وقع نظر السائق الباكستاني على الشيخ صبغة الله المجددي، فأسرع إليه وحياه باحترام وقدمني إليه قبل اللقاء، كان يحمل وجها لا تستطيع عبره استكشاف عمره، متين البنيان، لحيته الطويلة الكثيفة تقطر وقارا، وملامح وجهه تحمل كل عناصر الطيبة وهدوء الطبع، يهابه الناظر، في حركته سكينة ودعة، ملابسه الأفغانية الفضفاضة البيضاء والحزام الذي يشدها والعمامة الكبيرة التي على رأسه كلها من صنع أفغاني، لذلك فهو يفخر بها، افتخار الزعيم الهندي غاندي، الذي لم يلبس في حياته ثيابا من صنع المستعمر الإنجليزي. نظر إلي باطمئنان وقال بإيجاز وباللغة العربية الفصيحة: أنت إذن من المغرب، بلد طارق بن زياد، إننا نفخر بانتمائنا إلى مسلمي الأندلس، الذين استقروا في آخر أيامهم عندكم. استولت علي الدهشة، سعدت وأنا أسمعه يتكلم اللغة العربية الفصحى، ثم علمت أنه كان يدرس اللغة العربية والتاريخ الإسلامي في جامعة كابول. حدثوني عن أفغانستان التي أنجبت كبار العلماء، والأئمة والفلاسفة، أمثال ابن قتيبة، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنببل، والبخاري، والترميذي، والبيروني، وعددا كبيرا من أشهر المفسرين والأدباء وعلماء الكلام في العالم الإسلامي. وفيما كنت أنظر إليهم بإعجاب شديد، سألني الشيخ حكيم رباني، إذا ما كنت أعرف شيئا عن حالة المسلمين في الاتحاد السوفياتي، والصين، والفلبين، والحبشة، وما يتعرضون له من قمع واضطهاد، كان إنسانا صادقا مع نفسه، ورغم المرارة والقسوة التي فاض بها حديثه، كان مؤمنا بأن النصر حليف المؤمنين. روى لي بعض المجاهدين أحداثا مثيرة عما تعرضوا له في سجون كابول وعن خروجهم من أفغانستان، حتى وصلوا إلى "بيشاور"، وكيف هربوا من جحيم الجيش الأحمر السوفياتي. وعن هذه الوقائع، كتبت سيناريو فيلم "أفغانستان لماذا؟" رحلة البحث عن الممولين انتهيت من كتابة السيناريو وسافرت إلى المملكة العربية السعودية للبحث عن ممولين للمشروع، اتصلت في أول الأمر بمنظمة المؤتمر الإسلامي، التي كنت قدمت لها مشروع فيلم "القدس حي المغاربة" ولم أتلق ردا منها، وعرضت عليها مشروع "أفغانستان لماذا ؟" وقدمه الأستاذ قاسم الزهير، الذي كان نائبا للأمين العام إلى الأمين العام آنذاك، الحبيب الشطي، بعد أن حرر له مذكرة أشاد فيها بي وبالمشروع وأهميته بالنسبة للقضية الأفغانية. اعتذر الشطي بخط يده على المذكرة، التي مازلت أحتفظ بها ولا أريد نشرها تجنبا لأي مشاكل سياسية، لكن طموحي لإنجاز فيلم سينمائي عالمي عن القضية الأفغانية لم يتراجع، إذ سرعان ما اقتنعت "رابطة العالم الإسلامي" بمكة، وقررت مساعدتي في إيجاد من يساهم في تمويل المشروع. كان الشيخ محمد علي الحركان، الأمين العام لهذه الرابطة، آنذاك، مسلما شريفا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ورغم أن شيوخ الدين يرفضون أي تعامل أو اتصال أو علاقة مع السينمائيين، لأن السينما محرمة بالمملكة العربية السعودية، وعدني الشيخ محمد الحركان، المعروف بوفائه لوعوده وتقديره الناس، خيرا. أدهشني أسلوبه في الكلام وهو يقول لو كان غنيا لمول المشروع من ماله الخاص، وأن الغني مثله من هانت في عينيه الدنيا ولم تستعبده أموالها وجاهها، ووجه رحمه الله رسالة إلى عدد من الأغنياء السعوديين هذا نصها: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : وبعد..فيسعدني أن أوجه الدعوة لسعادتكم للمساهمة في تمويل مشروع خير، وهو مشروع إنتاج (فيلم) عن قضية أفغانستان، ونضال الشعب الأفغاني المسلم ضد قوات الغزو والاحتلال الشيوعية الملحدة، وصموده الباسل في وجهها. وهذا الفيلم يحمل عنوان (أفغانستان أرض الإسلام) وهو من إخراج المخرج المغربي المعروف الأستاذ/عبد الله المصباحي، وأن سيناريو الفيلم معد وجاهز للتصوير، وكذلك جميع إجراءات الإنتاج، ويساهم فيه مجموعة من كبار الممثلين العالميين والعرب، وسيجري تصوير أحداثه في المملكة المغربية وباكستان. وأن هذا الفيلم يعتبر وثيقة روائية مهمة..تبين مكانة أفغانستان وجهاد شعبها الباسل، وأخطار وأهداف الغزو الشيوعي لهدم وتدمير البلاد الإسلامية واكتساحها. ولضخامة المشروع وما يتطلبه من تكاليف تصل إلى (المليون دولار امريكي) ولأهميته كما أشرنا.. نرجو مساهمتكم في تمويل هذا المشروع الخير المهم، لسرعة إخراجه إلى حيز الوجود في أقرب فرصة ممكنة. ونسأل المولى الكريم أن يوفقنا جميعا لما فيه الخير..وتقبلوا تحياتنا..". لم يستجب أحد من الأغنياء، فاجتمعت ببعض الأصدقاء السعوديين، الذين تعرفت عليهم في تلك الفترة، لأبثهم شكواي وأقص عليهم معاناتي مع مشروعي السينمائي، الذي ينتصر للدين الإسلامي والقضية الأفغانية، فقررو المساهمة في المشروع بحماس كبير، وبدأوا معي الخطوات الأولى لإنجاز العمل. اتفقت مع الممولين على أن يجري التصوير بباكستان بعد أن حصلنا على موافقة الحكومة الباكستانية على التصوير بمدينة بيشاور، وبمشاركة المجاهدين الأفغان ومساعدة الجيش الباكستاني، وبعد ما فكرت مليا قلت "لماذا لا أزرع في أرضي؟". القرار الخاطئ قررت أن أصور الفيلم ببلدي، وأقنعت الممولين بأن المناظر في بعض المناطق المغربية تشبه إلى حد كبير "أفغانستان"، وأكدت لهم بأنني سأحظى بكل المساعدات لإنجاز فيلم في المستوى العالمي المطلوب، مع أنني لم أكن متأكدا من أي شيء، فتفكيري بالعاطفة هو الذي سيخدعني ويظهر لي على أرض الواقع كم كنت مخطئا، تركت المكان الأمثل لتصوير فيلمي، مدينة بيشاور معقل المجاهدين واللاجئين الأفغان، وجئت إلى بلادي بهدف أن يستفيد السينمائيون المغاربة، من مليوني دولار أمريكي، وأضيف إلى رصيد السينما المغربية فيلما عالميا من أفغانستان يحمل شهادة المنشأ المغربي، واخترت مدينة تطوان لتستفيد من هذا العمل السينمائي، لأنني أنجزت بها من قبل أحد أعمالي السينمائية "غدا لن تتبدل الأرض"وكنت أفكر دائما فيها كمدينة للسينما. بدأت أستعد للتصوير، وظل المدير السابق للمركز السينمائي المغربي يماطلني شهورا للحصول على الترخيص بتصوير الفيلم بحجة أنه سيسيء إلى علاقتنا مع الاتحاد السوفياتي، ما دفعني إلى الذهاب إلى وزير الخارجية آنذاك محمد بوستة، فسلمني رسالة إلى المركز السينمائي المغربي، مفادها أن وزارة الخارجية لا ترى مانعا في تصوير فيلم عن أفغانستان. نجوم العالم في تطوان حصلت على رخصة التصوير من المركز السينمائي بعد أن نصب نفسه مراقبا للإنتاج، وكتب إلى الممولين ليخبرهم أن العمل بالفيلم سيسير على ما يرام، وأنه يمكنهم أن يحولوا القسط الأول من ميزانية الفيلم وتوصلت به في حينه، وشرعنا في التصوير. أردت أن أصنع فيلما عالميا بنجوم وإمكانيات عالمية، لكن بتقنيين مغاربة وعرب، ومن أجل هذا الهدف اخترت حميد بناني، ومجيد الرشيش، ومحمد لطفي، ومحمد عبد الرحمان التازي، وعبد الصمد دينيه، ومحمد عصفور، كمساعدين في الإخراج، أما إدارة التصوير فكلفت بها كبير المصورين العرب، عبد العزيز فهمي، وأسندت المونتاج للراحل أحمد البوعناني، ومحسن عفيفي، بالنسبة للممثلين الذين شاركوا معي في الفيلم، اخترت الأمريكي شيك كونورس، ونجم أفلام رعاة البقر، جوليانو جيما، والنجمة اليونانية إيرين باباس، والممثل الفرنسي مارسيل بوزوفي، والنجمين المصريين سعاد حسني وعبد الله غيث، وأزيد من 30 ممثلا مغربيا منهم حميدو بنمسعود، ومحمد حسن الجندي، وحبيبة المذكوري، ومحمد مجد، وعبد القادر مطاع، وحميد الزوغي، وحسن الصقلي، ومصطفى الزعري، وحمادي التونسي، ومحمد البصري، والشعيبية العذراوي، وعبد العظيم الشناوي، وعبد القادر البدوي، وآخرون ومئات العمال وآلاف الكومبارس من تطوان. بداية المؤامرة بينما كان التصوير يسير سيرا طبيعيا بدأت المؤامرة، كنا نخوض معركة حامية الوطيس للتغلب على العراقيل والصعاب حتى لا يتوقف التصوير، وبعد أن قطع تصوير الفيلم المرحلة الأكبر، أي ما يعادل سبعين في المائة، توقف العمل تماما دون إنجاز ما تبقى: الثلاثون في المائة وهي مشاهد تعتمد على السلاح والدبابات وشاحنات الجيش، وكنا تلقينا تأكيدا بالحصول عليها ردا على الطلب الذي تقدمنا به إلى الوزير الأول آنذاك الأستاذ المعطي بوعبيد، الذي حضر بنفسه إلى مدينة تطوان وتحدثنا معه في الموضوع وطمأننا بأنه قام بالإجراءات اللازمة، وما تزال بحوزتي صور من الرسائل التي وجهها إلى الجهات المعنية. ولما أخبرت الممولين بهذا التوقف، وما يسببه من زيادة في ميزانية الفيلم، لم يتقبلوا مني الأمر، لأنه سبق أن أكدت لهم أنني سأحصل على كافة المساعدات الضرورية للتصوير، وعلى هذا الأساس قبلوا أن أصور بالمغرب بدلا من باكستان. توقف تصوير الفيلم، بعدما شارف على مراحل إنجازه الأخيرة بسبب عدم الحصول على السلاح والشاحنات العسكرية والدبابات اللازمة للتصوير، وبعث الممولون مندوبين عنهم لدراسة الموضوع في المكان عينه والتأكد من حقيقة الأمر، ومن سوء حظي أن من بين هؤلاء المندوبين أحد المتعاونين السعوديين مع المخرج مصطفى العقاد اسمه القزاز. في أول الأمر، أعجب هو ومن معه من المندوبين بما جرى إنجازه من الفيلم وأرسلوا "تليكس" يشيدون بمستوى الإنجاز الهائل، قبل أن يطلب من الممولين ألا يستمروا في التمويل لحين الإعداد للمرحلة النهائية للتصوير والحصول على الإمكانيات الضرورية، وعلى أن اكتفي بمهمة المخرج فقط، وأترك لهم مهمة إدارة الإنتاج، وكانت فرصة سانحة للاتحاد السوفياتي الذي بدأ يحاربنا، ويوظف جهات متعددة لئلا يجري إنجاز الفيلم، وهكذا تحرك الجانب الشيوعي أو على الأصح حرك أعوانه لمحاربة هذا العمل، الذي يكشف تجاوزات الاتحاد السوفيات، في أفغانستان. بدأت اكتشف ما يدور خلف الستار من مؤامرات لنسف المشروع بمساعدة المدير السابق للمركز السينمائي المغربي ومساعديه، الذين لم يترددوا في أن يتسرعوا بأمر يعود على سينمائي مغربي بالضرر، تملقا للسعوديين، مؤامرة وضعت خطة محكمة لتنفيذها من طرف القزاز ومن معه من المغاربة والسعوديين والمصريين وعلى رأسهم الممثلة سعاد حسني التي نشر نبأ زواجها بالقزاز، بعد أن التقاها في تطوان. اتصلت بالممولين لعلي أجد لديهم استعداد للتفاهم، وإذا بالمركز السينمائي المغربي يضع العراقيل في وجه كل تسوية ويقيم العقبات حتى تفشل. ويكتب مساعدوه التقارير الكاذبة ضدي إلى الدوائر العليا حتى لا تنصفني، حينما ألجأ إليها بالشكوى وأنا لا أطمع بأكثر من حقي الشرعي أن يفي الممولون بالتزاماتهم المنصوص عليها في العقد. أسرع المركز السينمائي المغربي بإصدار قرار جائر، قبل أن تثبت إدانتي : توقيف نشاطي السينمائي، الشيء الذي أدى إلى إفلاسي وتشريد أكثر من خمسين عاملا كانوا يعملون معي بتطوان باستوديوهات المصباحي للإنتاج، التي جرى إغلاقها. كنت أناضل ضد عدو ماكر خفي في سبيل حريتي وحياتي وسمعتي وأنا أتعرض لكل أنواع الضغط من طرف المدير السابق للمركز السينمائي المغربي، بعض الصحف تهجمت علي وسعت جهدها للنيل مني ظلما وعدوانا، وأخذت تردد كالببغاء ما تنشره صحيفة سعودية ضدي بقلم أحد الصحافيين، الذين تلقوا مكافآت مجزية من القزاز، الذي أنتج له في ما بعد فيلما قصيرا يتناول إحدى قصصه القصيرة، وكنت أرد على ما يكتبه بسخرية وأسخر أيضا، مما يقوم به الوسطاء بيني وبين الممولين من تآمر خسيس دنيء يكافئون عليه بدعوات لزيارة الاتحاد السوفياتي لحضور مهرجان طشقند للسينما، وحتى السعوديين منهم سافروا من لندن لتلبية الدعوة. أخذت الشائعات تملأ وطني، أموال السعوديين انتقلت إلى خزائني بطريقة سحرية ووضعت جزءا كبيرا منها في بنوك سويسرا، لأن الممولين حولوا بأنفسهم مائة ألف دولار لجوليانو جيما من أجره على حسابه بجنيف. والحقيقة هي أنني استلفت من أحد البنوك بتطوان لأسدد بعض ديون الفيلم، بناء على طلب الممولين وفي انتظار تحويل المبلغ من طرفهم، ولكنهم لم يفوا بوعدهم، وأيقنت أن حائطا من سوء التفاهم قام بيني وبينهم، كانت الاتهامات الفظيعة التي ألصقها بي حسادي وخصومي، خنجرا مسموما غرس في صدري، وما كنت لأستطيع شيئا، بعد أن أدانتني الشائعات. ولجأ الممولون إلى القضاء، وجاء أكثر من خبير من الخارج لمشاهدة ما جرى تصويره وأعجبوا جميعا بمستوى العمل وتعجبوا من أن تكون تكلفة الإنتاج هي ما دفعه الممولون السعوديون وهو قدر مالي لا يغطي إنتاج حلقة تلفزيونية مدتها نصف ساعة بإحدى القنوات التلفزيونية الأمريكية، كان ما جرى تصويره ليس عشر دقائق كما ادعى خصومي، ولكن ساعتين ونصف الساعة بعد المونتاج والمتبقي نصف ساعة وهي المشاهد الحربية، ومدة الفيلم ثلاث ساعات كأي إنتاج عالمي كبير.. بدأت أشعر بالاطمئنان، ولم يكن أمامي شيء آخر يمكن أن افعله سوى الانتظار وأنا مؤمن كل الإيمان بصواب قضيتي ومقتنع بأنني على حق. وكانت المفاجأة تدخل المنتج التونسي طارق بن عمار لإنقاذي وإنقاذ المشروع.