بمناسبة أعياد الاستقلال، العودة المظفرة لبطل التحرير يوم 16 نونبر سنة 1955، ويوم الانبعاث في 17 نونبر، ويوم الإعلان عن الاستقلال في 18 نونبر من السنة ذاتهاطلبت "المغربية" من المجاهد الغالي العراقي أن يدلي برأيه حول الموضوع، ووجهنا له السؤال التالي: "لماذا هذه العناية، التي تولونها لمثل هذه الأحداث، كلما حلت ذكرى من ذكريات الملاحم الوطنية ومعارك أبطال جيل التحرير؟"، فأمدنا بجواب مكتوب ندرجه بهذه المناسبة الجليلة. الواقع أنه عندما نذكر أو نخلد أعلامنا، ونؤمن أو نكرم روادنا وقادتنا وأهل الفضل في مسيرتنا، ونستحضر مناقبهم، ونستعرض أعمالهم، ونبرز نضالهم، فإنما نقتدي في ذلك بالسلف الصالح، ونحدو حدو النهج القرآني الكريم... فقد اشتمل في غير ما آية على التذكير بمسيرة أولياء الله الصالحين، الذين لا حوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين كانوا للمعروف سباقين، وعن المنكر ناهين. والعزة هنا من ذكرهم ليس من باب الثناء عليهم، لأن أهل الكفاح والجهاد لا يحتاجون إلى ثناء البشر، فالله تبارك وتعالى أثنى عليهم، وعلى صفاء طويتهم، وسمو أخلاقهم، وطهارة مبادئهم، من قوله تعالى: "من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا" صدق الله العظيم. إن الحاجة هنا ، من إحياء هذه المناسبات الوطنية والتذكير بهذه الملاحم التاريخية، والفائدة من استحضار مناقب هؤلاء الرواد الأفذاذ، تجعلنا نمتطي السبل الصالحة ونستمد القيم الراجحة، مما أنجزوا وقاموا به في حياتهم، التي تقدم لنا صورا مجسمة للمبادئ السامية، والأخلاق الوطنية، والبطولات المصيرية. لقد قيل، وسيقال الكثير، في حق فقيد الأمة والوطن جلالة الملك محمد الخامس تغمده الله برحمته الواسعة ما استحق عليه المجد في حياته، والتخليد بعد مماته... وما أعتقد أن أحدا منا يجادل في هذا الأمر... ففقيد الوطنية والفضيلة، سيدي محمد بن يوسف، لما التأم بالحركة الوطنية، وتلاحمت أفكاره بمبادئها التحريرية، وتماسكت تحركاته بوسائلها النضالية، تقدم عن عقيدة وإيمان المسار والمسيرة، حيث باتت له من الأعمال الصالحة ما يستحق به الخلود، وبرزت عنده من المناقب الصادقة ما يجعله قدوة لجيل، بل لأجيال، داخل المملكة وخارجها.. لأن إشعاع تضامنه وتلاحمه تعدى الحدود المقررة، فهو في مجال المسؤولية الوطنية بطل التحرير، وفي مسار التربية النضالية بطل التدبير، وفي مسلسل الحكمة السياسية بطل القرار وزعيم التقرير. لقد كان، رحمه الله، سواء من خلال ما سمعنا عن جلائل أخباره، أو من خلال ما لمسناه عن كثب من فضائل أعماله، من الرواد السباقين، والسياسيين المحنكين، والعاملين المتمكنين من الموجبات الوطنية، والمقومات النضالية، التي كان يتطلع لتوفيرها لدى المواطنين، حتى يحقق التكافؤ الضروري، في مواجهة الوضعية القائمة بالبلاد، حيث ركز، وسط حوارييه الأوفياء، وبصفة جريئة وصريحة، على أن يشمل مخططه، في أول بنوده، نشر التعليم والتربية، ومحاربة الجهل والأمية، وعيا منه بالمسؤولية الضخمة، التي آلت إليه منذ أن تولى سدة الملك.. فلم ينحن رحمه الله لعاصفة المشاكل المترادفة، ولم يلتجئ إلى التغطية على المعضلات والأمراض المزمنة التي تتخبط فيها البلاد وتتقل كاهل العباد، بل اختار مواجهة التحديات بمسلك الصراحة والوضوح مع الشعب، كسبيل ناجع لضمان التعبئة الوطنية، ومشاركة أوسع للفئات الشعبية، في طريق البحث عن الحلول الممكنة للأزمات المستفحلة.. مما جعله، رحمه الله، في جل خطبه التي ألقاها منتصف الأربعينيات، يصف وضعية التخلف القائمة بالبلاد بأنها "مخجلة"، ويرد السبب إلى الجهل والأمية، قبل أن يدعو إلى ضرورة نشر العلم، الذي كان يثيره في أغلب خطبه، ويستحث عليه الشعب بكامله. إن التعليم، كما صاغه محمد الخامس، وسط النخبة العاملة بجانبه، سيشكل سلاح المغاربة الأمضى، به يتكون الشباب، وتتأهل الأطر، وتتقوى الوطنية، وتتنمى الاستعدادات البشرية، وتتكرس قيم العطاء والتضحية، وتنفتح فيه سبل التقدم والرقي والشفافية، لتتبوأ البلاد مكانتها بين الأمم، في عصر لا يرحم الضعفاء ولا يهادن الجهلاء. لقد كان الهدف الملكي، من التركيز على النهوض بقطاع التعليم خاصة، وباقي القطاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عامة، يتمثل في إعداد الشعب المغربي ليوم المواجهة، وليكون أفراده وجماعاته مؤهلين لربح المعركة الفاصلة.. وفي سبيل تحقيق هذا التأهيل، كان محمد الخامس يدعو إلى مشاريعه الإصلاحية، التي شملت كل مناحي الحياة العامة، الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والدينية والأخلاقية، والتي كان يتدرج فيها من الليونة والمرونة، إلى المطالبة الصريحة والجريئة، لتبدأ في التبلور، بصفة حاسمة، منذ خطاب طنجة التاريخي ليوم 10 أبريل 1947، الذي شدد فيه على أنه "إذا كان ضياع الحق في سكوت أهله عنه، فما ضاع حق من ورائه طالب، إن حق الأمة المغربية لا يضيع ولن يضيع، فنحن بعون الله وفضله، على حفظ كيان البلاد ساهرون، ولضمان مستقبلها الزاهر المجيد عاملون، ولتحقيق تلك الأمنية التي تنعش قلب كل مغربي سائرون".