"فلسطين"، و"أمانة" و"الغادي بعيد"، و"الدمعة"، والواد" ، و"الشراع" ، و"غارو منا"، و"أوريكة"، و"لبحر"، و"آه يا لمشاهب" كلها أغان لأسطورة الظاهرة الغيوانية، محمد باطما، الذي شكل إلى جانب الراحل مولاي الشريف لمراني، الدعامة الأساسية لمجموعة لمشاهب، كما ساهم في تأسيس مجموعة "مسناوة" وتألقها. ولد محمد باطما سنة 1952 بالحي المحمدي في الدارالبيضاء، من أسرة متواضعة تتحدر من منطقة أولاد سعيد، إحدى قبائل الشاوية. منذ طفولته انخرط الطفل محمد في العمل الجمعوي، شأنه شأن أخيه الأكبر الراحل العربي، الذي ساهم في تأسيس مجموعة ناس الغيوان سنة 1971 ، التي تمردت على نمط الغناء التقليدي، الذي يعتمد المغني الوحيد. في هذا الجو الفني، نشأ محمد باطما متأثرا بالظاهرة الغيوانية، لينضم في بداية مساره الفني إلى مجموعة "تاكدة" سنة 1972، التي انفصل عنها ليلتحق بمجموعة لمشاهب، التي بدأ معها مسيرته الفنية بأغنية "أمانة"، وفتحت له أبواب الشهرة على مصراعيها. في سنة 1973، عانت مجموعة "لمشاهب" مشكلا كاد يؤدي إلى توقف مسيرتها، تمثل في غياب صوت جهوري، يحقق نوعا من التوازن، داخل المجموعة التي كانت كل أصواتها رقيقة ومتشابهة إلى حد ما، وهو الأمر الذي أرق مولاي الشريف لمراني، إذ ظل يبحث عن الحل من أجل ضخ دماء جديدة في المجموعة، وإعطائها ذلك النفس الذي يضمن لها الاستمرارية، ويمنحها القوة لمنافسة باقي المجموعات. لعبت الصدفة دورا كبيرا في تحقيق هذا الحلم، ففي سنة 1973، وبعد مدة قليلة من تكوين لمشاهب، التي كانت تضم في تلك الفترة كلا من مولاي الشريف لمراني وسعيدة بيروك والأخوين الباهيري، سيلتحق بالمجموعة الفنان المجدد الراحل محمد باطما، الذي شكل انضمامه إلى المجموعة إضافة جديدة، إذ نجح في خلق ذلك التوزان المفقود، من خلال صوته الجهوري القوي وكلماته وألحانه، التي هزت مشاعر الملايين آنذاك، وسرعان ما اندمج مع باقي العناصر، وحقق مع المجموعة نجاحا كبيرا. تمكن باطما، بمساعدة باقي أعضاء المجموعة، من صقل موهبته، قبل أن يترسخ في الأذهان باعتباره دعامة أساسية للمشاهب، وعلامة مميزة في تاريخ المجموعات الغنائية، ومنذ سنة 1973، ستعرف الفرقة مجموعة من التحولات في طريقة الغناء، ونوعية الأغاني التي تؤديها، كما ستعرف قدوم وافدين جدد، خصوصا بعد انسحاب الأخوين الباهيري، اللذين سيعوضهما كل من فارس الكلمة، مبارك جديد الشادلي، القادم من الجنوب المغربي، وصاحب الصوت المتميز، محمد السوسدي، القادم من معقل المجموعات، الحي المحمدي. حققت مجموعة لمشاهب بالتحاق محمد باطما، الذي منحها صوته وألحانه وكلماته، نجاحا كبيرا، مكنه من البقاء في المجموعة، وكانت أول أغنية سيسجلها، أغنية "أمانة"، التي يقول مطلعها: بين الكديات كان الميعاد يستنى الليل و قدر الله وسط الواد أ بابا حسينا بالخديعة وما منا هراب آبابا وتمة كانت لفجيعة أصبح الراحل باطما عضوا أساسيا في المجموعة، بعد أن اقتنع به الراحل الشريف، الذي قال في حقه: "كان محمد باطما إنسانا رائعا ومهذبا، رقيق الإحساس وفنانا يرتاح المرء إليه، قررت أن أتخذه صديقا ورفيقا لي في رحلتي الفنية". في مطلع سنة 1975 ستعرف المجموعة زواج محمد باطما بسعيدة بيروك، التي اضطرت إلى مغادرة المجموعة بعد حملها. طيلة مساره الفني كان الراحل محمد باطما، كاتب كلمات، وزجالا من الطراز الكبير، بشهادة أخيه وأحد مؤسسي مجموعة ناس الغيوان، الراحل العربي باطما، الذي قال عنه "أشهد أن محمدا أزجل مني". اعتمد محمد باطما لغة بسيطة شعبية، وألحانا رائعة مستمدة من أصالة التراث الموسيقي المغربي الأصيل الغني بمقاماته المختلفة. واستطاع بحنكة متميزة مزج كل هذه الخصائص الفريدة في صوته المتميز ببحة نادرة، لطالما عبرت عن آلامه وآماله. استطاع باطما، بعفوية قل نظيرها، أن يعبر عن المعاناة التي عاشها ضد الفقر والقهر والظلم، من خلال صوته، الذي كان بمثابة وعاء مثالي لنصوص ومضامين عميقة. شكلت وفاته سنة 2001، حدثا كبيرا في تاريخ لمشاهب، إذ كان الإعلان عن موته بمثابة ضربة قاسية للظاهرة الغيوانية خصوصا، والفن المغربي عموما، باعتباره من أبرز المؤسسين لهذا الفن في المغرب، بكلماته الهادفة وألحانه الشجية الأصيلة وصوته العذب، الذي سيظل موشوما في ذاكرة كل من أحبوه وعشقوا فنه.