مازال الكاتب والمفكر المغربي، محمد سبيلا، يواصل بحثه في إشكالات الحداثة والتحديث بالمغرب انطلاقا من أسئلة مجتمعية حارقة وقلقة، تكشف عن الكثير من الأعطاب والمعيقات، التي تحول دون وصول المغرب إلى المستويات الحداثية، التي يتوخاها. وعلى اعتبار أن مجموعة من المقالات، التي سبق نشرها أو شارك بها الباحث محمد سبيلا في مجموعة من اللقاءات الثقافية والفكرية حول مسألة التحديث بالمغرب، فإنه رأى ضرورة جمعها في كتيب حتى تعم الفائدة ونشرها، وهو ما تحقق له بنشر كتاب يحمل عنوان "في تحولات المجتمع المغربي"، الصادر في بحر هذه السنة عن "دار توبقال للنشر والتوزيع" بالدارالبيضاء، ضمن سلسلة المعرفة الفلسفية. وهو ما يقول عنه صاحب الكتاب في تقديمه له "كل المداخلات التي كانت متناثرة في الجرائد، والمجلات، وكتب الجيب الدورية، جرى تجميعها بين دفتي هذا الكتاب، وهي مداخلات تدور أولا، حول المغرب مجتمعا أو دولة أو فئات اجتماعية من خلال عدة مستويات سياسية واجتماعية وثقافية، ثانيا، أن الخيط الناظم لها، والإشكالية المحورية، التي تدور حولها هي إشكالية التحديث: تحديث الدولة أو التحديث السياسي، التحديث التقني، التحديث الاجتماعي والثقافي ( الهوية، المدرسة، القيم، الفلسفة، الفكر...). ثالثا، أنها ترصد عملية التحديث من وجهها الدينامي المتعلق بالتحولات ومفعولاتها، والصراع الضمني فيها بين التقليد والتحديث، مع الاهتمام بدور النخب في تكييف هذه التحولات. أملا في أن تساهم هذه التأملات في إثارة وتعميق التفكير في التحولات العميقة، التي يستهدفها مجتمعنا في مختلف مستوياته منذ انخراطه منذ مطلع القرن الماضي في دينامية الحداثة الكونية". ومن بين المقالات التي يضمها الكتاب نذكر: النخبة المغربية والمستحدثات التقنية بين منتصف القرن 19 والربع الأول من20، وفكرة الحرية في الفكر المغربي الحديث، والعنف بين الدولة والمجتمع، والفرانكفونية كشرط سياسي، وجدل مغربي حول الهوية، والإصلاح والتحديث، وهل المدرسة المغربية أداة لتأهيل التلميذ للقرن الواحد والعشرين؟ والنساء ومخاض الحداثة، وواقع الطفولة بالمغرب، والتحديث وتحولات القيم، والفلسفة وتحولات المجتمع المغربي، ومساهمة الفكر المغربي في بلورة الإشكاليات الفكرية الأساسية في الفكر العربي الحديث، والنخب السياسية والنخبة الثقافية في مغرب ما بعد الاستقلال، والتحولات الاجتماعية وتحولات القيم في المجتمع المغربي، ومكر التاريخ أن مكر البشر؟ وفي حديثه عن التحولات الاجتماعية وتحولات القيم التي عرفها المجتمع المغربي، رصد محمد سبيلا خمسة تحولات: التحول الكبير والأساسي، الذي شهده المجتمع المغربي، كما قال، هو التحول أو الطفرة الديموغرافية، إذ انتقل عدد سكان المغرب من خمسة ملايين نسمة في مطلع القرن الماضي، إلى حوالي 30 مليون نسمة في مطلع الألفية الثالثة، وهو تحول تكمن فيه كل التحولات الكيفية، التي سيكشف عنها التاريخ تدريجيا. التحول الكبير الثاني هو تغير التوازن بين البادية والمدينة لصالح هذه الأخيرة، وهو ما يدعى في المصطلح السوسيولوجي بالتحضر أو التمدن، وهو انتقال كمي في ظاهره، لكنه يختزن بدوره كل التحولات الكيفية في نمط العيش والعلاقة مع الغير، ومسألة السلطة والقانون والشغل المنظم، ومعنى ووتيرة الزمن الفردي والجماعي. التحول الثالث يخص بنية القرابة والعلاقة العائلية، التي طبعها تحول تدريجي بطيء نحو التناقص التدريجي لنسبة الخصوبة، التي انتقلت من معدل 4.47 سنة 1987 إلى 2.37 سنة 2006، إضافة إلى التقلص التدريجي للأسرة الموسعة، إذ أصبحت الأسرة الضيقة تشكل ابتداء من نهاية التسعينيات من القرن الماضي حوالي 60 في المائة. أما التحول الرابع فحدده سبيلا في التحول الكمي والنوعي في الوقت نفسه، وهو التعميم التدريجي للتمدرس، إذ انتقلت نسبة التمدرس من 17 في المائة غداة إعلان الاستقلال، إلى حوالي 46 في المائة في أواسط الستينيات من القرن الماضي، وإلى حوالي 94 في المائة سنة 2005، لكن رغم الجهود الجبارة التي بذلت من أجل تعميم التعليم، فإن النسبة العامة للتعليم في المغرب ظلت إلى حدود سنة 2006 هي 58.3 في المائة. التحول النوعي الحاسم الذي حدث في المغرب، كما رآه سبيلا، هو الذي يرتكز أساسا على المؤشر السابق، وهو دينامية التحول المعرفي والثقافي، أو ما أطلق عليه الباحث المغربي محمد الصغير جنجار "ارتفاع الرأسمال الثقافي" بشقيه: التعليمي والتثقيفي إنتاجا واستهلاكا، كما وكيفا. وخلص سبيلا إلى أنه رغم قوة هذه التحولات وامتدادها، فإنها همت، بالأساس، المراكز الحضرية الكبرى والمتوسطة، ولم تهم بالزخم نفسه ما سمي بالمغرب العميق أو بالمغرب غير النافع، إنها كما قال "تحولات انتقائية تفاوتية جغرافيا وبالتالي بشريا، سواء على المستوى الأفقي، على مستوى الامتداد الجغرافي، أو على المستوى العمودي، حيث إنها طالت الفئات الاجتماعية العليا والوسطى أكثر مما طالت الفئات الدنيا، وهو ما عمق ثنائية التحديث والتقليد".