يخلد الشعب المغربي، وفي طليعته أسرة المقاومة وجيش التحرير وساكنة إقليمخنيفرة، بعد غد الأربعاء، الذكرى 99 لمعركة الهري التي تعتبر محطة حاسمة في مسار مواجهة التوسع الاستعماري ومن أروع صور الكفاح والاستماتة والتلاحم التي خاضها المغاربة في مواجهة حملات توسع الجيوش الفرنسية لبسط سيطرتها على منطقة الأطلس المتوسط سنة 1914. وقد مثلت هذه المعركة محطة مضيئة في سجل التاريخ الوطني، تتغذى بمثلها الأجيال المغربية لمواجهة كل التحديات والذود عن مقدسات الوطن، كما جسدت بجلاء مدى صمود الشعب المغربي ضد الاحتلال إثر فرض معاهدة الحماية سنة 1912 والتصدي لمخططاته. وجاء في بلاغ للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير أنه بعدما تم احتلال ما كان يسمى في نظر "ليوطي" بÜ"المغرب النافع" - السهول والهضاب والمدن الرئيسية -، وبعدما تمكن الجيش الفرنسي من ربط المغرب الشرقي بالجناح الغربي من الوطن عبر تازة في شهر مايو 1914، توجهت أنظار الإدارة الاستعمارية نحو منطقة الأطلس المتوسط. وبالضبط إلى مدينة خنيفرة لتطويقها وكسر شوكة مقاومتها، في أفق فتح الطريق بين الشمال والجنوب عبر هذه القلعة الصامدة والتي شكلت إحدى المناطق التي اتخذها المقاومون مركزا للكفاح ضد المستعمر. وقد تأكدت هذه الخطورة، يضيف البلاغ، من خلال التصريح الذي أدلى به المقيم العام "ليوطي" حيث قال يوم 2 مايو 1914 "إن بلاد زيان تصلح كسند لكل العصاة بالمغرب الأوسط، وإن هذه المجموعة الهامة في منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة، تكون خطرا فعليا على وجودنا، فالعصاة المتمردون والقراصنة مطمئنون لوجود ملجأ وعتاد وموارد وقربها من الجيش ومناطق الاحتلال جعل منها تهديدا دائما لمواقعنا، فكان من الواجب أن يكون هدف سياستنا، هو إبعاد كل الزيانيين بالضفة اليمنى لأم الربيع". وفي حمأة هذه الظروف العصيبة، انطلقت أولى العمليات العسكرية وأنيطت مهمة القيادة بالجنرال "هنريس" الذي اعتمد في سياسته على أسلوب الإغراء، حيث حاول التقرب إلى زعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، الذي كان يرد بالرفض والتصعيد في مقاومته، حينئذ تبين للفرنسيين أن مسألة زيان لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق الحرب. وبالفعل فقد بدأت سلسلة من الهجومات على المنطقة، وترك "ليوطي" للجنرال "هنريس" كامل الصلاحية واختيار الوقت المناسب لتنفيذ العملية. وقد نجحت القوات الاستعمارية في احتلال مدينة خنيفرة بعد مواجهات عنيفة، إلا أن الانتصار الذي حققه الفرنسيون لم يمكنهم من إخضاع موحى وحمو الزياني، الذي عمد إلى تغيير استراتيجية مقاومته، وإخلاء المدينةالمحتلة هروبا من الاستسلام والخضوع، للاعتصام بالجبال المحيطة بخنيفرة وبالضبط بقرية الهري قرب نهر اشبوكة، وفي انتظار أن تتغير المعطيات خاصة وأن أجواء الحرب العالمية الأولى أصبحت تخيم على أوروبا. وفي هذه الظروف والملابسات، تلقى المقيم العام "ليوطي" برقية من الحكومة الفرنسية جاء فيها "ينبغي في حالة الحرب أن تبذلوا جهودكم للاحتفاظ في المغرب بحد من القوات لا يمكن الاستغناء عنها، إن مصير المغرب يتقرر في اللورين، وينبغي أن يقتصر احتلال المغرب على موانئ الشواطئ الرئيسية إذا كان ممكنا على خط المواصلات خنيفرة، مكناس، فاس، وجدة". وما أن ذاع خبر وصول موحى وحمو الزياني إلى قرية الهري حتى سارعت القيادة الفرنسية إلى تدبير خطة الهجوم المباغت على المجاهدين، غير آبهة بالأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء، وفي هذا الوقت قرر الكولونيل "لافيردير" القيام بهجوم على معسكر الزياني وكان ذلك ليلة 13 نونبر 1914. لقد تم الإعداد لهذا الهجوم بكل الوسائل الحربية المتطورة وحشد عدد كبير من الجنود. وفي هذا السياق، يشير الأستاذ محمد المعزوزي إلى قيام المحتل الأجنبي بتنفيذ خطته يوم 12 نونبر حيث تحرك بأربع فرق تضم 1300 جنديا، معززة بالمدفعية. وتوجه إلى معسكر الهري حيث قام بهجوم مباغت على الدواوير ومكان المجاهدين. لقد كان الهجوم على معسكر الزياني عنيفا، حيث بدأ في الساعة الثالثة صباحا وتم تطويق المعسكر من أربع جهات في آن واحد، ليبدأ القصف شاملا، حيث قذفت الخيام المنتصبة التي تضم الأبرياء، وقام الجنود بأمر من "لافيردير" بمهاجمة القبائل المحيطة بالقرية، فيما استغل البعض الآخر الفرصة لجمع القطيع الموجود من الأغنام والأبقار واختطاف النساء توهما بالنصر. هذا في الوقت الذي كان فيه حشد آخر يقصد الجبل لتمشيطه من المقاومة، وبذلك تحولت منطقة الهري إلى جحيم من النيران، وسمعت أصوات الانفجارات في كل المناطق المجاورة، وظن قائد الحملة العسكرية على الهري أن النصر صار حليفهم، وأنه وضع حدا لمقاومة الزياني. غير أنه أصيب بخيبة أمل حينما فوجئ برد فعل عنيف من طرف المقاومين ليدرك أنه ألقى بنفسه وبقوته في دوامة لا سبيل للخروج منها. وبالفعل فقد كان رد المقاومة عنيفا وأشد بأسا حيث زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية من اشقيرن، آيت اسحاق، تسكارت، أيت احند، ايت يحيى، آيت نوح، آيت بومزوغ، آيت خويا، آيت شارط آيت بويشي، وتم استعمال كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وفؤوس، وقد تحمست جل هذه القبائل لمواجهة المحتل للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، وأبانت عن روح قتالية عالية، ومما زاد من دهشة القيادة الفرنسية، الحضور المكثف والسريع للقبائل رغم المسافات التي تفصل بينها. لقد كانت أرض الهري من أكبر المقابر العارية لقوات الاحتلال، حيث قدرت خسائر القوات الفرنسية ب33 قتيلا من الضباط، و580 قتيلا من الجنود، و176 جريحا، وغنم المقاومون 3 مدافع كبيرة و10 مدافع رشاشة وعددا كبيرا من البنادق، كما قام موحى وحمو الزياني في 16 نونبر 1914 أي بعد مرور ثلاثة أيام على معركة الهري بتصديه بفرقة مكونة من 3000 مجاهد لزحف العقيد "دوكليسيس" الذي كان قادما من تادلة لإغاثة ما تبقى من المقيمين بخنيفرة، وكبده المجاهدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. لقد شكلت هزيمة الهري نقطة سوداء في تاريخ الاستعمار الفرنسي لشمال إفريقيا، في حين تركت بصمات مشرقة في تاريخ المغرب المعاصر. وفي هذا الصدد، كتب الجنرال "كيوم" أحد الضباط الفرنسيين الذين شاركوا في الحملة على الأطلس المتوسط في مؤلفه "البربر المغاربة وتهدئة الأطلس المتوسط 1912 - 1933" يقول "لم تمن قواتنا قط في شمال إفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة". وأكدت المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير أنها وهي تستحضر أرواح شهداء معركة الهري المباركة بإقليمخنيفرة، وتشارك هذا الإقليم المجاهد إحياء هذا المجد التاريخي بكل ما تستلزمه من إجلال وإكبار، لتنوه بالصفحات الوضاءة التي خطها وصاغها وصنعها أبناء القبائل الزيانية الذين يحق الافتخار بما قدموه للوطن وما أسدوه من أعمال خالدة سيظل التاريخ يحفظها وتتناقلها ذاكرة المغاربة قاطبة، تتغذى بمثلها ومغازيها بهدف مواصلة التحلي بالروح الوطنية الأصيلة، وكسب حصانة دائمة لمواجهة كل التحديات والذود عن مقدسات الوطن وثوابته.