أرجو ألا أصدم القارئ عندما أقول إنني ضد توقيع اتفاق المصالحة بين حماس وعباس. ربما السبب أن الاتفاق المطروح لا يعكس رغبة في التوصل إلى مصالحة فلسطينية حقيقية بقدر ما يعكس رغبة في مصالحة الفلسطينيين على أولويات إسرائيل، والانتقال بمواقف حماس إلى مواقع عباس، وإعادة صياغة العمل الفلسطيني كله على المقاس الإسرائيلي بالضبط. ودعك من نصوص ورقة المصالحة المصرية، فالروح العامة أهم من النصوص، والسباق السياسي أكثر أهمية، والوسيط المصري بطبائع السياسة ليس مخلصا لقضية توحيد الحركة الوطنية الفلسطينية بقدر إخلاصه ورغبته في إرضاء إسرائيل، ولأسباب تتصل بدور «الوسيط الضاغط» على الفلسطينيين الذي اختاره النظام المصري لنفسه من زمن، ولدواع تتعلق بمعادلة بقاء النظام وبقاء رئيسه الذي وصفه بنيامين بن أليعازر بكونه «كنزا استراتيجيا لإسرائيل»، وقد نتفهم حرص بعض قادة حماس على المناورة، وربما الإيحاء برغبة تجاوب مع مطالب النظام المصري، ولأسباب تتعلق بوضع غزة الراهن، وكل ذلك مما قد يصح تفهمه، ولكن دون أن تتورط حماس في التوقيع على صك اعتراف نهائي بأوسلو ورزاياها، والتورط في الاعتراف بشرعية لوجود إسرائيل ذاتها. وعباس بالطبع لن يخسر شيئا من وراء توقيع اتفاق المصالحة، فقد ذهب إلى ما هو أسوأ وأضل، وتجاوز منذ زمن فكرة الاعتراف بشرعية كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وأعطاه شرعية الوصاية على العمل الفلسطيني نفسه، وحصر خياراته في ابتغاء مرضاة إسرائيل، يتفاوض لمجرد التفاوض، ويعرب عن القلق أحيانا، لكنه لا يخرج أبدا عن قواعد اللعبة المرسومة، والتي وقع أسيرا لها بمزيج من دواعي الاختيار والإجبار، فالضغط العسكري الإسرائيلي فوق رأسه، والأوامر الأمنية واجبة التنفيذ، وأموال الرباعية الدولية هي التي تغذي ميزانيته، وهو بدوره يلعب اللعبة ذاتها من رام الله، يسعى جهازه الأمني إلى مطاردة واعتقال وتعذيب وقتل المقاومين الفلسطينيين من «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، ويتحكم في قادة حركة فتح وكوادرها بتوزيع الوظائف والرواتب، وفي منظمات فلسطينية أخرى تعارضه سياسيا، لكنها تخضع له ماليا، ولا تتجاوز في رد فعلها خطوطا حمراء، فالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مثلا تنظيم فلسطيني معارض بجدية، وتملك زخما تاريخيا فريدا، وأمينها العام أحمد سعدات معتقل في سجون إسرائيل، لكنها لا تملك فرصة التمرد الكامل على عباس حتى لو أرادت، والسبب مفهوم، فلديها مئات الأسرى، ومئات من عائلات الشهداء، ومئات من الكوادر القيادية المتفرغة، وكل هؤلاء يحتاجون إلى أموال يأتي غالبها من «الصندوق القومي الفلسطيني»، والأخير في حوزة عباس، وله وحده حق التصرف فيه بصفته رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي كفت عن الوجود السياسي والتنظيمي الفعلي منذ زمن طويل. نعم، عباس لن يخسر شيئا من مصالحات الورقة المصرية، فقدْ فقدَ صلته منذ زمن بآمال وطموح الشعب الفلسطيني في التحرير، وتحول إلى دور الممثل على خشبة مسرح مكشوف، وحسب نص مريب ملتبس، يعطي إيحاء فلسطينيا كاذبا ويعارض أي تحرك مقاوم. وسواء كانت المقاومة بالسياسة، بمظاهرات الحجر، وبالهبات الجماهيرية أو بالسلاح من باب أولى، فالرجل من دون لف ولا دوران ضد أي انتفاض أو تحرك للشعب الفلسطيني، والمصالحة معه تعني المصالحة مع أقدار الموات المفروضة على حركة الفلسطينيين، وحرف قضيتهم عن مجراها الأصلي كقضية تحرير وطني والانحراف بها إلى معنى آخر يصور الفلسطينيين كجماعة بشرية بائسة، تعاني من سوء الحظ. وقد يصح أن نطلب لها طعاما وشرابا ومعونات، فيما تترك الأرض نهبا للإسرائيليين، يهودونها ويغيرون حقائقها الجغرافية والسكانية وينعمون باحتلال منخفض التكاليف، تنزل عن كاهله تكاليف معيشة الفلسطينيين تحت الاحتلال، وتنتقل الأعباء إلى عنوان فلسطيني مريح، وباسم «سلطة وطنية»، لا هي سلطة ولا هي وطنية، بل مجرد قبضة هواء، ووكيل أمني هو العين الساهرة لإسرائيل، والباقي تفاصيل، ومكوكيات تروح وتجيء مع السيد جورج ميتشل، ومفاوضات عبث، ووعود بإقامة دولة فلسطينية لا تقوم، وعدت أوسلو بقيامها عام 1999 ومرت عشر سنوات دون أن تقوم أو تقترب، وربما تمر مائة سنة دون جديد لو ظل الأمر الفلسطيني لعباس، ومن يشبهه. على أي شيء إذن يمكن أن تتصالح حماس، إذا تصالحت مع عباس فهي تسلم بقيادته، وتلتزم بنهجه، وتعترف بإسرائيل كما يعترف، وتعترف بأولوية الرغبات الإسرائيلية على طريقة عباس ووساطة النظام المصري، وهو ما يعني عمليا - أن تفقد حماس صفتها كحركة مقاومة، صحيح أن إشارات ما وردت عن المقاومة في الورقة المصرية، لكنها جاءت على طريقة الجمل الاعتراضية، ودون أن تكون هي المعيار والأساس، بينما المقاومة هي الخيار الوحيد لأي شعب يقع تحت الاحتلال، وهي الاختيار الذي لا يصح من اختيار سواه في الوضع الفلسطيني الملموس، وقد بنت حركة حماس تاريخها، وتألقت بفعلها المقاوم بالذات، وصاغت وجودها على أساس فكرة المقاومة، وحازت ثقة الشعب الفلسطيني في آخر انتخابات جرت على أساس انحيازها وتمثيلها الأوسع لمعنى المقاومة وليس على أساس الانزلاق إلى خيمة أوسلو والتصرف كسلطة تفاوض، فالذي أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، والتحرير النسبي لغزة وتفكيك مستوطناتها لم يحدث بالتفاوض مع إسرائيل بل حدث بقوة سلاح الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي جعلت تكلفة بقاء الاحتلال فوق فوائده وأجبرت إسرائيل على فك الارتباط مع غزة من طرف واحد، ودون توقيع صك اعتراف بإسرائيل ولا اتفاق تطبيع، وهو ذاته ما جرى قبلها في تحرير جنوب لبنان، ثم بعدها في مواجهات حربية طويلة صمدت فيها المقاومة وأثبتت مقدراتها العبقرية على الثبات والنصر في حرب يوليوز 2006 وحرب يناير 2009. والمعنى أن فكرة المصالحة الفلسطينية قد يصح أن تتخذ لنفسها مدارا آخر، وقد لا يكون لجماعة عباس من مكان فيه ولا لوساطة النظام المصري المشكوك في أمرها. والمطلوب -في ما نظن- إنشاء بيت فلسطيني مقاوم وجامع، يبدأ بإسقاط الاعتراف الفلسطيني بسلطة أوسلو وتوابعها، ودمج حركة الشعب الفلسطيني في الشتات مع حركته على الأرض الفلسطينية ذاتها وبناء منظمة تحرير بديلة، تتخذ من قطعة الأرض شبه المحررة في غزة مركزا لقيادتها الفعلية، وتدمج منظمات السلاح في تشكيل عسكري واحد، وتحدد مهامها العاجلة في ثلاثة عناوين، أولها: استكمال تحرير غزة، والثاني: إشعال انتفاضة جماهيرية ثالثة في الضفة والقدس، والثالث: اعتبار حق العودة والتحرير جوهر الحق الفلسطيني. هذا هو الطريق إلى مصالحة فلسطينية تستحق الاسم، وثمة عقبات ومصاعب بلا حصر، لعل أظهرها أن الاعتراف الرسمي العربي والدولي محجوز لسلطة عباس، وقد يصح تجاهل مثل هذا الاعتراف في المراحل الأولى، فالأهم هو اعتراف الشعب الفلسطيني بأكثريته الغالبة، وابتعاث قيادة مقتدرة لحركة التحرر الوطني الفلسطيني، والعودة العاجلة إلى خطوط النار.