وفاء وترسيخا لهذا التقليد الجديد، وبعد تكريم موقع اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة الافتراضي للشاعر أحمد العناني، يكرم الموقع من جديد الأديب والكاتب عبد السلام فزازي، أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بن زهر بأكادير. وبهذه المناسبة، خص الكاتب عبد السلام فزازي موقع اتحاد كتاب الإنترنت بالكلمة التالية: أن تكتب يعني رفضك للكتاب ما معنى الكتابة حين يغيب التواصل؟ ما معناها حين تصبح بضاعة كاسدة يتاجر بها كل من هب ودب؟ كثيرا ما تراودني فكرة عدم المشاركة في المواضيع ما دامت الكتابة الغاضبة غائبة ليحضر مكانها التزلف والمحاباة والإخوانيات، وترديد مقولة: ما أعظمها من كتابة؟ وما أبخس من لا يدخل محراب دم مع الزمان كما يدور؟ وانصر أخاك ظالما أو مظلوما حتى ولو تعلق الأمر بالإبداع؟ في هذه اللحظات بالذات أتمنى أن أنتبذ مكانا قصيا لأرى المواقف تجرجر عبر مثالة الاستعارة، وأراجع النفس ما استطعت إليه سبيلا حتى لا أسقط في الإفراط في الرذيلة أو بالأحرى التفريط فيها، والحال أنني بعيد كل البعد عن الفضيلة الموجودة حتما بين رذيلتين: إفراط وتفريط.. ولأجل هذا قررت أن أكتب مقالي هذا وأنا أتصور تعريفا خاصا بي للكتابة.. يلزمني ولا يلزم أحدا..أن تكتب يعني رفضك للكتابة ... "ماذا لو عادت النعوش بأمواتها، عفوا أيتها الروح المقدسة.. نامي هناك في رمسك قريرة العين فما عادت دنيانا عاشقة ولا معشوقة"... رب كلام لم يبح به الموت... صيحة ثكلى في ذكرى معطل ما. الكتابة هشاشة المثقفين، صناعة داخل صناعة، اختزال الزمن عبر فضاء بياض الورقة. هي بعث الذي قيل ومخاض الذي يجب أن يقال، هي انكسار هامات رجال، وخلق بطولات من عدم... وليت لمسيرة الكتاب أن تجد مرفأها الأخير.. وليتهم يجدون غودو المنتظر.. ربما قتلوه في حضرة مدادهم، وربما صنعوه من عدم... ! الكتابة حين تغازل الضمائر الأبجدية في كبرياء "هامان"، وتنحت عمر الحقيقة من نبراس سم الخياط. فمن يكون الكتاب؟ منهم يخرج النبي المدجج بسلطة الواقع، ومنهم يخرج مسيلمة الكذاب مرتديا ثياب الحلاج، ومتأبطا لسان أبي ذر الغفاري.. ومنهم من اتخذ شعار "در مع الأيام كما تدور" خليلة في ثوب عشتار... الكتابة يا قلبي أنت المتيم بحب الوطن حتى النخاع. الكتابة ضمير الغائب على فوهة بركان العشيرة... الكتابة صمت الأرامل، متاهة اليتامى.. خنق الحرية في الحناجر.. الكتابة نظرة المحروم في أحداق ميراث أبيه.. والكتاب زبانية غلاظ شداد يفعلون ما يومرون.. ذهب الذين قدسوا الكلمة في بسمة الأطفال.. الذين غازلوا الشمعة في بكائها المجوسي.. الذين ظللتهم أشجار الشيح والعرعار والزيزفون.. أتكون الكتابة من سلالة أطفال الأنابيب يا قلبي والزمن قملي الشكل؟.. نحن نحت داخل نحت.. سفر داخل الذاكرة المثقوبة.. رجفة لغة ثكلى تبحث عن متاهة خندق العمر الطويل.. هي أن نعانق آخر حبة رمل الوطن.. فلا تقاتل يا رفيقي خارج الكلمات، فأنت الآن الكون والإنسان.. أنت سيد الكينونة المخضبة بالحناء.. فإن رفضتك الكتابة يوما فعانق أحلامك القديمة فلصمتها ألف حكاية وحكاية..فيا زمن الفانوس والشمعة، ويا زمن الصمغ والصلصال، رد لي صولة الحرف المدجج بالدخان.. أناشيد الرعاة المطرزة بذبذبات الناي البعيدة.. هنا تقتلني التفاصيل وتنتعلني خطاي نحو عهد ليالي الحصاد.. هناك، حيث كسر الهزار صولته الباهتة واختزل الزمن في عمر كتابة أوديسا العشاق.. الكتابة يا قلبي نبش تضاريس الذكريات، التي تحملنا ونحملها.. هي سفر خارج المعهود، واقتحام سرمدية كينونة الأنا ألهو في حضرة قداس القرطاس والقلم.. فالذات يا قلبي لا تجد سلتها إلا عند عتبة الكتابة، والكتابة لا تكتمل جوانيتها خارج ذبذبات الذات.. فعمر الكتابة إذن تختزله لعبة الحلول مع الذات لتترك الفراغ حظيرة للذئاب الجائعة.. فخذ عيرك أيها الكاتب / النبي، وارحل بعيدا عن فضاء الكتابة.. ارحل خارج أبواب المدينة، مدينتك حتى تعيد سيرتها الأولى، وحتى لا تسمع غرغرة أرواح نخرة دجنتها المنابر الإلكترونية: وأكثر الناس آلات تحركها أصابع الدهر يوما ثم تنكسر. فهلا حدثتني يا رفيقي عما أنجبته الزنازين من كتابات رفضت الحصاد القيصري ولم تصافح الطاغوت الخارج من تلابيبك، والتي لا تعرف مغازلة الزهور البرية خارج لغة حد المنجل؟ هلا حدثتني عن الكتابة الموسمية التي أفل نجمها على تراتيل لغة رفوف المتاحف الحكومية؟..ألم تحدثك عنها طلاسم المنابر الرجعية يوم حصحص الحق؟ فدونك أبناء العشيرة، اسألهم عن النبأ اليقين.. حبيبي يا قلبي، لا تسألني عن كتابة ماتت قبل الأوان، عن رفاق ذهبوا وما عادوا، "فعش رجبا ترى عجبا".. أرض "اليوت" استعارها عشاق بلادي ليقتلوا عشق الوطن على شجر الصبار.. على سعف النخل، ما دام فضاء البياض قد تنكر لسواد الصمغ... هي دمعة أخرى، أضيفها إلى خراب قلاعنا المهجورة، لتكتمل مهزلة بلادي على حبل غسيل الكتابة.. فلا تحاول، وربك أن تكتب وصيتك على شاهدة مقبرة الوطن.. أن تكتب، يا تعبان بن تعبان، في زمن الإسمنت العربي، يعني أبدا رفضك للكتابة. والرفض يا بني أمي، هو ميراثنا الوحيد، فلا تبتئس بعد اليوم.. سأكفكف دمعك يا قلمي، وسأحكي لأوراق أشجار بلادي عنك العجائب.. أنت الذي خانك العراء في ربيع الشباب.. أنت الذي أودعك ربان السفينة خلف عباب البحر.. أنت الذي رفض سمفونية المد والجزر حين اعتزلك سمك القرش... هو ذا إسرافيل يشد الرحال بعد ليل طويل.. يعانق القلم بيد مثلوجة وبأخرى، الصور لموعود... يحترف عشق الجسد خارج الروح.. يسأل عن أوراق أحرقها النسيان الأبدي لينجب سحابة عاقرا تطارد سمفونية الرياح الهوجاء.. ألم تسألني يوما يا قلمي عن عاشق شجر الزيزفون والأرز، فقلت واريناه مع أغاني الرعاة قبل صلاة الفجر؟.. فلا تسألني الآن عن الرسم والديار، واسألني عن شكل موت لم أختره. لا تحاول البوح بعد الآن للقراصنة برحيلك الأخير، وادخل محرابك صامتا حتى لا تدان بحب الأزهار البرية. فهذا زمن علب الليل يسري في دمنا المستعار.. هذا ليلنا المستأصل من الهزائم الكنعانية يبحث عن صولة ماتت قبل الأوان، وعن نجمة قطبية استهوتها قبلة عاشق ولهان.. من يحتمي بالعراء يموت بحد الحرف ويعتصم بأتربة الأضرحة وتعازيم العرافات والسحرة. (عن موقع اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة بتصرف)