يرى العربي مهين، الأستاذ الباحث في الاقتصاد، أن توفر الطلب الداخلي والنهوض به، وارتفاع مساهمته في النمو والتنمية، رهين بشرطين أساسين، هما تحسين القدرة الشرائية، من جهة، ورفع القدرة التنافسية للعرض الداخلي، من جهة أخرى حتى لا يحل محله العرض الخارجي في تلبية هذا الطلب، لاسيما ونحن على مشارف دخول معاهدة تحرير السوق الداخلية في وجه التجارة العالمية حيز التنفيذ. وشدد مهين، أستاذ الاقتصاد في كلية العلوم الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية، التابعة لجامعة محمد الخامس الرباط أكدال، في حوار أجرته معه "المغربية"، حول الطلب الداخلي في المغرب، وجدليته مع النمو والتنمية، على أن انتعاش الطلب الداخلي يمر عبر الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، وتحسين مستوى المعيشة، والعمل على خلق طبقة وسطى سميكة، يعد أمرا ضروريا للرفع من وتيرة التنمية وإنتاج الثروة، كما أن الحكامة الجيدة في توزيع هذه الثروة للرفع من مستوى الدخل المتوسط للمغاربة، خاصة الفئات المعوزة، أخذا في الاعتبار الجانب الجبائي، وضرورة توفير مخزون احتياطي لتأمين حاجات الاستهلاك، ومراجعة منظومة الأسعار ونظام المقاصة، هو ضمان لاستقرار الاقتصاد. شهدت نفقات الأسر المغربية، أو ما يعرف بتطور الطلب الداخلي، صعودا متتاليا في السنوات الأخيرة، هل هي في نظركم ظاهرة إيجابية، أم أنها سلبية، بالنظر إلى أن تحقيق النمو يمر عبر العاملين الأساسيين المعروفين هما الاستثمار والصادرات؟ ** يعد نمو وتطور الطلب الداخلي ظاهرة إيجابية، ما في ذلك شك، إذ أن الطلب الداخلي هو رافعة أساسية للتنمية الاقتصادية، وإذا كانت النظريات الاقتصادية، لاسيما النيوكلاسيكية منها، اعتبرت، إلى حدود منتصف القرن العشرين، أن الإنتاج هو الأساس، أي أن "المنتوج هو الذي يخلق طلبه"، فإن الطلب هو الذي يحدد العرض كما وكيفا، فلا يغامر المنتج باستثماره إلا إذا تحقق من وجود سوق كافية، وبقدر ما يكون الطلب متوفرا يكون المستثمرون مؤهلين للمغامرة بأموالهم لتحقيق المزيد من الاستثمار والإنتاج، وبالتالي الرفع من وتيرة التنمية الاقتصادية وخلق فرص للشغل. إلا أن توفر الطلب الداخلي والنهوض به رهين بشرطين أساسيين، هما تحسين القدرة الشرائية من جهة، والرفع من القدرة التنافسية للعرض الداخلي، ومن جهة أخرى حتى لا يحل محله العرض الخارجي في تلبية هذا الطلب، لاسيما ونحن على مشارف دخول معاهدة تحرير السوق الداخلية في وجه التجارة العالمية حيز التنفيذ. لكن كيف يمكن تحسين القدرة الشرائية للمستهلكين، علما أن تداعيات الأزمة الاقتصادية ما تزال مخيمة على النشاط الاقتصادي الوطني، ولو بشكل غير مباشر؟ الحفاظ على القدرة الشرائية للمواطنين، وتحسين مستوى المعيشة، والعمل على خلق طبقة وسطى سميكة، يعد أمرا ضروريا للرفع من وتيرة التنمية وإنتاج الثروة، كما أن الحكامة الجيدة في توزيع هذه الثروة للرفع من مستوى الدخل المتوسط للمغاربة، خاصة الفئات المعوزة، أخذا في الاعتبار الجانب الجبائي، وضرورة توفير مخزون احتياطي لتأمين حاجات الاستهلاك، ومراجعة منظومة الأسعار ونظام المقاصة، هو ضمان لاستقرار الاقتصاد. ومن الأكيد أن التحكم في ارتفاع الأسعار ومستوى المعيشة وضبط التضخم يساهم في تحسين القدرة الشرائية للمواطنين، ومحاربة الفقر، وتخفيف بعض المصاريف، التي تشكل عبئا على ميزانية الأسر المغربية. كما أن تكريس قواعد المنافسة من أجل حماية المستهلك، وتوجيه الإنتاج والتسويق نحو التنوع والجودة وانخفاض الأسعار، يحمي القدرة الشرائية للمواطنين. وفي هذا الإطار يجب الحرص على التفعيل الإيجابي لقانون حماية المستهلك، وتفعيل مجلس المنافسة حتى يتسنى له القيام بالدور المنوط به، الهادف إلى تعزيز التنافسية الشريفة والحد من كل الممارسات المنافية لها. كما يجب التخفيض التدريجي للضريبة على القيمة المضافة، للوصول إلى نسبة 18 في المائة، كسعر أقصى، مقابل 20 في المائة، المعمول به حاليا، وكذا تحسين الخدمات العمومية والحد من تكلفتها وأثمانها، وتطوير تجارة القرب، خاصة في العالم القروي، وتسريع تطبيق برنامج "رواج"، من أجل تنمية تجارة التقسيط المنظمة. كذلك يتعين الحد من المضاربات، لاسيما العقارية منها، وإعادة تقييم الأجور الصغرى في القطاعين، العام والخاص، واحترام الأجور الدنيا المتفق عليها من طرف مجموع المتدخلين، مع مواصلة تخفيض الضريبة على الدخل. ومن التدابير الأخرى الضرورية في هذا المجال، أذكر النقاط التالية: تشجيع الأنشطة المدرة للدخل، من خلال دعم إنشاء المقاولات، خاصة الصغرى منها والمتوسطة. إصلاح أنظمة التقاعد، وتحسين القدرة الشرائية للمتقاعدين، وضمان كرامتهم. تعميم الحماية الاجتماعية وتوسيع التغطية الصحية، من أجل تأمين الولوج للخدمات الاجتماعية لكل المواطنين والمواطنات، وتحقيق تنمية بشرية قوامها التضامن. تعميم التغطية الصحية إعمال نظام المساعدة الطبية لفائدة المعوزين. هذه الإجراءات تتعلق بما يجب القيام به من جانب السلطات العمومية، فما هو دور المقاولات، في الإطار ذاته؟ ** كي ننجح في الرفع من القدرة التنافسية للعرض الداخلي، يجب ألا نبقى منغلقين على ذاتنا، إذ أن العولمة أصبحت حقيقة لا ريب فيها، ومهما كان موقفنا منها يجب الاستعداد لمقاومة سلبياتها والاستفادة من ايجابياتها. وهذا هو التحدي الذي يجب رفعه، حتى نتمكن من استثمار تحسين القدرة الشرائية في الرفع من الطلب الداخلي، لجعل اقتصادنا أكثر جاذبية للاستثمار. في هذا الصدد، يجدر الانتباه إلى أن نسيجنا الاقتصادي يتكون من نسبة تزيد عن 95 في المائة من المقاولات الصغرى، في حين يضم القطاع غير المهيكل أكثر من مليون و450 ألف وحدة إنتاج، تشغل أقل من خمسة أشخاص في ظرف خارج التغطية، وهي عبارة عن وحدات عائلية لا تخضع لأي مراقبة أو اهتمام، في حين أنها تمثل خطرا على القطاع المهيكل، وخزانا للشغل بالنسبة لليد العاملة. على هذا الأساس، يتعين التخطيط الشامل للتنمية الداخلية والانفتاح على العالم الخارجي، والتمسك بالمفهوم العلمي للتنمية، ووضع النقطة الأساسية للتنمية، انطلاقا من الواقع الداخلي، وفي الوقت نفسه، التمسك بالانفتاح الشامل على كل الاتجاهات والمجالات والمستويات، سعيا لتحقيق تنمية أكثر توازنا. نحن في وضعنا لسنا أكثر تناقضا من الصين، فهي تواجه مشاكل تتجسد، أساسا، في التناقضات بين الاقتصاد غير المتطور وطلب الناس المتزايد على الثقافة المادية، وفي التناقضات بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والضغط الكبير الناتج عن السكان والموارد والبيئة. وبرهنت التجارب التاريخية على أن تسوية مسائل التنمية في الصين تطلبت الاعتماد على الصين ذاتها، بالدرجة الأولى، ما يعبر عن تحمل المسؤولية تجاه الشعب وتجاه العالم أيضا، ومبدأ مهما لضمان أن تسلك كل دولة طريق التنمية السلمية. هل يمكن لتطوير السوق المحلية، من خلال زيادة الطلب الداخلي، أن يكون دافعا رئيسيا للتنمية؟ توسيع الطلب الداخلي هو موطئ القدم الأساسي، والمبدأ الاستراتيجي طويل الأجل، للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، في سياق الدخول في مرحلة من التنمية، تتسم بتسارع عمليات التصنيع والتمدن، وارتفاع مستوى دخل الشعب، والارتقاء بدرجة الهياكل الاستهلاكية. ومما لا شك فيه أن المساهمة في التجارة الكونية والاقتصاد العالمي، من خلال تغيير نمط نمو التجارة الخارجية، وتوسيع الواردات، وتعزيز حماية حقوق الملكية الفكرية، أمور يجب أن تتوازى مع الطلب الداخلي الكبير والسوق المحلية الواسعة، وهما عاملان يشكلان، معا، قوة محركة متواصلة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المغرب، ما يدفع إلى القول إن التنمية يجب، بل يمكن أن تتحقق بالاعتماد على الطلب الداخلي، أساسا. هل هذا يعني أن الاعتماد على الذات يكفي وحده لتحقيق النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية؟ لا يمكن القول إن سياسة الاعتماد على الذات أكدت نجاحها، إذ أصبح العالم، اليوم، عبارة عن قرية صغيرة، ومن هنا لا بد من تعزيز سياسة الإصلاح الداخلي بالانفتاح على العالم الخارجي، عبر تنشيط الحماسة والمبادرة والإبداعية لدى كل أبناء الشعب، من أجل إحداث وضع جديد لبناء التحديثات، بواسطة تحرير العقول، والبحث عن الحقيقة من الواقع، والتقدم إلى الأمام بحزم وجرأة. والنتيجة هي الدفع نحو الإصلاح في مختلف المجالات، والتركيز على تطوير إبداع الأنظمة، من أجل تحقيق تقدم اختراقي في بعض المجالات المصيرية والحلقات المهمة، وتشكيل مجموعة من آليات النظام المفيدة للنهوض بالتنمية المستدامة، الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمتناسقة. كثر الحديث عن أهمية تنمية الموارد البشرية، وإصلاح منظومة التعليم، بالدرجة الأولى، من أجل خلق مجتمع مندمج في اقتصاد المعرفة، ومساهم في الاستثمار المنتج، كيف ذلك؟ تنمية الموارد البشرية تتحقق عبر تطبيق استراتيجية تقوية البلاد، بالاعتماد على الموارد الكفأة، وتسريع تعديل الهياكل التعليمية، وممارسة التعليم الهادف إلى النمو الشامل للطلاب، والتركيز على تعزيز التعليم الإلزامي وخاصة التعليم الإلزامي الريفي، والعمل بقوة على تطوير التعليم المهني والمدارس المهنية العالية، ورفع نوعية التعليم العالي، وجعل قضية التعليم تشهد تطورا كبيرا، والسعي وراء إعداد وتربية الكادحين ذوي الكفاءة العالية والأكفاء المتخصصين في مختلف المجالات. في هذا الصدد، يجب أن يقوم النمو الاقتصادي على أساس رفع كفاءة السكان والاستغلال الفعالية العالية للموارد، وتقليل التلوث البيئي، والاهتمام بالجودة والجدوى، وتسريع عملية تحسين الهياكل الصناعية، والارتقاء بمستواها، والعمل بقوة على تطوير صناعة التصنيع المتقدمة وصناعة التكنولوجيا العالية والجديدة، خاصة صناعة المعلومات والصناعة الحيوية، ورفع نسبة ومستوى صناعة الخدمات، وتعزيز بناء منشآت البنية التحتية للصناعات الأساسية، والإظهار الكامل لدور التعديل الهيكلي في تغيير نمط النمو.