بمناسبة اليوم العالمي للمتاحف، نظم متحف سيدي محمد بن عبد الله في الصويرة أياما تكريمية لذاكرة الفنانة الراحلة الركراكية بنحيلة، بتنسيق مع عمالة الإقليم ومندوبية الثقافة وجمعية «موكادور» والرواق الدولي «عطيل»، ما بين 20 و22 ماي الجاري. تمحورت هذه الأيام الفنية والثقافية حول معرض استيعادي لأعمال الراحلة، إلى جانب محترَف إبداعي يستوحي ألوان الفنانة من طرف صفوة من الفنانين التشكيليين في مقر المتحف، وعرض شريط وثائقي يعكس البعد الاجتماعي في مسار هذه الفنانة الاستثنائية، وهو من إنجاز صديقاتها الألمانيات، بالإضافة إلى عرض شريط روائي أخرجه كمال كمال. وانفردت هذه الأيام التكريمية، أيضا، بعقد ندوة حول مسار بنحيلة ومدى تفاعلها مع عوالم التشكيل المستقل والتلقائي، بمشاركة العديد من نقاد الفن والمنشغلين بأسئلته المعاصرة، وختمت هذه الأيام الثقافية بسهرة فنية يُحييها مجموعة من المبدعين الموسيقيين المخلصين لذاكرة الراحلة والمعاصرين لعطاءاتها الفنية... رحلت الفنانة الركراكية بنحيلة يوم الاثنين 9 نوفمبر 2009، عن عمر يناهز 70 سنة، بعد صراع مرير مع المرض في صمت وكبرياء، في رقعة جغرافية مهمشة: دوار لمساسة، في منطقة الحرارثة، ضواحي الصويرة. وبرحيل هذه الفنانة التي كان الزميل رشيد نيني قد أعدَّ حولها حلقة متفردةً من برنامجه «نوسطالجيا»، يطوي سِجلُّ الفن التشكيلي المعاصر صفحة من اتجاهاته الفطرية لجيل الرواد، هذا الاتجاه الذي يُعَدُّ من الروافد الحية للإبداع، بالنظر إلى عوالمه الطفولية ومداراته البصرية الممهورة بالحلم والمتخيَّل الشعبي، إلى حد اعتباره، وبلغة الناقد جبرا إبراهيم جبرا، الفنَّ الديمقراطي بامتياز، لأنه يعكس رؤية الهامش ويعبِّر عن مقاومته الرمزية للنسيان والمحو وكل أشكال الاستلاب والتطبيع والتكييف. تزامُن إحياءِ ذاكرة بنحيلة مع الاحتفال باليوم العالمي للمتاحف ليس مصادفة أو مجازفةً، يقول بعض المنظمين، بقدر ما يعكس قناعة راسخة لديهم، لكون التراث البصري الذي خلَّفتْه يقول المصدر ذاتُه، يرقى إلى التراث المتحفي، بوصفه ذاكرة مشتركة توثق لأحلامنا الجماعية ولرؤيتنا للعالم، فالفنانة بنحيلة تعَدُّ من نماذج الإبداع الفطري في المغرب، مضيفا أنها كرست حياتها الوجودية لرسم الكائنات والأشياء، انطلاقا من إيحاءات محيطها الاجتماعي الشعبي وتفاصيل علاقاتها اليومية، فأتت لوحاتها عبارة عن فيض من الألوان والوحدات البصرية ذات المشاهد المألوفة التي تحتفي بعمق الحلم (توظيف اللون الأزرق)، وبخصوبة الوجود (توظيف اللون الأخضر). تقول الباحثة فاطمة المرنيسي عن تجربة الركراكية: «بنحيلة من الأسماء الفنية التي تُعلِّمنا دروسَ الإبداع النهائي، حيث تسرد على طريقتها الخاصة بَوحَها القاسيَّ وسيرتها الذاتية، عبر الألوان والأشكال»... الفنان الحقيقي لا يموت، لأن أعماله الإبداعية تظل موشومةً في ذاكرة الأفراد والجماعات، ذلك أن نفَس إلهام لوحات بنحيلة ما زال نابضا في كل منجزها البصري ذي المنزَع الشهرزادي.. يقول في حقها الفنان والباحث أحمد حروز: «الركراكية فنانة أصيلة، لم تكن مجرد رسامة تُتْقن استعمالَ الألوان والأشكال، بل كانت رسامة على مستوى إدراك العمق البصري والروحي للطبيعة، وسبر أغوار الكائن البشري وتَمثُّلِ تاريخه. لم تكن، إذن، «أمية أو جاهلة ترسم»، بقدر ما كانت مثقفة تُعبِّر عن العالم بصيغتها الذاتية، وتؤكد معاني التبادل الثقافي والحوار الحضاري. كل أعمالها الإبداعية ترجمة صادقة للفرحة والأخوة والحب الكوني»... بدورها، صرحت زهور مهاوش، محافظة متحف سيدي محمد بن عبد الله، ل«المساء»: «يأتي هذا التكريم الرمزي لذاكرة الراحلة بنحيلة كاعتراف وتقدير لوضعها الاعتباري داخل المشهد الفني في المغرب، فقد جمعت الراحلة بين الفاعلة الجمعوية والفنانة التشكيلية، التي ظلت مخلصةً لمحيطها الاجتماعي والثقافي، إنسانةً ومبدعة، كما أنها استطاعت، بملَكَتها الفطرية، أن تخترق عالم التشكيل من بابه الواسع، موظِّفةً كل مخزونها التراثي وتجارب حياتها داخل المغرب وخارجه. إنها من أبرز معالم الثروة اللامادية لمدينة الصويرة، وعملها جدير بالمحافظة والاهتمام، على غرار تجارب الراحلين بوجمعة لحضر والعربي صليط وبوفوس وبوهدة وسعدية بايرو...». إنسانة بامتياز، هي الفنانة بنحيلة التي تجشمت عناءَ وشظف العيش وقاومت هشاشةَ الهامش ومأساويتَه بروح الفنانة الملتزمة بقضايا عصرها، والمنتصرة لقيم الحب والحرية والاستقلالية في الإبداع، فكرا وممارسة. حول تصورها العام للفعل الإبداعي، سبق للفنانة بنحيلة أن صرحت للكاتب والباحث عبد القادر مانا في كتابه «فنانو الصويرة»، الصادر عام 1990: «عندما أرسم أحس بالمرض، كامرأة قيدَ الولادة، يحدث هذا في لحظات الصمت، الإنجاب هو الإحساس الوحيد الذي لم أجرِّبه أبدا في حياتي. أعبر عن فكرة الجنين في عملي التشكيلي. بطريقة لا واعية، أرسم رحِم النساء وحالاتِ حملهم، أرسم «الجن» الذي رأيته في طفولتي البعتيدة.. أحلم دائما بالجمل الذي يتبعني، أرسم أيضا الحية، لأنها تُرهب الناس في الأزمنة القديمة، أدعو الله أن تكون قلوب الناس بيضاء كالحمامة»... هكذا، ترى بنحيلة إلى العمل الفني المشحون بثقافتها الشعبية، وبرؤيتها التلقائية للأشياء، سنَدُها العامُّ في ذلك معيشُها اليوميّ وجرحُ ذاكرتها، هي التي جعلت من منزلها «مركَّباً ثقافيا» لترجمة حوار الفنون وتفاعلها، ومَرتَعا خصبا لممارسة الإنسية الكونية، خارج كل الحدود الإثنية والجغرافية... للتذكير فإن بنحيلة عرضت لأول مرة سنة 1989، وقد حظيت بشرف الحصول على وسام ملكي في شهر أبريل 2007، كما عرضت في مختلف الأقطار العربية والأجنبية.