كيف تناول الدارسون الجانب الفقهي عند الفيلسوف أبي الوليد ابن رشد؟ وكيف طرحوا مسألة علاقة الفقه بالفلسفة؟ وما الآفاق التي يمكن لهذه الدراسات أن تفتحها؟ وما المساهمة التي نزعم تقديمها؟ وكيف تتمظهر مفاصلها في هذا البحث؟. أسئلة انطلق من خلالها مؤلف كتاب"الفقه والفلسفة في الخطاب الرشدي"، الذي صدر حديثا عن دار النشر المدار الإسلامي، ليخوض مغامرة علمية شاقة حول منزلة الخطاب الفقهي من الخطاب الفلسفي عند ابن رشد. حاول الكاتب إبراهيم بورشاشن الاستدلال أن ابن رشد يجمع بين رأسين، رأس فلسفي ورأس فقهي، من خلال صياغة فرضيتين أخضعهما للدرس والتحليل، فرضية تزعم أن لفعل التفلسف أصولا فقهية عند ابن رشد، وفرضية ثانية تزعم أن للخطاب الفقهي الرشدي تأثيرا في الممارسة الفلسفية الرشدية، كما حاول في تحليل شيق البرهنة على فرضيتين، أولهما أن شخصية ابن رشد الفلسفية سليلة أسرة فقهية تنهج الاجتهاد ونبذ التقليد، إذ أن جده وأباه فقيهان، متأثران بشخصية أبو حامد الغزالي ومختلف الكتب الفقهية، ما مهد لتداخل البعدين الفقهي والفلسفي في شخصيته، في حين يستدل في الفرضية الثانية على أن شخصية ابن رشد الفقهية كقاض تمارس تأثيرها على شخصيته الفلسفية، فضلا عن استئناسه بالمرجع الفقهي في قراءة النص الفلسفي. في كتابه، يؤكد بورشاشن "أن البحث لا يروم لَي عنق ابن رشد الفيلسوف ليصبح في فلسفته فقيها، كما لا يقصد لي عنق نصوصه الفقهية لتنسجم مع الدعاوى التي ساقها في كتابه، إنما قدم فرضيات ممكنة، انطلاقا من تصفحه لأجزاء من المتن الرشدي المتنوع، وأعد بذلك لأرضية يجب أن تتابع فوقها المناقشة. "إننا ننطلق من فرضية تتبنى القول بوحدة في شخصية ابن رشد وبوحدة في مشروعه العلمي". وقسم الكاتب والباحث بورشاشن كتابه إلى أقسام وأبواب، القسم الأول الموسوم ب"الأصول الفقهية لفعل التفلسف عند ابن رشد" للتأسيس لشخصية ابن رشد الفقهية والقول في جسر انتقالها إلى الفلسفة من خلال ثلاثة أبواب. الباب الأول، أسماه "أصول التفكير الفقهي عند ابن رشد"، وجعله فصلين، حيث حاول في الفصل الأول تتبع أصول التفكير الفقهي عند ابن رشد سواء بالرجوع إلى أسرته الصغيرة أو في البحث في زمرة الفقهاء الذين أخذ عنهم. ووقف في الفصل الثاني على البحث في الكتب الفقهية، التي اغترف ابن رشد من معينها، وساهمت في بناء كتابه الفريد في الخلاف العالي، وهي كتب شكل معظمها حدثا مهما في الساحة الثقافية الإسلامية، من خلال احتفائها بما هو كلي ونزوعها إلى تصحيح الوضع الفقهي في عصرها، كما تلمس بعض الدواعي التي حركت ابن رشد إلى كتابة نصه الفقهي "بداية المجتهد". أما الباب الثاني، والموسوم ب "الفقه وطيف الفلسفة"، فجعله فصلين، فصل أول أسماه "بداية المجتهد: كتاب في التأمل الفقهي" أفرده للنظر في "بداية المجتهد"، باعتباره كتابا في التأمل الفقهي، وأبرز فيه مظاهر هذا التأمل ليربطه في الأخير بالتأمل الفلسفي الرشدي. أما الفصل الثاني، فأسماه "تفاضل التصديقات بين الفقه والفلسفة" عالج فيه على الخصوص، مسألة طبيعة النظر الفقهي عند ابن رشد وحدوده. أما الباب الثالث، فأسماه "من الفقه إلى الفلسفة" وجعله فصلين، فصل أول، أسماه "ابن رشد الجد، جسر إلى الفلسفة"، وفصل ثاني أسماه "أبو حامد الغزالي، جسر إلى الفلسفة"، وخصص الفصلين معا للحديث عن الجسر، الذي يفترض أن ابن رشد جازه إلى الفلسفة، وافترض الكاتب أن هذا الجسر هو من بناء فقيه خالص وفقيه فيلسوف، الأول ابن رشد الجد، الذي خصص له الفصل الأول. أما القسم الثاني، فأفرده للحديث عن مكانة الفقه من العلوم الفلسفية عند ابن رشد، من أجل بيان حضور الفقه في بناء الخطاب الفلسفي الرشدي، وجعل هذا القسم ثلاثة أبواب. الباب الأول، فخصص لعلاقة الفقه بالسياسة عند ابن رشد، وعالجه من خلال "الضروري في السياسة" "وتلخيص الخطابة"، في فصلين، فصل أول مرتبط بالهاجس التربوي الرشدي في كتابه السياسي، وارتباط ذلك بهواجس ابن رشد الفقهية، وفصل ثاني قرأ فيه المنطق على أنه أداة سياسية في يد الحاكم يؤدب بها ويربي، ووسع المنطق ليدخل فيه أصول الفقه، باعتباره ضربا من المنطق. أما الباب الثاني فأسماه "مفهوم الجمع بين الفقه والفلسفة" وجعله فصلين، حيث خصص الفصل الأول للبحث في مفهوم "الجمع" عند الفقهاء ومدى توظيف ابن رشد لهذا المفهوم الفقهي في بناء خطابه الفلسفي في المنطق والطب وما بعد الطبيعة وأفرد الفصل الثاني للجمع في السياسة، حيث فصل القول في العلاقة التي أقامها ابن رشد في كتاب "الضروري في السياسة" بين أفلاطون وأرسطو وكيف جمع بينهما؟ الباب الثالث أفرده ل"منهجية الكتابة الرشدية"، حيث خصص الفصل الأول للتأسيس الفقهي والفلسفي للطريقة، التي كتب بها ابن رشد نصوصه الفقهية من أجل بيان أنها الطريقة نفسها، التي كتب بها كثيرا من نصوصه الفلسفية، وهو ما خصص له الفصل الثاني، حيث قدم عينة من النصوص الفقهية والفلسفية، التي كتبها ابن رشد لبيان أنها تخضع لمفاهيم محددة واحدة، مما يسهل دمج النص الفقهي الرشدي في متنه الفلسفي. اختار عبد المجيد الصغير مدخلا تقديميا للكتاب حول الحاجة إلى فهم جديد لابن رشد، داعيا إلى الاعتراف بميزة هذا الدراسة العلمية للمؤلف إبراهيم بورشاشن وإصراره على الخروج عن التقليد المعتاد في الدراسات الرشدية الحديثة والمعاصرة. تجدر الإشارة إلى أن دوافع هذا الجهد العلمي تعزى إلى رغبة بورشاشن في إعادة ابن رشد العربي المسلم إنسانيا إلى جسم الثقافة العربية الإسلامية، التي "نشأ فيها فقيها وترعرع فيها فيلسوفا وأبدع فيها بجهازه اللغوي الفقهي، انطلاقا مما توفر لديه من نصوص فقهية وفلسفية، فأنتج لنا، على هامش نصوص فلسفية وطبية عالمية، متنا فلسفيا ضخما لم يجد فيه المتمرس الغربي القديم، الذي كان له السبق في احتضان ابن رشد، أي رائحة فقهية أو يكاد، ولعل السبب في ذلك، كما قدمنا، أن الآخر، المحكوم لفترة بهواجس غير علمية، لم يعرف معرفة عربية داخلية المؤلفات المسماة "أصيلة" عند ابن رشد إلا في وقت متأخر جدا، في حين أن المتمرس الرشدي، أينما كان اليوم، "يشم" هذه الرائحة هنا وهناك، لعلها تهديه إلى كثير من أسرار الكتابة الفلسفية الرشدية، وإلى طبيعة الروح الفلسفية عند فيلسوف قرطبة".