة مساء حتى العاشرة والنصف ليلا. عدا ذلك تظل مغلقة بقية الأسبوع و لا يمارس بها أي نشاط رياضي آخر. السبب؟ بسيط جدا، يقول عبد المجيد ميحيل، و يلخصه في أن الجمعية لا تهدف للربح، موضحا أن أكثر من ثلث المنخرطين يتدربون مجانا لسوء ظروفهم الاجتماعية، و أنه أحيانا يجد صعوبة في تغطية مصاريف الكراء و الماء و الكهرباء لولا دعم بعض المنخرطين الموسرين. رغم ذلك لا يفكر هذا المدرب، الذي يشتغل تقنيا في إحدى الشركات، في توسيع نشاط جمعيته بحثا عن المال. «المال يبقى ثانويا بالنسبة إليه» يقول تلميذه، مضيفا أن «الجانب الإنساني هو ما يهمه». عند مدخل جمعية مولاي رشيد تطالعك صور لمدربين و خبراء دوليين في الأيكيدو. بقربها برنامج حصص التمارين و الدورات التدريبية. ديكور الجمعية بسيط للغاية. عن يمين المدخل مكتب صغير للمدرب، به أريكة و مكتب عليه حاسوب. في اليسار ممر صغير ينتهي بدرج يؤدي إلى قبو حيث قاعة التداريب. هي الأخرى بسيطة، لكنها تضج بالحركة بفعل تمرينات المتدربين على استعمال العصي. يونس وسهام و نبيل كانوا أيضا منخرطين في هذه الحركية، لا فرق بينهم وبين الآخرين، بعدما صاروا يشكلون نسيجا متناغما معهم. لم يكن الأمر كذلك قبل سنوات، يوضح نبيل. إذ «حين التحقنا أول مرة بالجمعية استغرب المتدربون القدامى وجود مكفوفين بينهم. كانوا لأول مرة يرون مكفوفين يمارسون الأيكيدو، و كان ذلك مثار دهشة بالنسبة إليهم» يحكي هذا الطالب الجامعي. قبل أن يتابع « كانوا يتساءلون باستمرار كيف سنتدرب معهم و كيف سيتعاملون معنا...كانوا مترددين ولا يدرون كيف سيتصرفون إزاءنا. لكن المدرب طلب منهم أن يتعاملوا معنا دون حساسية». إذ كان يثق في تلاميذه المكفوفين ويدرك مدى قدرتهم على الاندماج مع الأسوياء، بعدما دربهم أكثر من عامين في النادي الرياضي للمنظمة العلوية لرعاية المكفوفين بالدار البيضاء، قبل التحاقهم بجمعيته الرياضية. بداية الحكاية... امرأة لم تعد علاقة المدرب ميحيل بتلاميذه المكفوفين مجرد علاقة عادية، بعدما صار عمرها يتجاوز الثمان سنوات. وهو يتذكر جيدا بداية هذه الحكاية، التي تثير دهشة كل من يسمع بها. كان ذلك سنة 2002 حين كان بجمعيته الرياضية، فجاءه أب فتاة كفيفة تدعى سلوى و طلب منه أن يدربها الأيكيدو كي يزرع الثقة في نفسها. كان الطلب غريبا، لكنه أثار في نفسه إحساسا غامضا بالتحدي، دفعه إلى خوض تجربة بمذاق مختلف. بعد مدة وجيزة شرع في تدريب سلوى رفقة ابنته، و مع مرور الوقت بدأت الفتاة تتأقلم مع أجواء التداريب و أخذت تحدث زملاءها المكفوفين في المنظمة العلوية لرعاية المكفوفين بالدار البيضاء عن تجربتها الجديدة. كان الأمر مثيرا لزملائها، الذين اعتادوا فقط ممارسة رياضات لها ارتباط بإعاقتهم البصرية. في تلك الفترة كانت المنظمة تعيش سنة بيضاء بعدما قرر التلاميذ مقاطعة الدراسة. بعد عام عادت الحركة إلى أقسام المنظمة و أسس التلاميذ ناديا رياضيا. كانت الرياضات التي يمارسون هي السباحة و ألعاب القوى و كرة الهدف (رياضة خاصة بالمكفوفين)، فاقترحت سلوى على لجنة النادي إدراج الأيكيدو كذلك. «كانت الفكرة مثيرة بالنسبة إلينا، فاتخذناها كتحد، خصوصا أن سلوى كانت نموذجا حيا لهذا التحدي» يقول يونس جاد. تم الاتصال بالمدرب ميحيل و عرضت عليه المنظمة إقامة توأمة مع جمعيته الرياضية لتعميم تجربته على مكفوفين آخرين، فوافق و تم تأسيس قاعة للتداريب، بتمويل من الأميرة لمياء الصلح، الرئيسة الشرفية للمنظمة. استمرت التداريب أكثر من عامين بمعدل حصتين في الأسبوع. كانت هذه المرحلة «أصعب مرحلة و أحلاها في الآن ذاته. استفدت منها كثيرا» يقول ميحيل فيما يشبه الاعتراف. كان التحدي الأكبر الذي واجهه أساسا هو «كيف يمكن أن تبلغ حركات معينة لأشخاص مكفوفين لا يستطيعون رؤيتها؟». هذا الإشكال وضع تجربة المدرب، التي تتجاوز الربع قرن، على المحك، خصوصا أنه كان عليه تدريب أكثر من أربعة عشر مكفوفا من الجنسين لا يعرفون عن الأيكيدو سوى ما حدثتهم به زميلتهم سلوى. في الأخير استطاع ، بفضل خبرته الطويلة و احتكاكه بالخبراء الدوليين في الأيكيدو، أن يبتكر طريقة خاصة في تدريب المكفوفين. طريقة تعتمد بالأساس على السماع و اللمس، استعان في تطبيقها بأبنائه وتلاميذه الأكفاء. كانت النتيجة مثيرة للجميع بعد عامين فقط من التداريب، إذ في سنة 2005 قام المتدربون المكفوفون باستعراض أمام الأمير مولاي رشيد حين دشن فرع المنظمة العلوية بتمارة. كانت دهشة الأمير كبيرة وأعجب كثيرا بالاستعراض. كانت هذه السنة هي الانطلاقة الفعلية للمجموعة، بالنسبة إلى المدرب ميحيل. غير أن النادي سيجمد نشاطه بعد عام من ذلك، فعرض المدرب على تلاميذه متابعة تداريبهم مجانا بجمعيته الرياضية بابن مسيك. و رغم بعد المسافة، التحق بالجمعية تسعة متدربين، فيما فضل آخرون الانسحاب للالتحاق بالجامعة أو المركز المهني الخاص بالمكفوفين، بعدما حصلوا على الباكلوريا. و كانت سلوى ضمن المغادرين. بعد ذلك سيضطر آخرون إلى الانسحاب أيضا، لكن هذه المرة لعدم قدرتهم على متابعة التداريب، ليتقلص العدد إلى ثلاثة متدربين، هم يونس و نبيل و سهام، الذين ظلوا يمارسون سوية إلى أن التحق بهم كل من إبراهيم و عبد الرحيم. يوم لا ينسى في سنة 2008، و بالتحديد في 21 يونيو، فجر يونس و نبيل وسهام مفاجأة من العيار الثقيل، بعدما ظلوا يستعدون في سرية تامة رفقة مدربهم. في ذلك اليوم، يحكي المدرب، «كانت القاعة المغطاة بالمركب الرياضي محمد الخامس بالبيضاء مليئة. حضر رئيس الجامعة الملكية المغربية للجيدو وفنون الحرب. كما حضر المكتب المسير و عدد من المدربين والفعاليات الرياضية. إضافة إلى العديد من المتنافسين من عدة مدن مغربية بعدما سمعوا بوجود أشخاص مكفوفين ضمن المتبارين للحصول على الحزام الأسود –درجة أولى». حاول المدرب أن يهدئ تلاميذه، لكن سهام كانت مرتبكة و تشعر بالخوف بسبب الجمهور الموجود بالقاعة، و لكونها أيضا كانت تحس بثقل الأنظار عليها. فيما استطاع يونس و نبيل امتصاص هذا الضغط بحكم اعتيادهما على مثل هذه الأجواء، خاصة بالنسبة إلى نبيل، الذي شارك سابقا في ملتقيات وطنية في ألعاب القوى الخاصة بالأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. لما حان دور الثلاثة و بدأ كل منهم يؤدي حركاته، انصدم الحاضرون، يحكي المدرب ميحيل،»كانوا يتوقعون أن يشاهدوا فقط حركات بسيطة. لكنهم فوجئوا بأشخاص مكفوفين يؤدون حركاتهم بكل إتقان كما المتبارين الأسوياء. كانت صدمة بالنسبة إليهم. وقف الجميع و ظلوا يصفقون، فيما أخذت بعض النسوة يبكين و أخريات يزغردن»، و كانت النتيجة أن حصل الثلاثة على الحزام الأسود –درجة أولى بميزة مستحسن. صار هذا اليوم موشوما في ذاكرة المدرب و تلاميذه المكفوفين. تقول سهام، وهي تسترجع ما حدث،»كانت فرحتي غامرة لأني تحديت إعاقتي و لم أخيب ثقة مدربي فيّ، و أثبت للجميع أن الشخص الكفيف يمكن هو الآخر أن يحقق أي هدف يبتغيه». تجربة تثير دهشة الخبراء الدوليين في الأيكيدو ما حققه يونس و أصدقاؤه لم يكن مجرد إنجاز عادي يمكن نسيانه بسهولة. إذ لأول مرة، يقول المدرب ميحيل، يلج أشخاص مكفوفون ميدانا يصعب أحيانا حتى على المبصرين. «كما أنها المرة الأولى، التي يحصل ممارسون مكفوفون على الحزام الأسود درجة أولى، ليس فقط في المغرب، بل في أفريقيا و العالم العربي. بالنسبة لبقية دول العالم؟ ما يزال ميحيل غير متأكد من ذلك لغياب معطيات دقيقة، رغم أنه زار بعض الدول الأجنبية دون أن يسمع بوجود مكفوفين حصلوا على الحزام الأسود في الأيكيدو، كما أن عددا من الخبراء الدوليين من اليابان و الولاياتالمتحدةالأمريكية و فرنسا زاروا المغرب، وكانوا يعبرون عن اندهاشهم بمجرد ما يعلمون بوجود مكفوفين يمارسون الأيكيدو. من هؤلاء ، يذكر ميحيل الخبير الدولي الياباني نيشيما و كانيكو، وكذا الإيراني علي شهباز. فرادة التجربة المغربية دفعت مدربا إماراتيا إلى طلب استنساخها بدولة الإمارات. و إن كان المدرب ميحيل يرى أن مثل هذه الخطوة لم يحن أوانها بعد، لأن ما يشغل باله حاليا هو إثراء التجربة المغربية أكثر و توسيع دائرتها لتشمل أكبر عدد ممكن من المكفوفين، و إن كان مشكل قاعة التداريب في جمعيته الرياضية يشكل عائقا أمام هذه الخطوة. نفس الطموح أيضا يراود تلاميذه المكفوفين حتى لا يبقى الأمر مقتصرا عليهم وحدهم، خصوصا أنهم صاروا مهيئين أكثر من أي وقت مضى لتدريب المبتدئين بعدما حصلوا على الحزام الأسود.