كانت القاهرة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، لاتزال تحت صدمة نكسة حرب الأيام الستة مع إسرائيل سنة 1967، كانت كئيبة للغاية... فآثار الحزن والهزيمة في كل مكان.. على عتبة كل باب جدار وأكياس رمل وراءها جنود مركزين على بنادقهم. زجاج النوافد ومصابيح السيارات يكسوها اللون الأزرق . المدينة في حالة استنفار دائم تحسبا لأي هجوم للطيران الإسرائيلي . خرست الأصوات الرنانة، التي كانت تنطلق من الراديو معلنة انتصار العروبة الحتمي. وجفت الأقلام، التي كانت تكتب عن هذا الانتصار ... بعد موت الرئيس جمال عبد الناصر، لم نعد نسمع تلك الخطب والأغاني الحماسية. شعرت آنذاك أن لغة رغيف الخبز بالنسبة للبطون المصرية الجائعة أكثر بلاغة من الخطب الرنانة عن القومية العربية دون أي تحرك إيجابي. كان فريق كرة القدم "الزمالك" ينازل، أقوى الفرق المصرية "الأهلي" خصمه اللذوذ لإحراز بطولة الدوري . وكانت المنافسة على أشدها بين الفريقين ومدارج الملعب مكتظة بالمتفرجين من جميع الطبقات. وكنت أنا والصديق "سيد فرغلي صحافي بدار الهلال، من ضيوف أحد أبرز لاعبي فريق "الزمالك" محمد جابر، الذي خير اسمه إلى نور الشريف، بعدما أصبح نجما سينمائيا.. في تلك المباراة الحاسمة تمكن محمد جابر من تسجيل إصابتين، بعدما أجاد اللعب إجادة أثارت حماس المتفرجين. كان نورالشريف من لاعبي الكرة، الذين اختطفتهم السينما، مثل كمال سليم "كابتن" الأهلي، الذي قام ببطولة "الشموع السوداء " من إخراج عز الدين ذوالفقار. وفي الفترة نفسها ظهر المحامي محمود ياسين، ليدخل السينما من بابها الواسع بفيلم "نحن لانزرع الشوك " مع شادية من إخراج حسين كمال، ومحمود عبد العزيز المهندس الزراعي، الذي كان مايزال يبحث عن فرصة النجومية بعد أن قدمه "رمسيس نجيب"، الذي خلدته عبقريته كمنتج قادر على اكتشاف المواهب وتنميتها. مضى علي أسبوعان بالقاهرة وتحول الجناح الذي أقطنه بفندق "شبرد" إلى صالون للسينمائيين والفنانين والأدباء والصحافيين. في هذا الجناح استقبلت أدباء مثل عبد الرحمان الشرقاوي، ويوسف السباعي، الذي عينه فيما بعد أنور السادات وزيرا للثقافة، وصالح جودت الذي كتب عني، قبل أن يعرفني شخصيا، في ركنه بمجلة "المصور" في الستينيات من القرن الماضي، أنني كسرت قيود الأدب العربي في ذلك الوقت لأن مسرحيتي "الجدار" اجتازت الحدود ... حدود الأدب العربي وكان شاهدها بمسرح "شلرطياطر" ببلرلين. كنت تعرفت على محمد أنور السادات، قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية، بمنزل صديقنا المشترك رسام"الكاريكاتير" أحمد طوغان، وكان يعمل مع البكباشي أنور السادات، لما عينه الرئيس جمال عبد الناصر مديرا عاما للدارالصحفية "دار التحرير"، التي كانت تصدر عن جريدة "الجمهورية". كان الرسام أحمد طوغان خلق علاقة جيدة مع السادات تمكنه من التأثير عليه. ذهبت معه لنقابله بمنزله وراء فندق "شيراتون" الجيزة . وفيما نحن الثلاثة نشرب القهوة في غرفة الجلوس قدمت له مشروع شريط "معركة الصحراء المغربية "، الذي عزمت على إنجازه كإنتاج مشترك بين المغرب ومصر . وهو موضوع وطني عن كفاح المغرب لتحرير الصحراء المغربية بقيادة جلالة الملك محمد الخامس، وبعده جلالة الحسن الثاني والمطالبة بجلاء القوات الإسبانية عن الأقاليم الصحراوية، التي كانت ما تزال تحت الاحتلال الإسباني. أعجب الرئيس أنور السادات، بالفكرة كعمل مشترك بين السينما المغربية والمصرية، التي كانت أغلب أعمالها في تلك الفترة عبارة عن ميلودراما غنائية يقوم ببطولتها فريد الأطرش، أو عبد الحليم حافظ، أو محرم فؤاد . ميلودرامات أسرية جلها تصور في ديكورات مغلقة بالأستوديو مع بعض المواقف المسلية. كانت الحبكة الدرامية لأفلام المخرج يوسف شاهين الأولى بعد "باب الحديد" فرضت عليه تحت ضغط المعطيات التجارية، التي كان مكرها على الرضوخ لها في تلك الأيام مثل "ودعت حبك " لفريد الأطرش و"معا إلى الأبد " الذي رواه بأكثر من صورة من وجهات نظر البطلين باستخدامه الوفير لأسلوب "الفلاش باك". قال لي السادات ستجعل من "معركة الصحراء المغربية" تحفه حياتك السينمائية. وكنت أشرح له تخيلي لفيلم ضخم يصور كشريط "لورانس العرب" للمخرج دافين لين في مساحات الصحراء الشاسعة، ويعتمد على نجوم كبار، وعدد كبير متنوع من المؤثرات البصرية، سواء في التصوير، أو النماذج الحية، التي يمكن تنفيذها بمهارة كبيرة. كلم الرئيس محمد أنو السادات صفوت الشريف الوزير السابق للإعلام، الذي كان آنذاك مدير الهيئة العامة للسينما عن مشروع الإنتاج المشترك "معركة الصحراء المغربية". التقيت الشريف وأمضينا خمسة أيام في جلسات متواصلة لدراسة امكانيات تنفيذ المشروع، وكان يحضر معنا الصديق أحمد طوغان. ودخلت بعد ذلك في حلقة الروتين الإداري المصري القاتل، ولم يتحقق المشروع إلا بعد سنوات ومع القطاع الخاص وبإمكانيات متواضعة جدا وضمن الأفلام، التي أنتجها في مصر بمجهودي الفردي وأعني فيلم "سأكتب اسمك على الرمال"، الذي تحدثت عنه في حلقات سابقة. بعد اجتماعاتي العديدة مع لجن المؤسسة العامة للسينما، الذي كان يديرها آنذاك محمد الدسوقي ابن أخت كوكب الشرق الراحلة أم كلثوم، صارت الأمور مشوشة في ذهني. التقيت بالصديق كمال الملاخ، صحافي بجريدة " الأهرام " صاحب الركن الدائم المعروف بها "من غير عنوان" ... كمال الملاخ باحث في الآثار واهتمامه بالآثار كان هواية أكثر منه مهنة. كان لايدعي أنه عالم في الآثار، وهو الذي اكتشف مراكب الشمس الفرعونية، إذ كان يهتم بالجانب الإنساني من علم الآثار أكثر من اهتمامه بالخرافات. كان كمال الملاخ يعشق السينما، وهو مؤسس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي. حضرت معه فيما بعد البداية المتواضعة لهذا المهرجان. وكنت معه أثناء المفاوضات مع إدارة فندق "شيراتون" القاهرة لتقديم الدعم لهذه التظاهرة السينمائية المستحدثة، التي لم تحظ بدعم الدولة في بدايتها. لعبث الراقصة نجوى فؤاد دورا أساسيا في المفاوضات، فهي التي أقنعت زوجها آنذاك سامي الزغبي، مدير عام فندق شيراتون بتقديم الدعم للمهرجان، حتى أن بعض "الخبثاء "كان يطلقون عليه "مهرجان شيراتون للسينما". كان كمال الملاخ قرأ ما نشر في الصحافة المصرية من مشروع فيلم "معركة الصحراء المغربية"، وعلم باتصالي بالرئيس محمد أنور السادات ... قال لي إن السادات في نظره إنسان قوي بتفكيره وبقدرته على استخدام عقله قبل عاطفته، وقدرته على اتخاذ القرار دون خوف من النتائج . إنه يحمل مجموعة هائلة من الفضائل تأصلت وخلقت لديه شعورا عميقا بالتضحية من أجل الآخرين. وحتى لايدع الدهشة على ملامحي تجاه كلماته عن السادات، أضاف أنه يعبر بصدق وموضوعية عما يموج به الشارع المصري "وده حيوديه في داهية". وراح يروي عن السادات، أنه في بداية حياته كان يريد خوض تجربة التمثيل وتقدم بطلب إلى إحدى الفرق المسرحية، وأن الممثل كرم مطاوع معه نسخة من هذا الطلب يحتفظ بها. تساءلت وأنا أفكر بعمق عن علاقة الملاخ مع السادات، عن السبب الذي يدفعه لفتح مثل هذا الحديث عنه. ولم يكن هنالك من تفسير لذلك سوى أن الصحافيين، الذين عرفوا السادات في عهد جمال عبد الناصر يناصبونه العداء لأنه همشهم وعمل على محو كل ما يمجد العهد الناصري. وهذا ما كانوا يعيشون به، إلى درجة أن حسنين هيكل زعم في كتاباته أنه عثر على وثائق تتبث أصل السادات، وأنه من "سلالة العبيد " وأن أمه "أمة" ووالده "عبد". عرض علي الصديق كمال الملاخ أن يكون من المتعاونين معي، إلا أني وجدت في ذلك الوقت أنه لا يوجد أي شيء بإمكاني أن أقترحه عليه في إطار هذا التعاون. وتابعت جولتي بالبلاد العربية . سافرت إلى "دبي" وتعرفت على سمو الشيخ راشد حاكم دبي، وأعطيته تفسيرا ملائما للمشروع، الذي أبحث له عن ممول، ولا أدري ما الذي حذا بي إلى الاعتقاد بأنه سيوافق عليه. قالوا عنه عشنا تجربة أخرى لها صلة بالمخرج عبد الله المصباحي، عندما كان يصور فيلمه الطويل عن أفغانستان في بعض ضواحي تطوان، بما في ذلك، قرية "سامسة" الجميلة. أتذكر أن أحد أقربائي شارك في كومبارس الفيلم، فكنت أستفسره بشغف عن ملابس الممثلين، وأجواء التصوير، وإعادة اللقطات والأجر اليومي، وأسأله إن كان المكان الفلاني من القرية صور أم صور بدله موقع آخر، ثم يروح ويحكي لي بإعجاب واعتزاز لا يقلان عن إعجابي واعتزازي وحب استطلاعي العارم. والحق أن حب الاستطلاع كان دوما وسيلة مهمة من وسائل المعرفة الإنسانية، لذلك أرى أن التجارب السينمائية، المطبوعة بمثل هذا الطابع المحلي، من شأنها أن تساعد على فتح أفق الخيال لدى الصغار والكبار، وتدفعهم إلى التفكير في إمكانية تحويل الاحلام والخواطر إلى واقع فني، وأكثر من ذلك أنها تجعلنا نتأكد من أن أرضنا وقرانا وعاداتنا وطبيعتنا وطبائعنا يمكن أن تغذو، ذات يوم، أدوات وعناصر لصناعة الجمال وترسيخ روح الإبداع، وربما كان هذا البعد المعرفي العميق يقف وراء طلب المحلية في المجال السينمائي. محمد أنقار من مجموعة البحث في السينما لكلية الآداب بتطوان