تشكل معركة الهري٬ التي يخلد الشعب المغربي٬ اليوم الثلاثاء٬ ذكراها 98، محطة بارزة في سجل المقاومة الوطنية، وصفحة وضاءة من ملامح الكفاح الوطني ضد الاحتلال الأجنبي. وتجسد هذه الذكرى المجيدة أروع صور الكفاح والاستماتة والملاحم التي خاضها المغاربة في مواجهة حملات توسع الجيوش الفرنسية لبسط سيطرتها على منطقة الأطلس المتوسط سنة 1914، إذ أبانت هذه الملحمة بجلاء عن مدى صمود الشعب المغربي ضد الاحتلال الأجنبي على إثر فرض معاهدة الحماية سنة 1912، والتصدي لمخططاته. واسترجاعا لفصول هذه المعركة التاريخية٬ يسجل أنه بعدما جرى احتلال ما كان يسمى في نظر الاستعمار ب"المغرب النافع"٬ السهول والهضاب والمدن الرئيسية٬ وبعدما تمكن الجيش الفرنسي من ربط المغرب الشرقي بنظيره عبر تازة في مايو 1914، توجهت أنظار الإدارة الاستعمارية نحو منطقة الأطلس المتوسط٬ وبالضبط إلى مدينة خنيفرة لتطويقها وكسر شوكة مقاومتها٬ في أفق فتح الطريق بين الشمال والجنوب عبر هذه القلعة الصامدة التي شكلت إحدى المناطق التي اتخذها المقاومون مركزا للكفاح ضد الاستعمار. وفي حمأة هذه الظرفية التاريخية٬ انطلقت أولى العمليات العسكرية٬ وأنيطت مهمة القيادة بالجنرال هنريس٬ الذي اعتمد في سياسته أسلوب الإغراء٬ حيث حاول التقرب إلى زعيم المقاومة موحى وحمو الزياني٬ الذي كان يرد بالرفض والتعنت والتصعيد في مقاومته٬ حينئذ تبين للفرنسيين أن مسألة زيان لا يمكن الحسم فيها إلا عن طريق الخيار العسكري. وبالفعل بدأت سلسلة من الهجومات على المنطقة٬ وترك ليوطي للجنرال هنريس كامل الصلاحية، واختيار الوقت المناسب لتنفيذ العملية. ونجحت القوات الاستعمارية في احتلال مدينة خنيفرة٬ بعد مواجهات عنيفة، إلا أن الانتصار الذي حققه الفرنسيون لم يمكنهم من إخضاع موحى وحمو الزياني، الذي عمد إلى تغيير استراتيجية مقاومته٬ وإخلاء المدينةالمحتلة هروبا من الاستسلام والخضوع، للاعتصام بالجبال المحيطة بخنيفرة، وبالضبط بقرية الهري قرب نهر اشبوكة، في انتظار أن تتغير المعطيات، خاصة أن أجواء الحرب العالمية الأولى أصبحت تخيم على أوروبا. وما إن ذاع خبر وصول موحى وحمو الزياني إلى قرية الهري، حتى سارعت القيادة الفرنسية إلى تدبير خطة الهجوم المباغث على المجاهدين٬ غير آبهة بالأهالي الأبرياء من أطفال وشيوخ ونساء. وفي هذا الوقت٬ قرر الكولونيل لافيردير، القيام بهجوم على معسكر الزياني٬ وكان ذلك ليلة 13 نونبر 1914. وجرى الإعداد لهذا الهجوم بكل الوسائل الحربية المتطورة، وحشد عدد كبير من الجنود. وتحولت منطقة الهري إلى جحيم من النيران٬ وسمعت أصوات الانفجارات في كل المناطق المجاورة٬ وظن قائد الحملة العسكرية على الهري أن النصر صار حليفهم٬ وأنه وضع حدا لمقاومة الزياني٬ غير أنه أصيب بخيبة أمل حينما فوجئ برد فعل عنيف من طرف المقاومين، ليدرك أنه ألقى بنفسه وبقوته في مجزرة رهيبة، ودوامة لا سبيل للخروج منها. وبالفعل٬ كان رد المقاومة عنيفا وأشد بأسا، حيث زاد عدد المقاومين بعد انضمام سائر القبائل الزيانية من اشقيرن٬ آيت إسحاق٬ تسكارت٬ آيت احند٬ آيت يحيى٬ آيت نوح٬ آيت بومزوغ٬ آيت خويا٬ آيت شارط وآيت بويشي٬ وتم استعمال كل وسائل القتال، من بنادق وخناجر وفؤوس٬ وتحمست جل هذه القبائل لمواجهة العدو للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني٬ وأبانت عن روح قتالية عالية. وقام موحى وحمو الزياني في 16 نونبر1914، أي بعد مرور ثلاثة أيام على معركة الهري٬ بالتصدي بفرقة مكونة من 3000 مجاهد لزحف العقيد دوكليسيس الذي كان قادما من تادلة لإغاثة ما تبقى من المقيمين بخنيفرة٬ وكبده المجاهدون خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. وشكلت هزيمة الهري نقطة سوداء في تاريخ الاستعمار الفرنسي لشمال إفريقيا٬ في حين تركت بصمات مشرقة في تاريخ المغرب المعاصر. وستبقى معركة الهري٬ على غرار باقي المعارك الأخرى٬ من الصفحات الوضاءة التي خطها وصاغها وصنعها أبناء القبائل الزيانية٬ الذين يحق الفخر بما قدموه للوطن وما أسدوه من أعمال خالدة٬ سيظل التاريخ يحفظها وتتناقلها ذاكرة المغاربة قاطبة٬ تتغذى بمثلها ومغازيها٬ بهدف مواصلة التحلي بالروح الوطنية الأصيلة٬ وكسب حصانة دائمة لمواجهة كل التحديات، والانغمار بمسؤولية في مسار الإصلاحات الدستورية والسياسية والديمقراطية التي يقودها ويرعاها جلالة الملك محمد السادس نصره الله.