يلاحظ، مرة أخرى هذه السنة، بمناسبة عيد العرش، أن ثقافة التضامن الاجتماعي تعززت بشكل كبير في بلادنا بمختلف أشكالها وتجلياتها. إنها نزعة وتوجه ذو دلالة كبرى صار يتأكد سنة تلو الأخرى بشكل مهيكل ومنهجي، منذ تولي صاحب الجلالة الملك محمد السادس الحكم. إننا أمام ثقافة قائمة بذاتها، فلم يعد الأمر يتعلق بمبادرات اجتماعية متفرقة وعشوائية، ذات طبيعة خيرية، تقليدية وعفوية، منتشرة على طول التراب الوطني، والتي يكون الهدف منها، على العموم، تقرب المتبرع من الله، ما يعتبر في حد ذاته هدفا روحيا مشروعا، ولكن صرنا اليوم، وبالفعل، أمام ثقافة متينة تدعو بصفة شبه دائمة إلى تحليل دقيق للحاجيات وإلى التخطيط الترابي، وتحديد الاستراتيجيات، وأخيرا، تحديد الساكنة المستهدفة. فالأمر بات يتعلق إذن بهندسة حقيقية. فكما توجد هندسة تمكن من بناء القناطر والطرق، توجد هندسة أخرى، هي مدار حديثنا هنا، تسمح ببناء مبادرات اجتماعية عقلانية وناجعة. وعلاوة على العمل الجبار الذي يجري اليوم في المملكة والذي تتكلف به في الغالب وبشكل مهني جدا وصارم جدا مؤسسة محمد الخامس للتضامن، والأطر العاملين بها (3,94 مليار درهم من الإنجازات والالتزامات منذ إحداث المؤسسة سنة 1999)، تبقى هناك مبادرتان رئيسيتان ومهيكلتان تعتبران من الأوراش السيادية، واللتان أحدثتا ثورة في المشهد الاجتماعي الوطني خلال السنوات الأخيرة : المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ونظام المساعدة الطبية "راميد". هناك مشروعان يكتسبان زخما وقوة سنة بعد أخرى، أحيانا بصعوبة وأحيانا أخرى بنوع من النقص، ولكن دائما بعزم والتزام، مما يرفع من هذه الثقافة التضامنية إلى مستويات لا تضاهى من حيث الأداء الجيد والكفاءة والفعالية. لقد شكل إطلاق صاحب الجلالة الملك محمد السادس يوم 18 ماي 2005 للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية تأكيد على رؤية شمولية تندرج في إطار حركة واسعة ضد الإقصاء والتهميش والفقر وتستهدف على وجه التحديد الأحياء الصفيحية والفقيرة في المناطق الحضرية وشبه الحضرية فضلا عن العديد من الجماعات في العالم القروي التي تعاني من نقص في الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل الصحة والتعليم والماء والكهرباء والبنيات التحتية الثقافية إلخ (...). وخلال شهر يونيو من السنة الجارية ترأس جلالة الملك اجتماعا ميدانيا هاما بمدينة جرادة خصص للتقييم المرحلي للشطر الثاني للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ انطلاقه في يونيو 2011 مما مكن من تحديد الأعمال الرئيسية التي تم تنفيذها برسم برنامج التأهيل الترابي الذي يهم 587 جماعة قروية تابعة ل22 إقليما. هذا في ما يتعلق بتذكير لفلسفة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وللحصيلة المرحلية. ولكن ما يهمنا أكثر في تحليل هذه الثقافة التضامنية التي تتميز بها بلادنا يتمثل في أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كانت رافعة حقيقية لتحفيز الوعي الجماعي في هذا المجال. كان ينظر إليها في البداية، بشكل خاطئ، كمبادرة بيروقراطية لم يتم تقديمها إلى المواطن بشكل واضح مع استعمال مصطلحات مملة ومتكررة فضلا عن تسجيل بعض الإخفاقات التي يمكن وصفها بأخطاء الشباب. لكن السكان ما لبثوا، في نهاية المطاف، أن أدركوا بشكل سريع أهمية هذه المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مفهوم يصعب فهمه بعد أن أدركوا بحدسهم الأهمية التي يمكن أن تكون لهذه لمبادرة بالنسبة لهم. إذاك انفجرت الطاقات وتم إحداث ألف مشروع مع ظهور الآلاف من الجمعيات. كما نظمت المئات من التعاونيات نفسها حول أنشطة مدرة للدخل. يمكننا القول على وجه اليقين اليوم، دون الدخول في أي جدل وهنا لا مجال لذلك، أن أفضل سد في المغرب ضد التسونامي الذي أطلق عليه الربيع العربي، بالإضافة إلى الوساطة السياسية والاجتماعية التعددية القائمة دوما في البلاد، لم يكن حزبا معينا يمكن له أن يتباهى مرارا وتكرارا اليوم بإنجاز وهمي أو أية جمعية ذات الكرم اللامتناهي والمبهم. ولكن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي التي شكلت بالفعل السد المنيع بفضل تأثيرها العميق والمشع والمستديم على الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. أما نظام المساعدة الطبية (راميد) فيعتبر مسألة أخرى. منذ سنة 2002، عمد صاحب الجلالة إلى وضع الحماية الاجتماعية ببعدها الكوني، أي التأمين الإجباري الأساسي عن المرض ثم نظام المساعدة الطبية، في قلب انشغالاته الأساسية. ويساهم هذا البرنامج في تغيير النموذج الاجتماعي، بما أنه يتوخى، عكس الثقافة البيروقراطية المهيمنة، مأسسة التكفل الطبي لكافة فئات السكان، سواء النشيطين أم لا، المأجورين أم لا، ومهما كان وضعهم الاجتماعي. لقد شكل هذا الأمر تحديا هائلا محمولا برؤية لا تهادن. إنه أمر صعب، مضن، معقد لكن النتيجة تتمثل في كون 56 ر4 مليون شخص انخرطوا في هذا النظام منذ دخوله حيز التنفيذ يوم 13 مارس 2012. وفي الواقع، ودون كبير قلق بشأن تمويل هذا البرنامج لدينا واحد من أنذر التأمينات الاجتماعية في العالم الذي يتوفر على فائض، فإن نظام المساعدة الطبية قد فجر، عبر الإقبال الجماعي للناس على بنيات العلاج، الانسجام التقليدي لوزارة الصحة، وتجاوز بنيتها التحتية التي غالبا ما تكون غير ملائمة أو غير مستعدة لاستقبال المواطنين بشكل مكثف. ومن نافلة القول ان نظام المساعدة الطبية يسائل بعمق الاختيارات الاستراتيجية للصحة العمومية في المغرب، ويدعو إلى ضمان تراتبية في اختياراتها ووضع أولويات لمشاريعها واحتياجاتها، ولكن تظل الحقيقة، أنه حتى في هذا النوع من الطوارئ الاجتماعية القصوى، فإن هذا البرنامج يشكل منعطفا بنيويا في النموذج المجتمعي بالمغرب، البلد الناشئ بدون عائدات نفطية والذي يعتمد على موارده الخاصة، وعلى رأسها العنصر البشري. يرى المرء بوضوح أن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ونظام المساعدة الطبية، كمشروعين بارزين وكمثالين كافيين، يبرزان بشكل جلي أن ثقافة التضامن تمثل واقعا حقيقيا في المغرب. إنها تأتي من مقاربة دقيقة تبناها جلالة الملك من أجل بناء أمة متضامنة ومندمجة، لا تترك أحدا على قارعة الطريق.