ودعنا، قبل أيام، الذكرى السابعة للتفجيرات الإجرامية التي استهدفت مدينة الدارالبيضاء ليلة السادس عشر من ماي 2003، وهو الحدث الأليم الذي أودى بحياة 46 شخصا وكسر مسلمة لازمت الخطاب الرسمي الذي ظل يتباهى بأسطورة المملكة الآمنة المطمئنة البعيدة عن تداعيات الأحداث الإرهابية المتنامية في العالم. وحتى لا تمر الذكرى بدون استخلاص العبر، لا بد من استثمار المناسبة، والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء، لنتأمل في تلك الواقعة وما سبقها وما تلاها وما رافقها من إجراءات علاجية ووقائية ومدى نجاعتها. لقد استيقظ المغاربة على هول الصدمة، وبدا الارتباك واضحا في تصرفات الجميع، وسيطر الذهول على المسؤولين، وساد منطق رد الفعل الانفعالي، ففتح المجال للأجهزة الأمنية، بمختلف تشكيلاتها، لتلقي القبض على الآلاف وتزج بهم في السجون والمعتقلات دون احترام لأبسط حقوق الإنسان، بل إن البلاد شهدت ردة حقوقية حقيقية أعادتنا إلى زمن الاختطاف والتعذيب والانتهاكات الجسيمة والمحاكمات المفتقرة إلى أدنى شروط العدالة. وكانت النتيجة اعترافا رسميا من أعلى سلطة في البلاد بوقوع تجاوزات في هذا الملف، وما زال الرأي العام إلى حد الآن ينتظر ترجمة لهذا الكلام في الميدان من قبل من يمسك بهذا الملف، تفكيرا وتدبيرا.. أما ما تضمنته التقارير الحقوقية فيستحيي المرء من ذكره لأنه يلطخ سمعة البلاد التي صرفت الملايير من أجل تحسينها. واستغلت أول فرصة بعد الأحداث لتمرير قانون مكافحة الإرهاب في يونيو 2003، وهو المشروع الذي كان مرفوضا من قبل كل القوى في المجتمع، واستغل الحدث لتصفية حسابات سياسية مع فرقاء سياسيين بدعوى مسؤوليتهم المعنوية عن هذه الأحداث، وارتفعت أصوات استئصالية مطالبة بتجفيف منابع الإسلاميين، واستغل الإعلام العمومي بشكل فظيع في هذه الحملة، وخيم على البلاد شبح انقسام ونار فتنة كادت تقضي على بعض نقط القوة التي ما زالت تتوفر عليها. استغل الاستئصاليون الأجواء الدولية وتداعيات أحداث الحادي عشر من شتنبر والحرب على الإرهاب التي أعلنتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، فوسعوا دائرة مطالبهم لمراجعة المناهج التعليمية والتضييق على الحركة الإسلامية وغير ذلك من المطالب التي كان يستحيل أن يطالبوا بها قبل هذا الحدث. وظهر بعض أنصاف الباحثين الذين اجتهدوا لتحوير نقاش كان يفترض أن يكون مثمرا حول أسباب هذه الظاهرة والمتسببين فيها ونتائجها وسبل مواجهتها، وطغت على العديد من الدراسات خلفيات سياسوية بلبوس علمي.. ولذلك ما زلنا إلى حد الآن نفتقر إلى دراسات سوسيولوجية موضوعية يمكن أن تشكل أرضية خصبة لتسطير خطة عملية لإنقاذ البلاد من شبح الغلو والتشدد الغريب عنها وعن سكانها. وأعلن عن تدشين مشاريع اجتماعية وسكنية لفائدة المناطق المعنية لتطويق الأسباب المساعدة على انتشار التيارات المتشددة. وأطلق العنان للأجهزة الأمنية، ووظف القضاء بشكل سيئ في هذه المهزلة، وغيب العلماء والمثقفون.. وبذلك اختزل أمن البلاد في مقاربة بوليسية ضيقة. مرت اليوم سبع سنوات على اعتماد هذه التدابير، والنتيجة فشل فظيع في القضاء على أفكار الغلو، حيث تكررت التفجيرات الإجرامية، وتزايد عدد الخلايا المفككة، وارتفعت حدة الخوف من تكرار ما حصل في 16 ماي، وكل هذا يحيلنا على وجوب البحث عن مقاربة جديدة بإمكانها طي الملف نهائيا بأقل كلفة. وفي هذا الباب، هناك تجارب مماثلة في دول قريبة عانت، أكثر من المغرب، من عنف هذه التيارات المتشددة مثل مصر والسعودية واليمن وموريتانيا، وبعد طول معاناة اهتدت هذه الدول إلى اعتماد مقاربة تصالحية كانت نتائجها إيجابية بالنسبة إلى السلطة والمجتمع والأفراد. وحتى لا نسيء فهم المقصود بالمقاربة التصالحية، نؤكد أنها مقاربة مندمجة لا تغيب البعد الأمني وإنما تضعه في إطاره الحقيقي المضبوط باحترام القانون وحقوق الإنسان وعدم الإفراط في استعمال السلطة، ومقابل ذلك تركز على محاورة وإقناع أتباع هذه التيارات بعد تصنيفهم، لأن منهم من يمكن إقناعه بسهولة، ومنهم من سيظل مصرا على فهمه المتشدد دون أن يرفق ذلك بأعمال عنيفة، وقد تبقى قلة قليلة متمسكة بخياراتها العنيفة، تفكيرا وخطابا وممارسة، وهذه يمكن إخضاعها للقانون بسهولة. أما ما نعيشه اليوم فهو ظلم بكل المقاييس لأنه تعميم يضع كل المعتقلين في سلة واحدة. ولكي تنجح هذه المقاربة يجب فتح الباب أمام علماء ومثقفين ومفكرين ذوي مصداقية ونزاهة واستقلالية عن السلطة لمحاورة هؤلاء المعتقلين ومحاججتهم لأنهم حاملو أفكار، ولا يمكن مواجهة أفكار بقوة السلاح. لذلك لا يسع المرء إلا استنكار تصريح وزير الأوقاف الرافض للحوار مع هؤلاء المعتقلين بدعوى أن الحوار يتم مع الذي لا يعلم!! ترى ما هو دور العلماء، وهم ورثة الأنبياء، إن لم يبذلوا جهدا لإقناع هذا الشباب بأن الدعوة إلى الله عز وجل تقتضي التؤدة والحكمة والرحمة والمجادلة بالتي هي أحسن، وأن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وأن العنف ما كان في شيء إلا شانه، وأن التكفير مرض خبيث يقضي على تدين المكفِّر قبل المكفَّر. من يقوم بهذا الدور غيرهم؟ أرجو أن يطلع علماؤنا على مراجعات قيادات الجماعة الإسلامية في مصر ليعرفوا جدوى الحوار، وعليهم أن يعلموا بأن شرارة الفكر الجهادي انطلقت من هناك. لقد مرت سبع سنوات على أحداث 16 ماي، وما زال التحقيق بدون نتيجة، والمعلومات شحيحة، والتهديدات قائمة، والجهود المبذولة بدون نجاعة، وسمعة البلاد تضررت، فلماذا لا نجرب هذه المقاربة؟ أتأسف كثيرا على عدم التجاوب مع مبادرة «أنصفونا» التي أطلقها أبو حفص، والتي كان يمكن استثمارها لتحقيق انفراج في هذا الملف. لقد نصت المبادرة بوضوح على استنكارها للعمليات المسلحة في الدول الإسلامية وعلى رفض تكفير المسلمين، وأكدت على إسلامية المجتمع، وأعلنت القبول بالنظام الملكي، ونصت على تقدير كل العاملين في حقل الدعوة الإسلامية والدعوة إلى التواصل مع الفعاليات المدنية. ترى ماذا ينتظر مدبرو الملف بعد كل هذا؟ هل هي مصادفة أن يتزامن يوم عقد ندوة صحفية لتقديم المبادرة مع كشف محاولة فرار جماعي لبعض المعتقلين من هذا التيار في سجن القنيطرة؟ من يقف ضد حل هذا الملف؟ لقد سلم أزيد من 160 معتقلا رسائل إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، ضمنوها موقفهم من العنف والتكفير، دون رد إلى حد الآن. فما السبب في هذا التباطؤ؟ ومن يعرقل تحقيق انفراج حقيقي في هذا الملف؟ ومن صاحب المصلحة في الإبقاء على هذا الملف مفتوحا؟ ولماذا؟ صدقوني، أنا عاجز عن الإجابة بشكل دقيق. وحين يغيب هذا الجواب يفتح الباب للتحليل والاستنتاج. وللأسف فكلما استفرغت وسعي في هذا التحليل وصلت إلى نتائج غير سارة. نسأل الله أن تكون الذكرى القادمة أفضل حالا.