تحملق النسوة في كل الاتجاهات، بعيون زائغة لا تريد أن تفوت مشهد سيارات الأمن وهي قادمة إليهن.. سيارات وحافلات تتدفق على طول شارع أنوال، وأصوات المنبهات تخترق، ترقب أولئك النسوة، إنها "لعنة الطرد" التي دفعتهن إلى الجلوس أمام مدخل "كريان" أمبيركو، المقابل لجوطية درب غلف في الدار البيضاء، منذ السابعة صباحا يوم الاثنين الماضي، ولو كان معظم سكان الحي، يعانون إكراهات صحية ونفسية، ضخمت من حدتها، أحكام الإفراغ القاضية بترحيلهم، دونما تعويض يذكر، حسب شهادات بعض السكان. في جو مشحون بصخب الشارع، (زعيق السيارات والحافلات، واكتظاظ في الممرات والطرقات)، تتربع بعض نسوة حي أمبيركو، بما يفسر أن هؤلاء في انتظار شيئا ما، أطفال وجدوا في هذا التجمع ملاذا للارتياع، عدسة المصورة استأذنت النساء لالتقاط المشهد، الأمر الذي أعجب الأطفال، ليلوحوا أيضا بإشارات استعاروها من الكبار، "نعم للنصر"، وإن لم يعوا بشكل أدق، أسباب حسرة السكان وارتيابهم المستمر. منظر هؤلاء النساء وهن يرمقن الفضاء، بما يوحي أن "أمرا ما سيحصل"، أثار انتباه المارة وسائقي السيارات والحافلات، وإن كانت واليافطات المعلقة على سور الحي، تفشي بما يتساءلون عنه. كانت أشعة الشمس في ذلك اليوم، شديدة الحرارة، لكنها لم تكن لتمنع النساء من المكوث خارج "البراريك"، تحسبا لاقتحام القوات العمومية، ل"الكريان"، بدعوى أن ساعة الرحيل عن الحي حانت، فقوة الإرادة هي ما يتحلى بها السكان المتضررون من قرار الإفراغ، هكذا أجمعوا في تصريح ل"المغربية"، أما الوضع الصحي للكثير منهم، فهو في تدهور مضطرد، حتى باتوا يعيشون على الأدوية والمضادات الحيوية. لم يكن من السهل قضاء يوم بكامله في الانتظار والترقب، لكن "الإفراغ" مشكل عويص، سيحمل معه تبعات جسيمة، إن نفذ بمعزل عن تعويض السكان، وفقا لما أفادوا به "المغربية"، بنبرة يشوبها القلق والتوتر. انتفاضة ضد المعاناة تنتفض النساء في وجه المعاناة، ليفصحن بلهجة حازمة أن "العيش في براريك متصدعة، خير من التشرد في الشارع، خاصة أن السكان المتضررين من الإفراغ، هم مجموعة مسنين ومرضى وأرامل"، ليضفن قائلات: "أين المفر وأين السبيل في منأى عن الضياع". العوز والمرض والإفراغ، ثالوث شوش على حياة سكان أمبيركو، وحملهم ما لا طاقة لهم فيه، حتى صاروا لا يفوتون فرصة الخروج إلى الشوارع وتنظيم الوقفات للتنديد بأحكام الإفراغ. ثمة فارق بين العيش في "البراريك" والعيش في الشارع، فالبقاء تحت ظل سقف، يبدو للسكان مكسبا وإن كان فضاء "الكريان" غير مرفه، فهو على الأقل يقيهم من تقلبات الزمن، فالحياة حسب وصفهم بما فيها من طموحات وتطلعات وآمال، تلاشت بسبب حكم الإفراغ القاضي برحيلهم من دورهم، مخلفا وراءه القلق والحسرة، وهذا سبب حقيقي دفعهم إلى جعل الاحتجاج ردة فعل، فلم يكونوا مدفوعين بالرغبة في الصراخ وقتل الوقت، بل الرغبة في الاستقرار الاجتماعي والأمان النفسي. ظلت النسوة يجلسن أمام مدخل "كريان" أمبيركو، بينما تسمر الرجال بمحاذاة سور الحي، يشاطرونهن تلك "المشكلة"، إنها مأساة الطرد من السكن. لم يكن ذلك الحشد من السكان، يتظاهرون ضد "الحياة"، بل ضد "التشريد" في الحياة، ليرفعوا قبضاتهم متظاهرين بأسلوب ينم عن عزيمة قوية بعد توافد سكان آخرين جاؤوا من أحياء مختلفة، للمساندة. فاللامبالاة اللامحدودة للمسؤولين، وفق شهادات السكان، كانت تدفعهم إلى حافة اليأس، لكن اليقين بأن الأمل موجود، غمرهم بطاقة جديدة وجعلهم يرددون شعاراتهم مفادها أن "لا حياة مع التشرد، والتشرد يلغي الحياة"، و لأن "لا مكان يلجأون إليه، فهم عازمون على البقاء في دورهم، ماداموا لم ينصفوا بعد". حرمان مستمر كان من الممكن الملاحظة من مسافة بعيدة أن فضاء أمبيركو مكفهر، فقد عم المكان القنوط والضجر، بعدما قضى السكان ساعات في ترقب ما سيسفر عنه حكم الإفراغ، الذي توصلوا به، أخيرا، كان هناك شيء ما يحدث، والنساء الرجال والأطفال عاقدون العزم على التصدي لأي محاولة تخرجهم بالقوة من دورهم، هكذا أفصحوا بلهجة صارمة، فقد كانت ردة فعل السكان تتلخص في أن "الصمود هو عزاؤهم، بعدما لم تسنح لهم فرصة الحوار مع المعنيين بالأمر، للوقوف عند مكامن الخلل، في عدم تمكينهم من مساكن بديلة". لم يعد بعد الآن، تفادي سلبيات الإفراغ، يفيد السكان، لكنهم على الأقل قادرون على التعبير عن رفضهم للرحيل، كأنما لا أحقية لهم في التعويض، وهم من قضوا سنوات طويلة في أرض كان يرعى فيها الغنم والأبقار. التحديق في وجوه السكان، يعكس أن هؤلاء محرومون، فالحرمان من الراحة والسكينة، هو ما يهلك قواهم ويتعب قسماتهم، فلولا توالي حكم الإفراغ دون رحمة، ما كانوا لينزووا خارج "براريكهم"، إذ كانوا يعتقدون أن وجودهم ب"الكريان" قائم باستمرار، دونما محاولات لإخراجهم بالقوة. بمنتهى القهر والعصبية، تتحدث نساء أمبيركو عن تبعات أحكام الإفراغ، التي كلفت السكان ارتياد أبواب المستشفيات وعيادات الأطباء، حينما نخر المرض عافيتهم، وازدادت نفسيتهم اختناقا. حكايات إنسانية هزت السعدية غراب، أم لأربع بنات، رأسها بحركات أفقية قصيرة، رافعة كتفيها وحاجبيها، لتصف بصوت مليء بالعذاب، "كيف أنها تصرف كل ما تملك على اقتناء دواء مرض السكر، إذ تكلفها حقن الأنسولين مبلغا كبيرا بشكل يومي، فوضعها الصحي لا يحتمل التأجيل أو التهاون في تناول الأدوية، لتجد نفسها مكرهة على التأقلم مع حكم الإفراغ، بعد أن عمق أزمتها الصحية والنفسية"، وبينما هي تحاول الكشف عن حقيقة ما تتفوه به، أخذت علب الأدوية بين يديها لتبرز ل"المغربية"، نوعية الدواء وثمنه، الذي بمعزل عنه، لن تتمكن من العيش بشكل طبيعي، فالمرض مزمن، وازداد سوءا في ظل حكم الإفراغ". من جهتها، انتفضت عائشة هواري، وهي تذكر بأنها أم لثلاثة أبناء، تعد المعيلة الوحيدة لهم، بعدما توفي زوجها، واضطرها ذلك إلى العمل في البيوت كخادمة بين الفينة والأخرى، غير أن تصدع "براكتها" الآيلة إلى السقوط، لم يترك لها خيارا غير الخروج منها والمبيت عند الجيران رفقة أبنائها، درءا لمخاطر الموت تحت الركام. أما الغشوة الركيبي، فتختزل معاناتها في القول:إن "زوجي ضعيف البصر وابني مريضان ذهنيا، وواقعها المرير، خير شاهد على كلامها"، في حين تكشف الشعيبية نكيبي عن "استيائها من أن يتحول أبناؤها الستة إلى متشردين وهم ستة إخوة، بعد أن عاشوا معظم حياتهم في أمبيركو، مستبعدين أن تكون نهاية وجودهم بالحي، بسبب "جبروت الإفراغ". كما تؤكد الكبيرة أغدار، أن مرضها بالسكري، ومرض زوجها البالغ من العمر 60 سنة، إضافة إلى إعالة ثلاثة أبناء، هو واقع لا يحتمل، حتى ينضاف إليهم حكم إفراغ، لم يأخذ بعين الاعتبار الظروف المعيشية للسكان المعوزين. الرأي نفسه أكدته نعيمة الطهراني، حينما ذكرت أن "الله وحده يعلم حجم مأساتهم"، لتضيف الزوهرة صمام قائلة "ماعندنا ما نقدمو ولا نأخرو والله كبير". من جهتها، ساندت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، فرع الدارالبيضاء، سكان "كريان" أمبيركو، إذ شاركت السعدية ابويردات في الوقفة التي نظمها السكان، بتضامن من بعض سكان "الكريانات" المتضررين بدورهم من الإفراغ، وحسب إفادة ابويردات فإن "السكان المتبقين بأمبيركو هم أولئك الذين يفتقرون إلى الإمكانيات، قصد تغيير الوجهة والاستقرار في مسكن بديل، لهذا فهم يصرون على تعويضهم بدل تشريدهم، ماداموا التزموا لسنوات عدة بدفع تكاليف الكراء".