ربما لا يوجد مكان أنسب من قاعات المحاكم لكي تحدث فيها طرائف تجعل الإنسان يستلقي على قفاه من الضحك. ومما يجعل الضحك ممتعا في هذه القاعات أنه يُمنع فيها الضحك.. وبما أن «كلَّ ممنوع مرغوب»، فإن هذه القاعات كثيرا ما تعلو فيها القهقهات، فيرفع القاضي مطرقته الخشية ويصرخ: «سكوت»! أو يهدِّد بطرد الحاضرين، أو حتى اعتقالهم في بعض الحالات، إنْ هم واصلوا «إهانة» المحكمة بضحكهم. مرةً، وداخل قاعة في محكمة الاستئناف في طنجة، لم تنفع تهديدات القاضي في منع الناس من الضحك، وبقي الناس يضحكون حتى «أشفوا غليلَهم»، ثم استمرت المحاكمة... كان الأمر يتعلق، وقتها، بالحملة الأمنية الكبرى التي قادتها وزارة الداخلية، في عهد الوزير السابق ادريس البصري، ضد التهريب وتجارة المخدرات، وهي حملة «مضحكة»، في حد ذاتها. وبما أن طنجة كانت تعتبر في ذلك الوقت من التسعينيات، «كارتيلا» دوليا للمخدرات، فإن مسؤولين كثيرين كانوا يعتبرونها «الدجاجة التي تبيض ذهباً»، وكانوا «يزطمون» على القانون من أجل المال. كانت قاعة المحكمة يومَها ممتلئة عن آخرها بعشرات المحامين والشهود ورجال الأمن وبأفراد عائلات المتهمين والصحافيين والناس العاديين. وكان القاضي يوجه أسئلته إلى مجموعة من الناس البسطاء قيل إنهم ينتمون إلى شبكة أحمد بونقوب، المعروف باسم «حميدو الذيب»، وكان هذا الأخير يجلس في هدوء، بينما جلس قربه شيخ بدوي يجيب عن أسئلة القاضي، بعفوية متناهية... سأل القاضي ذلك الرجل البدوي: كان عندكم في الشبكة زورق فاخر. هل هذا صحيح؟. أجاب الرجل: نعم. سأله القاضي مرة أخرى: وهل كنتم تُهرِّبون فيه الحشيش؟ صمت الرجل البدوي هنيهة ثم رد قائلا: لا يعقل سيدي القاضي أن نهرّب الحشيش في ذلك الزورق الفاخر! فسأله القاضي مرة أخرى وقد بدأ صبره ينفذ: إذن ماذا كنتم تفعلون بذلك الزورق؟ رد عليه الرجل البدوي: كنا يا سيدي القاضي نستخدمه للنزهة، حيث نستضيف فيه شخصيات مهمة تأتي عندنا من الرباط!... في هذه اللحظة، لم ينتظر كل من حضروا المحاكمة إذْنَ أحد كي يطلقوا قهقهات عالية. وغرق المحامون في «هستيريا» من الضحك المستتر، بينما انشغل الناس بالضحك وتبادل الهمسات، خصوصا وأن الجميع كانوا يعرفون، وقتَها، كم هي متداخلة تجارةُ الحشيش مع المسؤوليات الرسمية. لم يوقف الضحكَ في القاعة سوى صراخٍ متواصل للقاضي وضربِه بمطرقته الخشبية على المنضدة. وبينما كان بإمكان القاضي والمحامين أن يتعلقوا بذلك الجواب لكي يكشفوا عن هوية تلك الشخصيات المهمة، فقد اكتفى الجميع بالضحك من تلك النكتة، أو التي اعتبروها كذلك. هناك حكاية طريفة أخرى يرويها محام في المدينة: ففي صباح أحد الأيام، كان مزاج القاضي الذي سيترأس الجلسة متعكرا، وكان الجميع يفهم تعكُّر مزاجه، لأنه مدمن على نفح «الطّابة». نادى القاضي على مستخدَم في المحكمة وطلب منه أن يخرج ليشتري له مادة «الطّابة» من عند تاجر سري قريب من المحكمة. وفي انتظار ذلك، دخل ليترأس الجلية، وكان أولُ متهم عُرِض أمامه هو شخص متَّهَم بترويج وبيع «الطّابة»!... هناك حكاية أخرى لرجل وقف أمام القاضي، بتهمة إهمال بيت الزوجية وعدم النفقة على بيته وأولاده. وعندما سأله القاضي عن سبب ذلك، رد المتهم، الذي كان شبهَ مثقف وعضوا في جمعية ثقافية، قائلا إنه لا وقت لديه للاهتمام ببيت الزوجية والانشغال بالأمور «التافهة»، مثل تربية الأبناء، لأنه «جد منشغل بتنوير الحياة الثقافية والعلمية للمملكة المغربية»!... وقتها لم يجد القاضي بدا من عرض الرجل على أخصائي نفساني، عوض سجنه... ويحكي محام متقاعد أنه حضر مرة جلسة في بداية الثمانينيات، وكان المتّهَم فيها رجلا مُسنّاً من جهة دكالة. وعند بدء الجلسة، اعترض المتهم على عرضه في محكمة في طنجة، لأنها ليست مدينته، وطالب بنقل الجلسة إلى مدينة الجديدة. وعندما سأله القاضي كيف سيتم ذلك، أجابه المتهم بأنه مستعد لاستعمال سيارته الخاصة وسيارات أبنائه لكي ينقل جميع القضاة والمحامين والشهود إلى الجديدة!... ويحكي مصدر من فاس عن وكيل سابق للملك كان مصابا ب«جنون العظمة»، وكان يدخل المحكمة بحذاء «الكاوبوي»، وأن أخته رفضت مرة أداء ثمن التذكرة في الحافلة فحدثت مشكلة كبيرة، واستدعى الوكيل مسؤولي شركة الحافلات في المدينة للاستماع إليهم. انتهى مسار هذا الوكيل في معمل لتقطيع الخشب، وهناك تمّ «تقطيع» غروره قطعةً، قطعة... حكاية أخرى لا أحد يعرف إن كانت حقيقية أم متخَيَّلَة، ولا أحد يعرف إن حدثت فعلا في طنجة أو في مدينة أخرى، لكنها تحمل حكمة عميقة ووصفا رائعا للواقع... تقول الحكاية إن امرأة أرادت أن تكسب قضية في المحكمة ف«أهدت» القاضي مرآة جميلة. وفي يوم النطق بالحكم، جلست المرأة تنتظر حكم القاضي وهي مقتنعة تمام الاقتناع بأنه سيكون لصالحها. بعد هنيهة أصدر القاضي حكمه الذي شكَّل «صدمة» للمرأة، والتي لم تتأخر في الذهاب إلى القاضي لتسأله: ولكن، أين ذهبت المرآة الجميلة؟... أجابها القاضي: «زْطمت فيها البقرة»!... والمعنى واضح، أي أنَّ خصمَ المرأة «أهدى» القاضي بقرةً، والبقرة هشَّمت المرآة... حكمة تلخص، بحق، مرارةَ واقع محاكم المملكة وقضائها...