تندرج هذه المقالة في سياق الاحتفاء برمز من رموز الوطنية المغربية الذي يظل، اتفق معه من اتفق و اختلف معه من اختلف، علامة بارزة في الحياة السياسية والفكرية لبلدنا في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولا زال لأفكاره واجتهاداته قدر غير يسير من الراهنية. وبمناسبة انصرام مئة سنة على تاريخ ولادته، مثله في ذلك مثل علال الفاسي رحمة الله عليهما جميعا، أقدم هذه الإطلالة المركزة على فكره.. تنبع أهمية التأصيل للمفاهيم والقيم الليبرالية في التجربة التاريخية للأمة و تراثها السياسي ونصوصها التأسيسية، من الوعي باستحالة نشوء أي بناء عميق الجذور وقوي البنيان من غير أن يكون له سند تاريخي عميق في ثقافة المجتمع؛ ولذلك فحينما يلجأ محمد حسن الوزاني وغيره من الإصلاحيين إلى عملية التأصيل للمبادئ والقيم الليبرالية في الإسلام، فإنما يفعل ذلك لمواجهة : أولا: القراءات الحرفية ،المتزمتة للنص الديني التي تستميت في ممانعة كل تجديد وانفتاح على قيم العصر، خاصة وأن هذه القيم قد قدمت أول ما قدمت إليهم في ركاب الاستعمار.. ثانيا : الصورة السلبية السائدة عن الإسلام عند عدد غير قليل من المفكرين الغربيين أمثال مونتيسكيو وجون ستيوارت ميل ممن ينظرون إليه ك «نظام مجتمعي متزمت مشيد على الإجماع ومحاربة الانشقاقات، وبالتالي مخالف لأصول المجتمع الليبرالي» فمع تسليم الوزاني أن القرآن هو «دستور الإسلام الخالد»، إلا أنه يعتبر أن ذلك « لا يتنافى مطلقا مع ما يخوله الإسلام نفسه، نصا وروحا، للمسلمين من حق التفكير في تكييف نظام دولتهم وفق ما تتطلبه حياتهم في كل عصر، أي في وضع دستور يكون القانون الأساسي لأنظمة الحكم والسياسة في الدولة..» فإلى جانب تأكيده أن كل أبواب النهضة والرقي تنفتح أمام المسلمين إن هم استطاعوا أن يدركوا أسرار الشريعة الإسلامية ويعملوا على التوفيق بين ما قررته من أصول وبين ما يطرأ على حياتهم من الحوادث ويعرض لهم من المشاكل، يشدد على أن « الشريعة لا تحرم على المسلمين اقتباس ما ينفعهم في دنياهم من الأمم الراقية..» أولا :الحرية : يسجل عبد الله العروي تميز المؤلفين الليبراليين العرب عن نظرائهم الغربيين بميزتين اثنتين: أولاهما؛ دفاعهم عن الحرية ضد خصومها في مجتمعاتهم مؤكدين أن الإسلام في صميمه دعوة إلى الحرية. وثانيهما؛ إرادة تأصيل الحرية في عمق المجتمع والتاريخ الإسلاميين. وهو الأمر الذي ينطبق ،إلى حد بعيد، على الوزاني الذي يذهب إلى أن « الإسلام بصفته شريعة الإنسانية الفاضلة ودين الحق المطلق يرتكز على مبادئ الإخاء والمساواة والعدل والحرية.» وتبعا لذلك، فإن «سلب الناس حرياتهم واستقلالهم؛ وهو ما يعبر عنه سياسيا بالاستبداد والاضطهاد، والاستعباد، ينكره الإسلام إنكارا شديدا وتأباه شريعته إباء مطلقا.» إذ « لا طاعة (في الإسلام ) إلا ضمن العدل والحرية.» فضلا عن أن « اتباع الكتاب والسنة لا يسوغ مصادرة الآراء مطلقا»؛ فقد كان الرسول (ص ) لا يفتأ «ينادي بحرية العقل، ويعمل لتثبيتها في النفوس وإدخالها في التقاليد العامة.» ليخلص الوزاني إلى أن « حرية الرأي تعد من أهم وأقدس الحقوق الإنسانية التي يجب على السلطة الحاكمة أن تصونها صيانة أمينة دائمة.» ووعيا منه بالأهمية التي يكتسيها مبدأ احترام حرية الأمة وإرادتها، فقد اعتبر أن عدم تحديد الرسول لمن يخلفه لا يعبر عن تغافل منه (ص ) لهذا الأمر الجلل، وإنما يعبر عن مدى «الاحترام الواجب لإرادة الأمة في تقرير مصيرها، وصونا لحقها في إسناد رئاستها إلى من تراه الأصلح لسياستها، ونصرا لمبدأ الحرية التي يقدسها الإسلام تقديسا». أكثر من ذلك، وفيما يتصل بعملية التأصيل للقيم الليبرالية والحداثية عموما، فإن الإسلام يحوز، من وجهة نظر الوزاني، على مرجعية معيارية أقوى من نظرية» الحقوق الطبيعية»إذ نجده يشدد على أن «كل أمة مسلمة تطالب بحقها في الحياة لا تفعل ذلك باسم الحقوق الطبيعية الإنسانية وضرورات الحياة العصرية الراقية فحسب، بل تنشد ذلك باسم الإسلام الذي هو شريعة الحق والمساواة والعدل والحرية.» تذهب الأدبيات ذات الصلة أن التجربة العربية الجماعية التي أعقبت الحصول على الاستقلال السياسي وإنجاز الإصلاحات الليبرالية المنتظرة منذ منتصف القرن 19 هي التي «كشفت عن حدود الليبرالية، وحدت بالمفكرين إلى كشف تلك الحدود والبحث في أسبابها وأصولها، فكانت فرصة لإحياء نظرية الحرية في ظرف جديد وثوب جديد.» وبالإمكان رصد بواكير هذا الوعي النظري النسبي لدى الوزاني بصدد تناوله لحدود العلاقة بين الحرية والسلطة والدولة من جهة، والعلاقة بين الحرية والنهضة والتقدم التاريخي من جهة أخرى. فبالنسبة لحدود العلاقة بين الحرية والدولة، نجد أن الوزاني ينطلق من وجود علاقة وظيفية بينهما محكومة باستقلالية مجالية واضحة؛ « فالحرية تتعزز بقيام الدولة، فكما أن الحرية لها نطاق معقول لا تتعداه فكذلك للدولة حد معين لا تتجاوزه وإلا تكون مطلقة التصرف والمشيئة، وهذا هو عين الاستبداد والاضطهاد..» ذلك أن « السلطة الحاكمة ليست مطلقة التصرف في أمر الأمة، لأنها تستمد نفوذها من الشعب مصدر الحكم والسلطان، ولا تستعمل ذلك النفوذ إلا في الخير العام، وهو ضمانة الحقوق الإنسانية وحراستها من كل عدوان وإتلاف.» وتبرز حدود سلطة الدولة في مواجهة حريات وحقوق الأفراد، أكثر ما تبرز، حينما يشير الوزاني إلى أن أي «حكومة لا يمكنها أن تجود إلا بما تملكه ملكا.» وحينما يشدد على أن « الحقوق ملك الأفراد والجماعات لا يجوز مطلقا أن تستبد بها السلطة التي إنما تنحصر وظيفتها في القيام على الجماعة بتدبير شؤونها العامة وفق المصلحة المشتركة بين الناس كافة.» أما بالنسبة للعلاقة بين الحرية والتقدم التاريخي، فإن الوزاني ينطلق من أن السلطة إذا كانت «لازمة لنظام المجتمع»، فإن «الحرية ضرورية لحياة الأمة.. وحيثما تلاشت الحرية بالظلم والإرهاب خيم الجمود، وساد الخمود، واستحكم الانحلال في الأفراد والجماعات واستحال مع هذا كل حركة ونمو وتعرقل كل رقي وسير مطرد إلى الأمام.» أكثر من ذلك فإن الحرية تغدو بالنسبة للوزاني « وسيلة فعالة لتحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية الضرورية لتحرير الجماهير المغربية من الفقر والجوع والبطالة». وهكذا يتضح أن الوزاني يصدر عن تصور وظيفي، اجتماعي للحرية محكوم بما عبر عنه ب « الخير العام» و « المصلحة المشتركة» الأمر الذي جعله يدافع عن نزعة تدخلية واضحة للدولة بقوله: « لا جدال اليوم في أن الدولة هي المسؤولة عن النهضة الاقتصادية، وهذه المسؤولية تفرض عليها أن تتدخل في توجيه السياسة الاقتصادية للبلاد.» وهو التدخل الذي يتخذ شكل « برنامج متناسق ومتكامل الأجزاء، هو التخطيط.» الذي يعد بمثابة « الإستراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية..» وهو بهذا يدافع عن ليبرالية اجتماعية يغدو بمقتضاها « لا غناء لأي تخطيط اقتصادي عن الاقتران بتخطيط اجتماعي حتى تكون المعركة مزدوجة ضد التخلف بشقيه الاقتصادي والاجتماعي.» وهي المعركة التي تستوجب تضافر جهود كل من الدولة والأمة على حد سواء من منطلق أن « سياسة التخطيط لا تهم الدولة وحدها، بل تهم كذلك الأمة، وأن المعركة ضد التخلف ومن أجل التنمية ليست الدولة أولى بها من الأمة..» « لقد كافحنا، يقول الوزاني، دائما منذ تأسيس حزب الشورى والاستقلال لإقامة نظام ديمقراطي. هذا النظام الديمقراطي ليس نظاما سياسيا فحسب، ولكنه أيضا نظام اجتماعي. إن حالة الفلاح والعامل تفرض علينا مراجعة مفاهيمنا الاجتماعية من أجل ابتكار توزيع جديد ومنصف لثروات البلاد وفق طريقة حديثة وعادلة.» كما يتجلى هذا المضمون الاجتماعي الوطني لليبرالية الوزاني حينما يحذر من اللجوء إلى التمويل الخارجي إلا عند الضرورة، وبما لا يخل بالسيادة الوطنية، ويضمن استعمال هذه الأموال في مجال التجهيز ومشاريع التنمية الاقتصادية، سعيا لخلق الثروة الاقتصادية وتنميتها في سبيل مصلحة المواطنين في الحاضر والمستقبل، بعيدا عن كل مظاهر الإسراف والتبذير في نفقات الدولة، معتبرا أن من العوامل المكرسة للأزمة التي يعيشها المغرب كون الدولة المغربية «كانت وما تزال مصرة على أن تعيش فوق المستوى المالي والاقتصادي والاجتماعي للبلاد..» وكذلك من خلال مناداته ب «عدالة ضريبية « تقوم على الحقائق الاجتماعية والاقتصادية» وذلك بأن «يعامل جميع المواطنين بكل إنصاف وعدالة فيما يخص التكاليف والجبايات». يتبع