على مدى ثلاثة أيام اجتمع عدد من الباحثين والمفكرين المغاربة في ندوة أقيمت بكلية الآداب بمكناس للنظر في الرصيد الفكري والثقافي للمفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا، وذلك تكريما لهذا المثقف الذي يعد من بين من أرسوا أسس الدرس الفلسفي بالمغرب الحديث. الندوة التي حملت موضوع «محمد سبيلا: مسار مفكر وأستاذ جيل» طرحت أسئلة عريضة على الفكر الفلسفي بالمغرب من خلال أعمال محمد سبيلا الذي ظل حاضرا في الفكر الفلسفي المغربي المعاصر لمدة تزيد عن أربعين سنة تدريسا وتأليفا ومطارحات. وقد برهنت أشغال الندوة على شخصية محمد سبيلا الفكرية تتسم بالغنى والتنوع. فقد خبر العمل السياسي بالموازاة مع نشاطه الفكري، وتحمل مسؤوليات حزبية في أوج المد اليساري بالمغرب. ولكن هذا لم يلهه عن دوره الأساس في أداء رسالته كأستاذ وباحث في الخطاب الفلسفي. ومن الطبيعي نظرا لاتساع الحيز الزمني الذي تغطيه تجربة سبيلا أن تتسم الأعمال التي أنتجتها بالتنوع من حيث الاهتمامات والاختلاف في المقاربات، وهو ما عكسته أعمال الندوة التي بلورت عدة مداخل للنظر في أعمال محمد سبيلا. ويفضي تتبع أعمال الندوة التي شارك فيها عدد كبير من المفكرين والباحثين المغاربة، ومنهم من حضر وافدا من جامعات أوربية، إلى أن أعمال محمد سبيلا وإن تنوعت وتفاوتت واختلفت في مقارباتها وتحليلاتها، إلا أنها تندرج في إطار مشروع فكري ما فتئ يتبلور على مر السنين، محوره الحداثة وسلاحه العقلانية. «الاتحاد الاشتراكي» تنشر، في حلقات، بعض المساهمات التي تفضل أصحابها بالموافقة على نشرها على صفحات الجريدة، والتي تعكس تنوع النشاط الفكري للدكتور سبيلا، وتعدد زوايا النظر التي يمكن قراءته من خلالها. كل مفاصل المشروع النهضوي العربي تتوقف على مدى توفر شرط أساسي هو ضرورة استيعاب أسس الثقافة الحديثة. ذلك لأنه بدون استيعاب الثقافة الحديثة ستجد الثقافة العربية نفسها غير قادرة على تمثّل منطق العالم الحديث وفهمه. لهذا كان أعسر بند في المشروع النهضوي العربي، هو بالضبط المشروع الثقافي. بيد أنّ اكتساب الثقافة الحديثة يتناقض في جوهره مع التقاليد والفهم السائد للتراث. هذا ما تجليه المواقف الأصولية الرافضة للحداثة. تحدي الأستاذ سبيلا لهذه المواقف الراديكالية يتمثّل في إبراز الطابع الحتمي لعملية التحديث، وأنّ الحداثة، شئنا أم أبينا، تشكّل «قدر هذا العصر». وبحكم ذلك فهي لا تترك للثقافات خيارات أخرى غير خيارات التحديث، إما أن تتعصرن وتتحدّث وبالتالي تتطور، وإما أن تموت وأن تنتهي. هذا يعني أنّ التفكير في موضوع الحداثة وإشكالية التحديث، لا ينفصل عن التفكير في ماهية وأسس التحولات الكبرى التي دخلها المجتمع المغربي مند انفتاحه على العالم الحديث، وذلك لأن الهم الأساسي وراء انشغاله بالحداثة، هو محاولة بلورة جواب على السؤال الأكبر الذي يطرح على هذه الأمة مند عدة قرون: وهو كيف يمكن أن نكسب الحداثة دون أن نخسر أنفسنا؟ تشخيص الأستاذ سبيلا لوضعية المجتمعات العربية الحالية، أظهر أنها مجتمعات تعيش مخاض الحداثة العسير، وأنّ الرهان الصعب الذي يتوقف على حله نجاح كلّ المشروع النهضوي العربي، يتمثّل في القدرة على حل المعادلة التاريخية التالية: مدى قدرة التراث على التكيف والتلاؤم مع معطيات الحداثة، ومدى قدرة الحداثة على أن تفك ارتباطها مع نزعة الهيمنة لديها وأن لا تبقي سوى على مشروعها التحرري والتقدمي. وإذا كانت هذه المعادلة تشكّل رهانا صعبا، فلأنّ الأمة العربية- في نظره- ممزقة بين ثقافتين متعارضتين بل ومتصارعتين: ثقافة تقليدية تتمسّك بخصائصها وبنظرتها للعالم وتزوّد أفرادها بمقوّمات وعناصر المقاومة، وثقافة حديثة تمارس مهمة التفكيك والتذويب والإلحاق للثقافات الأخرى. من هنا يتضح لنا الطابع الأزمي، بل التراجيدي لإشكالية التحديث في مجتمعاتنا العربية، ومن هنا الأهمية القصوى التي تكتسيها عملية تشخيص أعراض أزمة التحديث عندنا بهدف فهم مختلف ردود أفعالها، ومحاولة اجتراح بعض الحلول التي من شأنها أن تقلّص من سلبيات إكراهات التحديث، وتخفف من آلام جراحه، وتليّن شروخاته في الوجدان. هنا نقف على وجه أساسي من وجوه الاستراتيجية التحديثية التي ينهجها الأستاذ سبيلا في كتابته الفلسفية، وهو الوجه المتعلق بالكيفية التي يوظف بها مفهومي الحداثة ومابعد الحداثة. نستنتج إذن أنّ الأستاذ سبيلا يستعمل مفهومي الحداثة ومابعد الحداثة كآليتين استراتيجيتين لتليين المواقف المتناقضة، وللتخفيف من حدّة الصراع الدائر في مجتمعنا بين قوى التقليد وقوى الحداثة. كما نستنتج أن سيرورة الاختيار التحديثي اختيار استراتيجي متلازم عنده مع السيرورة العسيرة لمخاض الحداثة في مجتمعاتنا، ومع تطور وتبلور النقاش الفكري العميق والهادئ حول قضايا التحديث، وانعكاس ذلك النقاش على مستوى الوعي الفلسفي واتخاذه صورة حاجة مجتمعية وضرورة تاريخية وحضارية يجب إنجازها. أما فيما يتعلق بآليات هذه الاستراتيجية التحديثية ورهاناتها، فيمكن القول بأنها تتأسس على تشخيص عميق لوضعية المجتمعات العربية والإسلامية، وهو تشخيص أفضى إلى الإقرار بأن تلك المجتمعات في حاجة إلى التجديد من الخارج بعد أن باءت بالفشل محاولات التجديد من الداخل. هنا أفتح قوسا لكي أوضّح أنّ الأمر لا يتعلق هنا، مع الأستاذ سبيلا، بالدعوة إلى إحداث القطيعة النهائية مع التراث والماضي والدعوة إلى التبنّي الكلّي والشامل لقيم الحداثة الغربية ومفاهيمها ومؤسساتها على غرار موقف الأستاذ العروي. وما ذلك إلا لأنّ أي تحديث-في نظره- لا يكون كذلك إلا إذا تمت تبيئته وتحيينه من الداخل. لكن بالمقابل لا يتعلق الأمر بالمصالحة بين التراث والحداثة وجعل التحديث مسألة داخلية محايثة للتراث على غرار موقف الأستاذ الجابري. إنّ التحديث لا يمر عبر القطيعة ولا عبر استنبات مفاهيم الحداثة داخل التراث. لأنّ آليات الحداثة والتحديث-هي في نظر أستاذنا- آليات معقدة، فهي في نفس الوقت قطيعة واستمرارية، قطيعة مع التصورات البالية المرتبطة بصورة العالم في الوعي والثقافة التقليديين؛ لكنها بنفس الوقت استمرار وتطوير ووصل مع بعض عناصر الحياة في التقاليد والتراث. إنّ هذه الفرادة والأصالة التي تسم موقف الأستاذ سبيلا من إشكالية التقليد والتحديث لها ارتباط أيضا بخصوصية منهجه التعددي في مقاربة الإشكالية، وهو في أحد مظاهره منهج فينومينولوجي متحرر من النزعة المركزية للفكر الغربي وللثقافة الإسلامية، يتجاوز التفسير إلى مستوى الفهم. وهذا يعني أنه بدلا من أن ينظر إلى مسألة الحداثة، والأصولية الدينية، من منظور خارجي براني، ينظر إليها من منظور مقاصد الفاعل الواعية واللاواعية، و يسعى إلى تفهّم أسباب وظروف ومناخ نشأتها وبنية فكرها. هنا يتقمّص الأستاذ سبيلا دور طبيب الحضارة- متجاوزا بذلك حدود أفق الثقافة المغربية الحديثة والمعاصرة التي لم تهيئ الفيلسوف للقيام بهذا الدور- فيقوم أوّلا بتشخيص أعراض المرض المزمن الذي يعاني منه المجتمع التقليدي والذي استفحل أمره مع الاصطدام بالحداثة الغربية.