شهد اللقاء مداخلة للباحث جمال حيمر، وهو أستاذ بشعبة التاريخ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، أثنى فيها على المؤلف الذي اعتبره مصنفا ثمينا، وأسهب في الحديث عن قيمته العلمية والمعرفية والتاريخية، مؤكدا أن الكاتب حاول من خلال هذا المؤلف تقريب المعرفة التاريخية للناشئة والأجيال الصاعدة لكي تعرف تاريخ الكفاح الوطني ضد المستعمر. وقدم حيمر، أيضا، مختلف فصول الكتاب، ووقف عند كل فصل بالعرض والتحليل. واعتبر محمد جاي منصوري، مدير الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة مكناس تافيلالت، أن الأستاذ المريني ليس مجرد مؤرخ عاد لتاريخ المغرب المعاصر، وإنما يعتبر شاهد عيان على حقبة حاسمة من هذا التاريخ، ومجايلا ومعايشا لأهم المخاضات التي عاشها المغاربة ملكا وشعبا، مضيفا أنه يمثل "نقطة ضوء مشرقة" في سماء الفكر، باعتبار إنتاجاته وإبداعاته المتنوعة المواضيع، ومواكبته بشكل منتظم لمستجدات الساحة الفكرية وطنيا ودوليا. وأبرز الكاتب عبد الحق المريني، في كلمة بالمناسبة، أن هذا المؤلف يروم توجيه الأجيال الصاعدة وتقريبها من بعض المحطات البارزة من تاريخ المغرب لتعرف أن استقلال المغرب سبقته نضالات العرش والشعب . واستحضر المريني، خلال اللقاء، الدور الأساسي والمحوري لجلالة المغفور له محمد الخامس في تاريخ المغرب المعاصر، مشيرا إلى أن الملك الراحل وقف سدا منيعا أمام محاولات الاستعماريين سلب المغرب كل ما تبقى له من مظاهر سيادته، وكان الأمين الأوفى على حقوق شعبه، وتعلق بحب الكفاح والنضال والاستشهاد في سبيل العقيدة الراسخة لتحرير الوطن. وفي ما يلي نص مداخلة الأستاذ عبد الحق المريني، مؤرخ المملكة ومؤلف كتاب "محطات في تاريخ المغرب المعاصر": التاريخ يعيد نفسه في قضية الملك الراحل 'محمد الخامس' قضى محمد الخامس رحمة الله عليه حياته كلها ملكا على عرش قلوب المغاربة، وقف أول ما وقف في عهد «الحماية الفرنسية» سدا منيعا أمام محاولات الاستعماريين لسلب المغرب كل ما تبقى له من مظاهر سيادته، وكان الأمين الأوفى على حقوق شعبه، فلم يقبل المساومة على حريته وأمنه واستقراره، وقال كلمته المشهورة في خطاب العرش للعيد الوطني 1952م، أي سنة قبل محنة المنفى: «إن نظام الحماية كقميص وضع لطفل صغير، فكبر الطفل ولم يتغير القميص، وبذلك أصبح غير صالح لأن يلبسه هذا الرجل الراشد». وقال قبلها في خطابه الشهير بطنجة في شهر أبريل من سنة 1947 ميلادية: «إذا كان ضياع الحق في سكوت أهله عنه فما ضاع حق من ورائه طالب، إن حق الأمة المغربية لا يضيع ولن يضيع».! وعلى إثر «انفجار هذه الشرارة»، قام المغرب ملكا وشعبا يناشد مطلبا ليس له في غيره أرب بعزيمة لا تمنعها قوة، وإيمان لا يحصره أفق، وطموح لا تحده غاية. وبدأت مؤامرة الاعتداء على العرش المغربي والجالس على أريكته تهيئ في الخفاء. واعتبر محمد بن يوسف في نظر جهابذة الاستعمار «رجلا خطيرا»، ذلك أن المقيم العام الفرنسي "Gabriel Puaux"، كتب بخط يده وثيقة وضع عليها كلمة «سري جدا» يقول فيها: «إن وثيقة المطالبة بالاستقلال التي قدمت في 11 يناير سنة 1944 ميلادية، كانت من وحي السلطان محمد بن يوسف، وبإيعاز منه، إن السلطان محمد بن يوسف رجل خطير "Homme Dangereux"، وبالفعل كان رجلا خطيرا بالنسبة للإقامة العامة الفرنسية وللوجود الفرنسي بالمغرب. فلم تأخذه في الله لومة لائم، وبعث رسولا إلى ممثل الوجود الفرنسي بالمغرب وهو الفقيه المرحوم الحاج محمد المعمري الذي كان يقوم بدور الترجمة بين القصر الملكي والإقامة العامة لينقل إليه بالحرف بأنه هو الذي وافق على أن يرفع الوطنيون عريضة المطالبة بالاستقلال إلى الدوائر العليا الفرنسية، بناء على ما جرى في محادثات آنفا التاريخية بين جلالته والرئيس الأمريكي روزفلت، والوزير الأول البريطاني تشرشل (سنة 1943). فتأزم الوضع بين القصر والإقامة العامة وجاء المقيم العام الجنرال «كابرييل بو» عند محمد الخامس يتهدده ويتوعده وسأله: «هل أنت مع فرنسا أم ضدها؟»، فأجابه جلالته بهدوء واطمئنان وذكاء: «أنا لست ضد فرنسا كما تعرف ذلك ولكنني مع حرية شعبي واستقلال بلادي»!. وتحدى جلالته الاستعمار الفرنسي الإسباني والدولي لبلاده وعارض تقسيم بلاده إلى مناطق تحكمت فيها سلطات الغزو الأجنبي مدة من الزمن، وضحى بدماء المغاربة إلى جانب الحلفاء في حربهم العالمية ضد النازية من أجل تحرير بلاده، وفتح باب درب الاستقلال أمامها، وقاوم التفرقة العقائدية والعنصرية والاجتماعية في صفوف المغاربة، التي كان يرمي إليها رجال الإقامة العامة الفرنسية من وراء إصدار الظهير المدعو «البربري» سنة 1930 ميلادية، وصارع المقيمين العامين صراع المستميتين الصابرين، حتى نفي جلالته من وطنه يوم 20 غشت 1953 ميلادية، إلى جزيرة كورسيكا ثم إلى مدغشقر بعد أن رفض التنازل عن العرش قائلا: «لمختطفيه» وعلى رأسهم الجنرالان: جوان مدير المؤامرة وكيوم منفذها: «إنني ملك البلاد الشرعي ولن أخون الأمانة التي أناطها بي شعبي، وفرنسا قوية فلتفعل ما تشاء»، وقرأ في نفسه قوله تعالى «ربي السجن أحب إلي مما يدعونني إليه. ووضع مدبرو المؤامرة الخسيسة والشنيعة على المغرب دميتهم على العرش المغربي، معتقدين بأن الستار سيسدل نهائيا على «مسرحيتهم» السافلة. ولكن جرت رياح الجهاد بما لا تشتهي سفن الماكرين المحتالين، والضالين المضلين، فتشبث المغرب بأذيال الصبر على مكاره المؤامرة الدنيئة المدبرة ضد العرش والشعب، وتعلق بحب الكفاح والنضال، والاستشهاد في سبيل العقيدة الراسخة لتحرير الوطن وعودة المجاهد المناضل، حامل مشعل الجهاد والفداء إلى عرشه ووطنه، وقد ألهم الله الملك المكافح الثبات والمصابرة في منفاه السحيق، واستهان بالصعاب والشدائد، وتحمل مشقة البعد عن الوطن والأحباب، ووحشة العزلة وقساوة الغربة، واعتصم بقداسة الرسالة الملقاة على عاتقه لتحقيق ما تصبو إليه بلاده من عزة وتحرير ووحدة. وما أن مرت سنتان على نفي محمد الخامس قدس الله روحه وعلى جهاد الشعب المغربي في سبيل الحرية والكرامة، حتى انصدع الظلام ورجع كيد المعتدين في نحورهم، وانهارت «دميتهم»، واختفت «صنائعهم»، وتحطمت «أبراجهم»، وتبخرت أحلامهم. وكانت عودة قائد الجهاد و«النسر الأبيض» إلى عرشه وشعبه وعشيرته وعترته، وأنشد له الشعب المغربي الكريم نشيد الذكرى: «وحقك أنت المنى والطلب». فرد محمد الخامس التحية بأحسن منها قائلا: «أيها الشعب الوفي قد أخلصت الوفاء كما أخلصت وأديت الواجب كما أديت. وها أنذا بينكم كما تعهدوننا: حب البلاد رائدنا وخدمتها غايتنا». فكانت العودة من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، وكانت عودة ظافرة من ملحمة بطولية قادها ملك في نصرته كانت نصرة الشعب المغربي، وفي عظمته كانت عظمة البلاد المغربية. إذا أمعنا النظر في مراحل الملحمة المحمدية الخالدة ( التي أتينا على ذكرها سابقا )، نلاحظ أن التاريخ يعيد نفسه في كثير من فصولها، ذلك أنه، إذا تصفحنا تاريخ الأندلس نجد تشابها كبيرا (أيضا) بين «محمد الخامس» ملك غرناطة و«محمد الخامس» ملك المغرب، في مراحل عديدة من تاريخهما الوطني. وقد تعرض لهذا التشابه السيد محمد بن عودة في مقال له صدر بمجلة «الأنوار» التطوانية بتاريخ نونبر من سنة 1953 ميلادية، أي بعد ثلاثة أشهر من نفي محمد الخامس وأسرته الكريمة إلى منفاه السحيق (يقول السيد محمد ابن عودة «بتصرف واختصار»): يعرف هذا الملك الأندلسي في كتب التاريخ الإسلامي بمحمد بن أبي الحجاج يوسف (شابه من جانب النسب سلطان المغرب محمد بن يوسف)، وكانت أيامه أحسن أيام دولة بني نصر. ففي عهده بني مرشان غرناطة، وجامع الحمراء، ومعظم ما في قصر الحمراء، الذي كان آية في الروعة والجلال، وكان عصره عصر يمن وبركة وأمن وأمان إلى أن لعب شيطان التآمر بعقول إخوته فتآمروا على خلعه والبطش به، إلا أنه فر في آخر الأمر من حضرة غرناطة وولوا مكانه أخاه من أبيه المعروف بإسماعيل الثاني. وقد لحق «محمد الخامس» الملك الغرناطي بفاس، واستنجد بملكها «أبو سالم المريني» لاسترجاع عرشه، فوعده بإعانته بجيش مغربي، إلا أنه لما كان «محمد الخامس» في طريقه إلى غرناطة لمحاربة الملك «الدخيل» اغتيل الملك المريني، وتلقى الجيش المغربي أمرا بالرجوع إلى المغرب، وبقي الملك الأندلسي وحيدا بمدينة «روندة» لا حول له ولا قوة. وفي هذا الظرف بالذات قام محمد بن إسماعيل بالاستيلاء على عرش الملك إسماعيل الثاني وقتله شر قتلة. وبعد مضي بعض الشهور ضاق الغرناطيون بأعمال الإرهاب والعسف والتعذيب التي كان يمارسها الملك المتآمر. وكان الملك «محمد الخامس» الغرناطي قد حاول استرداد عرشه قبل تدبير المؤامرة الثانية، ومد يده إلى ملك قشتالة، وتحالفا على رد الحق المغصوب، إلا أن حليفه اغتنم هذه الفرصة لينتقم من رعاياه فرجع «الملك الشرعي» عن محاصرة غرناطة، وتنازل عن حقه إلى فرصة مواتية لا تهرق فيها دماء المسلمين. ولما سنحت الفرصة الذهبية والتف حول «الملك الشرعي» رعاياه الذين لم ينكثوا عهده، وحافظوا على الذمة زحف بجيوشه على مدينة غرناطة التي خرج منها الملك المذكور «محمد بن إسماعيل» (محمد السادس) هاربا إلى إشبيلية مع الذين فرضوه على الشعب الغرناطي وتشبثوا بأذياله الواهية. ودخل «محمد الخامس» غرناطة ظافرا، عائدا إلى ملكه الذي غاب عنه سنتين (كما غاب عنه محمد الخامس المغربي سنتين أيضا قبل عودته منصورا إلى عاصمة مملكته). وكان استقبال محمد الخامس الأندلسي بغرناطة (كما كان استقبال محمد الخامس المغربي بالرباط)، استقبالا لم يشهد له تاريخ العاصمتين الإسلاميتين مثيلا. وإذا عدنا إلي سيرة الجنرال شارل دكول رجل «فرنسا الحرة» وما بالعهد من قدم نلاحظ تشابها أيضا بين مقاوم يوم (18 يونيو 1940 ميلادية)، ومقاوم يوم (20 غشت 1953 ميلادية)، فكلاهما قاوم استعمار بلادهما الغاشم العاتي بكل ما لديهما من دهاء، وقوة وعقل، وتبصر وإخلاص، وعمل صادق وتمسك بالوفاء والعهد. فمواقف الجنرال دكول من النازية معروفة كنار على علم ومكتوبة في ثنايا قلوب الأحرار في كل مكان، وقد سار محمد الخامس رحمه الله على نفس الخطة، فكان بجانب «فرنسا الحرة»، ورفض تطبيق قوانين «حكومة فيشي» على اليهود المغاربة لمواطنتهم المغربية، ورحب بإنزال جيوش الحلفاء بشواطئ المغرب في نونبر 1942 ميلادية، وعارض الجنرال نوكيس المقيم العام الفرنسي بالمغرب في رفضه لهذا الإنزال. ولم ينس الجنرال دوكول هذا الموقف النبيل إزاء «فرنسا الحرة»، كما بارك مشاركة الجيوش المغربية الفعالة في مقاومتها للجيوش الألمانية بالجبال الإيطالية، وبنواحي الألزاس لورين الفرنسية، وبالبلاد الألمانية نفسها. وقام الجنرال دوكول بزيارة للمغرب ولجلالة الملك محمد الخامس في شهر غشت من سنة 1943 ميلادية. ولما تلاقى الرجلان اكتشف الجنرال دكول عن قرب عظمة شخصية الملك المغربي، وتشبثه بتحرير بلاده بالدرجة التي كان الجنرال الفرنسي متشبثا بها أيضا أمام الاحتلال النازي لبلاده. وغادر الجنرال دكول المغرب مؤمنا إيمانا راسخا بأن محمد الخامس ليس رجل «الحماية الفرنسية» بل هو رجل «الاستقلال والحرية»، كما كان دوكول رجل «فرنسا الحرة» لا فرنسا القابعة تحت السيطرة الألمانية الجاثمة على صدرها. ولم تكد الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها حتى كان أول زائر لفرنسا المحررة هو الملك محمد الخامس في شهر يونيه من سنة 1945 ميلادية. فاستقبله الجنرال دوكول استقبال الأبطال، وقلد ضيفه الكبير «وسام الحرية» ولقبه «برفيق التحرير» (Compagnon de Libération) تقديرا لمواقفه الشجاعة النبيلة من أجل المساهمة في تحرير البلدان الأوروبية، وبالتالي تحرير بلاده، ولمرافقته له شخصيا في درب النضال والتحرر من السيطرة الأجنبية العاتية. ويشاء الله بعد هذه الملاحم، أن يحرز المغرب على حريته واستقلاله، ويكون محمد الخامس الرجل المجاهد، والبطل المناضل، الذي أعلن للشعب المغربي انتهاء عهد الحجر والحماية، وبزوغ فجر الاستقلال والحرية، ويكون بطل هذا الاستقلال وصانع فصوله وقائد مسيرته. ويقتضي قضاؤه أيضا الذي لا مرد له أن يلتحق «محرر البلاد» محمد الخامس في خضم الجهاد الأكبر بعد 6 سنوات ونيف من عودته الظافرة بالرفيق الأعلى، نور الله ضريحه وأحسن مثواه، وجازاه عنا خير الجزاء. إن محمد الخامس لم يمت لأنه لم يعش حياته لنفسه متمتعا بملكه، ولكنه عاش لكل مغربي وللمغرب وللعروبة وللإسلام. لقد ترك فينا رحمه الله، ولي عهده وشريكه في المنفى ورفيقه في الكفاح والنضال «موحد البلاد وباني الاستقلال ومحرر الصحراء» صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه. وقد تابع حفيد محمد الخامس جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، أداء الرسالة العظمى في تنمية البلاد ورقيها ونهضتها، وولى عناية خاصة بإرساء دعائم دولة الحق والقانون، وتنمية بلاده تنمية بشرية مستديمة، ووضع المغرب الجديد على درب الحداثة والنماء. أعانه الله وسدد خطاه وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتذكرون. وإن الذكرى تنفع المومنين المتشبثين بشعارهم الخالد: الله الوطن الملك.